ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

محمود حسن إسماعيل في ذكراه الثلاثين
فاروق شوشة - مصر


عندما أبدع الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل قصيدته سواقي أبريل لا أظن أنه كان يدور بخلده أو بخلد أحد من قرائه أنه يتنبأ ـ علي عادة الشعراءـ بأن رحيله سيكون في شهر أبريل‏.‏ لكني‏,‏ وأنا أعيد قراءته بعد رحيله ـ توقفت عند أبياته‏:‏

أبريل دير العاشقين من قديم الزمن

سمعته يتلو المزامير فهل يسمعني

دب الهوي في بدني فهل نزعت كفني؟

مدركا أن بعض الشعراء‏,‏ بما يمتلكونه من استشعار كوني وحس استثنائي يوهبون ـ كالطير ـ معرفة اتجاه الريح‏,‏ واستشفاف وقوع المصائر‏.‏ وعندما صدقت النبوءة ورحل محمود حسن إسماعيل ـ في مثل هذا الأسبوع من عام‏1977,‏ غريبا في الكويت‏,‏ بعيدا عن الوطن وصحبة الأهل والأصدقاء‏,‏ مضطرا الي أن يعمل ـ بعد إحالته الي المعاش دون أدني صورة من صور التكريم التي ينالها من لا يصلون الي عشر معشار قدره ـ خبيرا في إدارة بحوث المناهج في وزارة التربية الكويتية‏,‏ يراجع النصوص المدرسية المقررة‏,‏ ويبدي رأيه فيها‏,‏ ويقترح إضافة ما يراه‏,‏ ويمارس مهنة الرق من جديد‏,‏ والرق هو المصطلح الذي كان يطلق علي الوظيفة‏,‏ بما تتضمنه من خضوع وطاعة وتنازلات‏.‏

ولعله كان في إطلالته الأخيرة علي الوطن‏,‏ في إجازاته الصيفية من العمل في الكويت‏,‏ كان يقترب من البوح الممتزج بالشكوي وهو يتساءل في وقت كان صديقه يوسف السباعي رئيسا لمجلس إدارة الأهرام‏:‏ ألا يستحق مثلي أن يضاف الي كوكبة العاملين في الأهرام من كبار المفكرين والأدباء؟ ألا ينقص هذه الكوكبة شاعر كبير‏,‏ يكون الأهرام منبرا لشاعريته‏,‏ وتكون شاعريته وساما علي صدر الأهرام؟ أليس مؤسفا أن يضطر مثلي في هذه السن المتقدمة‏,‏ الي العمل بعيدا عن الوطن‏,‏ للوفاء باحتياجات الأسرة والأبناء ومطالبهم‏,‏ والمعاش الذي أتقاضاه من الدولة قروش معدودة؟

هذه النهاية لا تتفق ـ في أية صورة من صور الخيال ـ مع البداية الساطعة لمحمود حسن إسماعيل في سماء الشعر العربي‏,‏ المتمثلة في صدور ديوانه الأول أغاني الكوخ في مستهل عام‏1933,‏ للمرة الأولي في تاريخ الشعر يصبح الكوخ ـ وليس القصر ـ عنوانا لديوان شعري‏,‏ رامزا الي اختلاف التوجه‏,‏ وتغيير مسار الانتماء والدعوة الحارة الي أفق شعري مغاير‏,‏ يكون محوره الأرض والفلاح والقرية والمحراث والشادوف والنورج والساقية والغراب‏(‏ راهب النخيل‏)‏ وصميم الحياة اليومية الواقعية‏,‏ الغارقة في شظف العيش والمعاناة الطاحنة‏,‏ في قلب صعيد مصر‏.‏ هذا التوجه الشعري الجديد جاء مكتسبا عالمه الشعري الكامل من اللغة والصور والمعجم الشعري وبناء القصيدة والموسيقي الشعرية‏,‏ هذا العالم الذي جرف في طريقه كثيرا من صور الشعر الزائف‏,‏ وأحدث رجته العنيفة في وجدان فوزي العنتيل صاحب ديوان عبير الأرض‏,‏ الذي وجد الأرض ممهدة للغته الشعرية وعناقه الحميم لقريته في صعيد مصر بدوره وكان الفضل لمحمود حسن إسماعيل في ريادة الاتجاه الذي نفذت رجته الي وجدان محمد عفيفي مطر وأبهاء عالمه الشعري لغة وصورا وظلالا وتجليات ورقي شعرية وزمزمات وهينمات‏,‏ وقد تحدث هو باستفاضة ـ لم يلتفت إليها بكل أسف بعض نقاد الشعر الذين لا علاقة لهم بفن الشعر ـ سواء في سيرته البديعة أوائل زيارات الدهشة أو كتاباته الأخري عن التأثير الجارف لشعر محمود حسن إسماعيل فيه وفي سنواته الباكرة مع الشعر‏.‏

وعلي مدار عقود من الزمان كان الفرسان الثلاثة‏:‏ إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل هم مدار الكلام بين النقاد والدارسين‏,‏ قبل أن تتفجر قصيدة الشعر الجديد‏,‏ قاذفة بأسماء شعرية بدأت تتسع لها الساحة الشعرية بالتدريج‏.‏ وكنت أتابع عن كثب حماس أنور المعداوي لشعر علي محمود طه‏,‏ واهتمام الدكتور عبد القادر القط بشعر ناجي‏,‏ والتفات محمد مندور الي شعر محمود حسن إسماعيل وتسميته له بوحش الشعر‏,‏ ومن قبل مندور كانت هناك شهادات البياتي ونازك الملائكة والسياب عن شعره‏.‏ ثم تغير المناخ الشعري وتغيرت الأذواق‏,‏ وإذا بالدكتور عبد القادر القط يفاجئنا ـ وهو مقرر للجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة ـ في واحد من احتفالاتنا بذكري محمود حسن إسماعيل‏,‏ أنه آن أوان القول إنه أشعر الثلاثة‏,‏ وأن ما يتبقي من شعره للتاريخ والذاكرة الشعرية يفوق بكثير شعر ناجي وعلي محمود طه‏,‏ وأن اكتشافاته واقتحاماته والمجالات الشعرية التي حلق في فضائها عاطفيا وإنسانيا وكونيا تفوق في أصالتها وجرأتها وتأثيرها نظائرها عند رفيقيه‏,‏ وأن لغته الشعرية ـ بصفة خاصة ـ ستبقي شاهدا ودليلا موحيا علي عظمة التفرد وسطوع التمايز وتحقق الهوية والشعرية‏,‏ وأنه شاعر كوني بقدر ما هو شاعر إنساني النزعة‏,‏ لم تشغله ذات نرجسية‏,‏ أو اهتمامات صالونية عابرة‏,‏ أو وقوع علي فتات ما يمتليء به المجتمع من إغراءات ومباذل فكانت عصمته لشعره من وهم التجارب والمواقف الصغري صدي لعصمته لنفسه ووجدانه وحياته‏,‏ من التدني أو التهالك أو مسايرة كل ما يبرق وليس في حقيقته ذهبا‏!‏

في الذكري الثلاثين لمحمود حسن إسماعيل‏,‏نتذكر الشعر الحقيقي‏,‏ والشاعر الحقيقي صاحب الدور‏,‏ ونتذكر الشاعر الاستثنائي الذي لم ينخرط في السياق العام‏,‏ ولم يضع تمايزه في المعادن الخسيسة من الكلام‏,‏ ولا في التسكع أمام أبواب الرغام‏.

 

(نقلاً عن الأهرام)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا