![]() |
شعر مترجم |
انطلاقا من التعاريف
الجديدة للشعر ومفهومه ، والتمييز بين ما هو شعر وما هو ليس بشعر ، لا من اعتبارات
اللعبة اللغوية ، ولا من مفهوم المقابلة ، من ان ما ليس هو شعرا ، إنما هو نثر .
ولكن من اعتبارات شعرية الشعر ، أو شعرية القول ، وإمكانياته في تحقيق كماله
(الشعري) ، وفق المعايير الجديدة للشعر ، وما تحققه بكونها نظاما ، يشكل العلاقات
الخارجية والداخلية للنص ، وبما يضمن له ان يؤسس لنفسه في ان يكون شعرا لا غير .
لقد كانت النظرة
التقليدية التي تميز بين الشعر والنثر تقوم على اعتبارات الوزن ، أو الوزن والقافية
كحد فاصل بينهما . وكان هناك من يرى ، واعتبارا من التعريف القديم للشعر على انه
كلام موزون ومقفى ،فان هذين الاعتبارين كافيان للتفريق بينهما ، في حين نظر القسم
الآخر من النقاد إلى ان هذا الحد لازم ، لكنه غير كافٍ ، فاشترط في الشعر توافر
عناصر أخرى ، إضافة إلى الوزن والقافية( ولما كانت اللغة ، فعلا يتوازى مع حركية الحياة الإنسانية ، فيمارس الإنسان فعله في اللغة ، فان اللغة بوجودها الحي ، هي "فعل يحيل إلى الواقع ، ويعرف بكونه يمارس على ارضه" ، لذا ، يمكن ان تصبح اللغة مشاعا إنسانيا لاحتمالات التغيير ، والانبعاث ، والانبجاس من حيويتها ، لتجاوز أي فعل مكرر ، أو مسعى مبتدل ، أو نمط سائد معزول عن القيم المتغيرة والمتجددة في الحياة . ولعل هذا ما يجعل ان كثيراً من الأفعال تبدو وكأنها "فعل مشوه ، لا تسمح ممارسته أن يكون ذا فعاليةٍ تذكر ، قياساً بالأفعال المتكاملة التي تتعلق بالإنسان والتي هي ذات مساس مباشر بهيئته التي يوصف بها تحركه".([2])
وهكذا بدأت المحاولات
الجادة لتجاوز النمطية السائدة لا في كتابة الشعر ، وحسب ، ولكن في استخدامات اللغة
نفسها ، باعتبارها أداة ووسيلة لكل العناصر المكونة للنص ان ما تقدم كان تأسيسا لإنطلاق أدب جديد ، يتحرر من كل القيود التي لازمته طوال قرون عديدة ، كان تأسيسا لشعر جديد ، ونثر جديد ، لهما القدرة على الاستجابة لأية فعالية جديدة ، شعرية كانت أو نثرية ، بحيث لا تنحصر هذه الاستجابة في وظيفة حياتية معينة ، أو مقيدة ، أو محدودة ، الأمر الذي يجعل هذا التأسيس حركة هامشية ليس لها دور . وانما ما يستوجب في هذه الاستجابة ، ان تكون طريقا في الكشف عن كل بنية من بنيات النص ، وان يبقى النص معها قابلا للتفاعل ، والنمو المستمر ليحقق وجوده وفعله في الحياة . لذا ، كانت الرغبة في تأسيس أدب جديد ، واظهاره بمظاهر جديدة متوافقة مع روح العصر ، والتقدم الحاصل فيه ، تقوم على الفهم الحي للنمط الكتابي ، ايا كان نوعه ، وهدفه ووظيفته ، ولما كان ادونيس يرى الشعر على "انه رؤيا ، والرؤيا ، بطبيعتها قفزة خارج المفاهيم القائمة . هي اذن تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر اليها" ، على المستوى العلائقي في الشعر منه ، خارج مفاهيم التركيب ، أو الصيغ التقليدية المؤسسة . لذا ، يبدو الشعر بهذا الوصف عند ادونيس . "تمردا على الاشكال والطرق الشعرية القديمة ، ورفضا لمواقفه وأساليبه التي استنفدت أغراضها"([4]) . فغلقت على الشعر ابوابه في تشكيل العلاقة بين الذات والموضوع ، وبين الذات والوجود ، تلك العلاقة التي يبحث عنها الشعر الجديد . ولقد كانت قصيدة النثر أنموذجا حيا لهذا التمرد على الأشكال والطرق الشعرية التقليدية ، ومع محاولات كثيرة قد جرت قبل بزوغ فجر قصيدة النثر ، تمثلت بالشعر الحر القائم على التفعيلة ، وقبله قصيدة البند ، ومن ثم الشعر المنثور ، الا ان قصيدة النثر كانت تكملة للثورة الشعرية التي أحدثتها قصيدة الشعر الحر والشعر المنثور في الساحة الثقافية العربية ، مع اختلافات النمط والمغايرة في الوزن وطريقة الكتابة . لقد سعى ادونيس إلى تشكيل هذا الأنموذج – قصيدة النثر – عن طريق الانقلاب الذي يصفه في اكثر من مكان (بالثوري) ، من اجل ان يكون صياغة جديدة ، تعتبر في كل معطياتها منحى جديد ، وتمردا على النمطية السائدة في الشعر التقليدي ، والتي تعتبر ان صياغة التعريف القديم للشعر ، انما هي "عبارة تشوه الشعر . فهي العلاقة والشاهد على المحدودية والانغلاق . وهي إلى ذلك – (أي التعريف القديم للشعر) – حكم عقلي منطقي"([5]) ، يقوم على ثوابت لا تسمح بالتغيير ، أو التحول عنها . ان الانقلاب (الثوري) الذي ركز عليه ادونيس ، ينطلق من فكرة ، ترى "الشعر كشفا ورؤيا ، غير منطقي ، لذا ، فهو يعلو على الشروط الشكلية للشعر التقليدي ، وهذا ما يدعو الي مزيد من الحرية ، التي تجعل الشكل يمحي امام أي قصد أو هدف ، من اجل البحث في وظيفة الممارسة الشعرية التي تعتبر طاقة ارتياد وكشف تتجاوز في قدرتها الاشكال المؤسسة"([6]) . حين ارتبط الشكل فيها بالوزن ، في الوقت الذي لا نرى أي علاقة حقيقية ، أو جوهرية ، تجمع بينهما ، باعتبار ان الوزن هو مجرد قالب ثابت في أي قصيدة ، أو شعر . بينما الشكل متغير لا بتغير الوزن ، وانما بتغير الحالة الشعرية لدى الشاعر ، وقدرته على الخلق والإبداع . ومن هذا المفهوم كانت الحاجة ملحة للبحث عن شعر جديد ، خارج النمطية المألوفة ، لا في البيت الشعري التقليدي المؤسس ، ولا في نمط الشعر المنثور ، ولكن البحث عن ممارسة شعرية جديدة ، تفتح للشاعر مجالا لانبعاث طاقته الكامنة في القول الشعري ذاته ، تنطلق من اعتبارات أساسية في طريقة استخدام اللغة كمقياس أساسي في التمييز بين الشعر والنثر ، طريقة يمكن من خلالها ان يحيد الشاعر باللغة عن معايير طريقة استخدامها العادي ، ان كان في التعبير أو في الدلالة ، بحيث يبدو وكأن الشاعر يضيف للغة طاقات اخرى تمكنها من الإثارة ، والمفاجأة ، والدهشة ، وليصبح فيما يكتبه ، أو يقوله شعرا خارج المفهوم السابق المتعارف عليه في الشعر ، ويصبح كل ما يقوله يشكل في قوامه ظاهرة تخضع لها اللغة وقواعدها([7]) . لقد بدا هذا التأسيس لمفهوم جديد للشعر عند ادونيس واضحا منذ البدايات الاولى في كتاباته ، وتنظيراته ، حين نشر في مجلة شعر ، صيف عام 1959 دراسته المشهورة "محاولة في تعريف الشعر الحديث" ، والتي يمكن ان نعتبرها ملمحا اوليا في تشكيل قصيدة النثر ، إذا ما قورنت مضامين هذه الدراسة مع مطروحات سوزان بيرنار في كتابها الذي يحمل عنوان "قصيدة النثر من بودلير إلى ايامنا" ، فضلا عما كتبه في ذلك الوقت عن قصيدة النثر بالذات ، مبشرا بها .
لقد ظهرت قصيدة النثر
نتيجة لعوامل كثيرة ، كانت مشجعة لها ، وهي عوامل مباشرة وغير مباشرة . فقد ذهبت
بعض الآراء إلى مديات تأثير التراث العربي ان هذا الأسلوب لم يكن اغترابا ، ولم يكن تعبيرا عن العجز الحياتي الصوفي مع الآخرين ، وانما كان انعكاسا حقيقيا لكمال التجربة الصوفية ، وصفائها ، وتفائلها ، وتعبيرا عن خواصها الذاتية ، في الوقت الذي بدت فيه هذه التجربة لدى الشعراء اكثر موضوعية([8]) . باعتبار ما تتماثل به تجربة الصوفي ، وتجربة الشاعر الحديث ، وموقفهما من العالم ، وبما يمثل هذا الشعر في صيرورته الحياتية التي هي في اقل وصف لها "هي وحدة انصهار اصيل" يطمح الشاعر من خلالها ان ينقل عبر شعره "شعورا أو تجربة أو رؤيا"([9]) ، كما يسعى لان يكون شعره نبوة ورؤيا للخلق والإبداع ، وتفجيراً للعوالم المغلقة ، وفتحها لتخطي الواقع ، وتغيير نظام الأشياء ، ونظام علاقاتها ، وذلك عندما يكون الشعر خرقا للعادة ، على حد التعبير الصوفي لابن عربي ، باعتبار ما يمتلك من قدرة على تغيير النظر إلى العالم([10]) . لكن هذه المواصفات ، وهذه اللقاءات بين قصيدة النثر (كتابة) ظهرت في الثقافة العربية في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وبين الكتابات الصوفية ، أو الشعر الصوفي لا يعني انها قصيدة عربية بالمعنى الدقيق ، فقد صرح ادونيس ولاكثر من مرة بان اصل هذه القصيدة يرجع إلى الأدب الغربي ، وان البدايات الأولى لتكوينه النظري عنها ، لم تشر إلى المكون الصوفي في هذه القصيدة ، باعتباره مرجعا في طريقة الكتابة ، أو حتى في التسمية ، وانما ما ذهب اليه ادونيس ، ولا يزال يؤكد عليه ، بأن قصيدة النثر هي "تسمية مرتبطة ، على نحو مباشر ، بشكل من الكتابة الشعرية ، فرنسي تحديدا ، ولهذا الشكل نموذج اولي بدأه الشاعر لويس برتراند (1807 - 1841) … وترك مجموعة باسم "غاسبار الليل" وهو شكل تبناه ، فيما بعد ، بودلير (1821 - 1876) … وتبعه آخرون كثيرون"([11]) .
ان هذه الإشارة
الادونيسية كانت دليلا على التواصل الثقافي العربي مع الغرب ، بالقدر الذي يقرره
ادونيس في (غربية) قصيدة النثر ، وذلك لاننا لا يمكن ان نتوافق في تقبل هذا النموذج
، لو لم يكن له اصل ، أو جذور متماثلة مع الإبداع العربي ، ومع الذائقة
ثمة عوامل رئيسة كانت
ممهدة لظهور قصيدة النثر في الواقع الثقافي العربي ، ذكرها ادونيس في دراسته لقصيدة
النثر ، تبعا لتحليل واقع الثقافة العربية السائدة ، ومحاولات انبعاث ثقافة عربية
جديدة ، تتواصل فيها مع الثقافة العالمية ، وباعتبار ان الثقافة العربية السائدة ان
هي الا ثقافة تستهلك نفسها بالاجترار والتكرار ، من التاريخ العربي وتراثه الماضي ،
وذاكرته الثقافية فلم تستطع هذه الثقافة العربية ان تواكب مراحل التطور الثقافي
الغربي ، ولم تستطع ان تمثل ولو إلى حد ما موقعها الإنساني ، وقد تلخصت هذه 1- انعتاق اللغة العربية وتحررها . 2- ضعف الشعر التقليدي الموزون وانحطاطه . 3- التحرر من وحدة البيت والقافية ونظام التفعيلة الخليلي، وقد زاد هذا في تقريب الشعر من النثر . 4- نمو الروح الحديثة التي ترفض القواعد الصارمة النهائية والأشكال المسبقة . 5- اثر التوراة والتراث الأدبي القديم في مصر وبلدان ما كان يسميها انطوان سعادة "بالهلال الخصيب" . 6- اثر ترجمة الشعر الغربي على الثقافة العربية الحديثة . 7- ارتفاع مستوى النثر الشعري ، وهو من حيث الناحية الشكلية ، يمثل الدرجة الاخيرة في السلم الذي أوصل الشعراء العرب إلى قصيدة النثر([13]) . ان هذه العوامل قد نجدها محررة بذات المعنى في كتاب سوزان بيرنار ، ولربما كان بعضها محصورا بين جماليات قصيدة النثر ، والمبدأ المزدوج لهذه القصيدة ، فقد ولدت هذه القصيدة "من رغبة في التحرر والانعتاق ، ومن التمرد على التقاليد المسماة "شعرية" وعروضية ، وعلى تقاليد اللغة ، وكان المطلوب انذاك فصل "الشعر" عن "فن نظم الشعر" ؛ وقد تم البحث في النثر عن عناصر شعر جديد تنسيق([14]) . لقد وجد الشعراء المجددون في قصيدة النثر التي أطلق تسميتها وتنظيراتها ادونيس ، نقلا عن سوزان بيرنار مجالا رحبا لتحقيق طموحاتهم الفكرية والنفسية ، بعد ان كانت القصيدة التقليدية تمثل سجنا لهم في قالبية الوزن والقافية ، والنماذج المسبقة التي كانت تقيد حريته ، لا في طريقة التعبير ، وحسب ، ولكن في الفعالية التي كان يريد الشاعر الحداثي ان يمارسها ، من خلال الممارسة الوظيفية للشعر نفسه . لذا ، كانت "القصيدة النثرية تحمل دائما طموحات الفنان في التجديد والتغيير والتعبير وتساعده على كشف المجهول والعبور إلى المستقبل ، وتجعل الإنسان في مواجهة مباشرة مع التجربة واللغة وتضعه في موضوع حرج ، اما ان يكون شاعرا أو لا يكون"([15]) . ولعل هذا الأمر ، أدى إلى ان يكثر السجال حول قصيدة النثر ، والاختلاف في كونها تمثل شعرا ام لا ، كما وقع الخلط في مصطلح هذه القصيدة ، ومفهومها . وقد رأى بعض الدارسين ان سبب هذا الخلط يعود إلى أمرين :
الأول : عد بعض
الإبداعات الشعرية التي سبقت قصيدة النثر في الثاني- وجود تيارين للكتابة غير الموزونة ، تيار يتمثل بكتاب قصيدة النثر ، ومن رواده ادونيس وانسي الحاج شوفي ابي شقرا . وتيار اخر يتمثل بكتاب الشعر الحر الخالي من الوزن والقافية (Free Verse) وكان من ابرز رواده محمد الماغوط ، وتوفيق الصائغ ، وجبرا ابراهيم جبرا .
وقد عد المتأثرون برواد
هذين التيارين ، ان هذين التيارين هما تيار واحد ، أطلقوا عليه "قصيدة النثر" ، وهو
مصطلح اطلق على كل مادة غير موزونة ، ولكنها تدعي ان عدم وضوح مفهوم قصيدة النثر ، لم يقتصر على قراء الادب ونقاده من خارج التجمع الذي نادى بها ، ونعني بذلك تجمع شعر . فقد كان عدم وضوح المفهوم سائدا داخل هذا التجمع نفسه ، مما اثار جدلا كبيرا في بدايات عام 1958 م ، شارك فيه اعضاء التجمع ، حول كتابات محمد الماغوط ، فتوزعت الأحكام بين من قال بأن كتاباته ما هي الا نثر جميل أو عطاء جميل أو نثر رائع ، لكنه ما لبث ان حسم هذا الجدل في فترة تالية لعام 1960 ، حين لاحظ الشعراء والنقاد في ندوة "خميس شعر" ان قصيدة النثر تختلف عن النثر الشعري ، والنثر الفني وكذلك عن الشعر المنثور([17]) .
ولربما ، نتلمس عدم
وضوح المفهوم ، بالشكل الذي يوحي بالقناعة التامة ، وبما توصلوا اليه ، واستقرارهم
على ان قصيدة النثر تمثل شعرا ، بكل ما تحتويه شكلا ومضمونا وايقاعا من خلال
المساجلات والطروحات التي اتسمت بالمقارنة حينا ، والتناقض حينا اخر ،
فادونيس الذي يدعي بأنه أول من أسس لهذا النمط الكتابي ، وبشر به ، نراه في عام
1960 م يقول : "ان كلمة "قصيدة نثرية" ليست سوى اصطلاح أريد التعبير به عن نوع من
الأدب ليس هو بالنثر العادي كما انه ليس بالشعر ، بل هو في قالب نثري وروح شعرية ،
فكانت من هنا تسمية "قصيدة نثرية" . ولكن هذا لا يمكن ان يعني ان القصيدة النثرية
هي وهذا ، بدءاً ، ما يؤكد بنفي قصيدة النثر عن توصيفها في قصيدة شعرية ، أو انتماءها إلى الشعر ، كما يؤكد في ذات الوقت انها قصيدة ذات توصيف نثري ، يتميز عن النثر العادي ، في كونه لا ينفي عن هذه القصيدة الشعرية ، التي يمكن ان يتميز بها كل من الشعر والنثر ، مع احتفاظ كل منهما بخواصه الكامنة والواصفة فيه . ولكن السؤال الذي يثير الجدل من خلال هذا التوصيف الادونيسي ، ان قصيدة النثر ان لم تكن شعرا ، ولم تكن نثرا عاديا ، فماذا تسمى ضمن القالب النثري الخاص بها ، وملازمتها للروح الشعرية .. ؟ ان التوصيف الادونيسي لم يمنح (قصيدة النثر) وصفا دقيقا ، كافيا ، لتكون في استقلاليتها عن الشعر والنثر جنسا قائما بحد ذاته ، مع ان الذي يكتب هذه القصيدة يلازمه وصف الشاعر ، فكيف يسمى بالوصف من لا يكتب شيئا اسمه الشعر … ! واذا كان ادونيس يصف قصيدة النثر بانها "نوع من الأدب ليس هو بالنثر العادي" ، فكذلك هو الشعر وبمفهوم الشعر الحديث ، ليس هو الكلام الموزون المقفى ، والا كان شعرا عاديا ، لا يحمل من معناه الا اسمه .. ! ولعل هذه الفكرة دفعت ر. دوكورمون للقول بأنه "لا يوجد في الاصل الا نوع واحد هو القصيدة ، وربما صيغة واحدة هي الشعر ، لان النثر الجميل يجب ان يمتلك ايقاعا يحمل على التشكيك فيما إذا لم يكن غير النثر"([19]) ، ولعل هذا ما دفع بيرنار للقول بأن دوكورمون "كان يعطي لكلمة "قصيدة" بعد اكثر عمومية وشمولا ، ومعنى اقل حاجة إلى الدقة والحصر . واذا ما دفعنا هذه الفكرة إلى ابعد الحدود يكون بمقدورنا ان نرى الشعر في كل مكان (عدا الإعلانات والصفحة الرابعة من الصحف على حد تعبير مالا رميه) ، وان نرى قصيدة شويه في كل مؤلف جيد الكتابة"([20]) . وهذا ما يحوي ، لبعض كتاب قصيدة النثر ، بأن التوصيف الادونيسي قد اوقع قصيدة النثر في ازدواجية الشعر والنثر على حد سواء ، فاصبح كل ما يكتب من نثر جميل ، يحسب البعض انه من قبيل قصيدة النثر ، بما تحمل من شعرية النثر لا من روح الشعر .
بيد ان ادونيس عندما
اراد ان يفرق بين النثر الشعري وقصيدة النثر ، بنى تفريقه على اساس ان النثر الشعري
شيء وقصيدة النثر شيء اخر ، فيرى ان ما يميز قصيدة النثر عن النثر الشعري ، تمتعها
بصفات خاصة ، أهمها : "الشكل المركز ، الإطار المحدود
ان هذا التفريق قد منح
قصيدة النثر وصفا دقيقا ، وشروطا لما يجب ان تكون عليه هذه القصيدة ، وكما عرفها أي
. جالو (F. Jaloux)
بانها "قطعة نثر موجزة من غير ومع ان ادونيس قد وضع حدود كل نوع ، الا ان وصفه هذا لا يوحي بالحدود الفاصلة ، والمتميزة ، بين قصيدة النثر والنثر الشعري ، وانما هو وصف عام لكلا النوعين ، لا يمنع احدهما ان يكون بديلا عن الآخر الا في حدود سطحية ، بل ان الوصف الادونيسي ، لربما ، يقترب إلى حد ما ، من وصف خصائص الشعر الحر ، وبمفهومه الغربي، ووفق الآلية التي ارتكز عليها ادونيس . لذا ، فان "اول ما يواجهه من يتصدى لدراسة قصيدة النثر Prosepoem في العربية هو ضبابية الخطوط الفاصلة بينها وبين الشعر المنثور Prosepoetry أو الشعر الحر Free Verse " . ويعزو على بعض العلامة سبب هذه الإشكالية ، أو هذا التشويش في عدم وضوح الحدود الفاصلة بين هذه الأنواع ، "إلى تباين المصادر الثقافية لقصيدة النثر أو الشعر المنثور من جهة ، والى تداخل النماذج الشعرية وضياع التمايز بينها من جهة اخرى"([23]) . ان ظهور قصيدة النثر يمثل نقطة تحول على مستويين ، مستوى الشعر ، ومستوى النثر ، فهي على المستوى الأول ليست شعرا ، لكنها تمثل تنفسا شعريا لحالة شعورية ، وعلى المستوى الثاني ، فانها ليست نثرا عاديا ، متعارفاً عليه ، لكنها قصيدة نثر ، تمتلك في تركيبها النثري روح الشعر ، وتعبئته . ولعل هذا ما جعل بعض النقاد يتصورون ، ان تطور الأساليب النثرية والشعرية ، قد "وصل إلى نقطة معينة بين الشعر والنثر . واستمرت الحالة حتى عصرنا الحالي ، خروج عن الشعر التقليدي ، واتجاهه نحو النثر ، وخروج عن النثر واتجاهه نحو الشعر . فعند نقطة الالتقاء بين الاتجاهين المتضادين تكون قصيدة النثر ….. وينتج عن ذلك خلق كتابة فنية واحدة ، والقضاء على ثنائية الشعر والنثر الفنية"([24]) . * * *
عند مراجعة الوصف
الادونيسي لقصيدة النثر ، ومنحها خصائص ومميزات ، تمثلت بالشكل المركز ، والإطار
المحدد المعين ، … الخ ، كل ذلك ينطبق على مفهوم الشعر "الشعر الجديد معنى خلاق توليدي ، لا معنى سردي وصفي" "الشعر الجديد نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم" "الشعر الجديد ، … هو ميتا فيزياء الكيان الإنساني" ولكي لا يكون الشعر الجديد سرديا ، وكذلك قصيدة النثر ، فان الشعر الجديد : "يتخلى عن الحادثة ، إذ ان هناك تنافرا بين الحادثة والشعر" "ولأن الشعر الجديد يتخلى عن الحادثة ، فهو يبطل ان يكون شعر "وقائع" ، أو شعرا "واقعيا" بالمعنى الشائع لهذه الكلمة إذ يصبح الشعر "واقعيا ، يقترب من النثر العادي … " "ان القصيدة العظيمة حركة ، لا سكون" ولكي يكون الشعر الجديد "رؤيا" حسب المفهوم الادونيسي ، فهو : "يتخلى الشعر الجديد ، أيضاً عن الجزئية ، فلا يمكن الشعر ان يكون عظيما الا إذا المحنا وراءه رؤيا للعالم" . "يتخلى الشعر الجديد عن الرؤيا الأفقية …" اما بنائية الشعر الجديد ، كما يراها ادونيس : "يتخلى الشعر الجديد عن التفكك البنائي .فنحن نرى في معظم القصائد المعاصرة تشققا في هيكلها ووحدتها" اما من حيث الشكل الشعري ، فانه : "ليس الشكل وزنا ، لكنه نوع من البناء . لهذا يبقى ككل بناء ، قابلا للتجدد والتغير" "لم يعد الشكل مجرد جمال ، ففكرة الجمال بمعناها القديم فكرة باخت ، وربما ماتت . ان للفاعلية الشعرية غايات تتجاوز هذا الجمال" "شكل القصيدة الجديدة هو وحدتها العضوية ، هو واقعيتها الفردية التي لا يمكن تفكيكها ، قبل ان يكون ايقاعا أو وزنا"([25]) . ان ما ذكرناه من تعاريف ، وحدود ، وصفات للشعر الجديد تنطبق جميعها على مواصفات وخواص قصيدة النثر ، لذا ، لا نرى في المواصفات التي ذكرها ادونيس ، وخص بها قصيدة النثر فرقا جوهريا عن نمط آخر من الشعر ، ان كان موزونا أو غير موزون الا بمقدار الطريقة التي تكتب بها القصيدة ذاتها . ولعل هذا ما جعل الكثيرين من الشعراء ، وهواة الشعر الذين كانوا يرون في الوزن أو الشكل صعوبة ، ان يتجهوا إلى كتابة قصيدة النثر دون وعي بحقيقة هذه القصيدة ، وخصائصها الجوهرية التي انبنت عليها قصيدة النثر الغربية ، حينما كان الشعراء الغربيون يفكرون "في البحث عن المجهول ، أو المطلق" ، وان هذا البحث لا يأتي بالاعتماد على قوانين الشعر القديمة وأشكاله ، ولا يأتي عن طريق المصادفة ، وانما كما ، يقول رامبو ، ان "اختراعات المجهول تطالب بأشكال جديدة "لا يجد الشعر ومكانه الا فيها ، باعتبار ما تحققه من حرية التعبير ، في الشكل والمنحى . لذا "سوف تكون قصيدة النثر شكل الشعر الجديد ذا الطموحات الميتافيزيقية ، ومن تلك الطموحات سوف تأتيه حيويته ، ووثباته الغضوب احيانا ، وبعض الإخفاق أيضاً – وعظمته"([26]) .
واذا قصيدة النثر
الغربية لا يتعلق برد فعل ضد علم العروض ولما كان التنظير لقصيدة النثر قد بدأ غربيا ، فقد استوجب من الشعراء أو من كتاب قصيدة النثر العربية ان يراعوا خواص قصيدة النثر العربية ، ففي الوقت الذي تحرر هؤلاء الكتاب من الوزن ، أو الشكل أو القافية ، كان عليهم ان يلتفتوا إلى جملة عناصر اخرى ، افترضتها سوزان بيرنار في تحليلها لقصيدة النثر الغربية ، ولعل اول ما فرضته ، هو الارادة الواعية للانتظام في (قصيدة) . وهذا يعني ان قصيدة النثر تتميز عن غيرها من الكتابات بالشروط التالية : 1- الوحدة العضوية المستقلة التي تميزها عن النثر الشعري .
2- فكرة المجانية التي
تحددها فكرة "اللازمنية" . وتعني ان قصيدة النثر لا تتطور نحو غاية أو هدف ، كما هو
الحال في الأنواع النثرية الأخرى كالقصة أو المسرحية وغيرها . ولا تعرض سلسلة من
الأفعال أو الأفكار ، وهنا يمكن ان تظهر للقارئ "حاجة" وكتلة لا 3- الإيجاز ، ويعني ان تتلافى قصيدة النثر الاستطراد في الوعظ ، وكذلك التفصيلات التي تحولها إلى نثر عام ، وهذا ما يضر بوحدتها وكثافتها([28]) . وقد اقتبس ادونيس هذه الشروط ،وهذه القواعد في دراسته عن قصيدة النثر ، وسماها "خصائص" ، من كتاب سوزان بيرنار ، وحددها بثلاث هي : 1- الإيجاز (الكثافة) . 2- التوهج (الاشراق) . 3- المجانية (اللازمنية)([29]) .
اما فيما يخص الوحدة
العضوية ، فانه قد أشار إلى هذا الشرط ، متمثلا في وحدة القصيدة كبنية متكاملة
اسمها (القصيدة) ، مستوحيا بذلك عبارات سوزان بيرنار ، فقال : "اما قصيدة النثر
فذات شكل قبل أي شيء . ذات وحدة مغلقة ، هي دائرة ، أو شبه دائرة ، لا خط مستقيم ،
هي مجموعة علائق تنظيم في شبكة كثيفة ، ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد ، منتظم
الأجزاء ، متوازن ، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية ، وتقودها
وتوجهها ، ان قصيدة النثر تبلور ، قبل ان تكون نثرا .أي انها وحدة عضوية ، وكثافة
"ان قصيدة النثر عالم كامل منتظم ، جميع اجزائه متماسكة ، كاملة بذاتها ، وتحمل معناها وغايتها ، فلا يمكن ان تسمي صفحة نثر ، مهما كانت شعرية ، تدخل في رواية ، أو صفحات اخرى ، قصيدة نثر"([30]) .
لقد اختزل النثر الفني
العربي ، في كتابات أطلق عليها أصحابها ، كما حسبوا ذلك انها "قصائد نثرية" ،في
الوقت الذي قد لا تتجاوز هذه الكتابات هامشية النثر الفني العربي الأصيل ، ولعل
ادونيس كان منتبها إلى هذه الكثرة مما تسمى بقصائد النثر عندما أشار اليها ، فقال :
"ولعلنا نعرف جميعا ان قصيدة النثر ، وهو مصطلح اطلقناه في مجلة "شعر" ، انما ولربما يعزى سبب هذا القصور في كتابة قصيدة النثر العربية إلى الطريقة التي طرحت بها ، من قبل ادونيس وغيره ممن نظروا في كتابتها ، ودعوا أليها . فمما لا ينكر ان مجموعة المفاهيم التي طرحها كل من ادونيس وانسي الحاج "كانت كافية في حدود معينة ، لصياغة نظرية متكاملة ، أو شبه متكاملة ، حول "قصيدة النثر" . ولكن مما يضعف هذه "النظرية" ، ويؤثر تأثيرا مباشرا على تماسكها وصلادتها ، هو ان مفاهيمها مصوغة بلغة شعرية ، لغة هي ليست لغة فكر وتنظير"([33]) . وهذا ما جعل أي متلق لها ، مهووسا بنمط لا يعرف عنه الا وصفه الخارجي ، السطحي ، أو يمكن القول ، لا يعرف الا "زيه" ، وكأنه موضة جديدة . في الوقت الذي كان كتاب قصيدة النثر ، وروادها كأدونيس وانسي الحاج ، على اطلاع كافٍ على كنه الطريقة الغربية التي كتبت بها هذه القصيدة . ودليل ذلك نجاحهم في النماذج التي قدموها لقرائهم . فضلا عن معرفتهم بالوزن وقيمته في القصيدة الموزونة ، فلم يكن اقدامهم على قصيدة النثر ضعفا منهم في معرفة الوزن ، أو ايقاعات القصيدة ايا كان نوعها .
ان الممعن في التركيب
البنائي لقصيدة النثر ، يرى ان بنية هذا التركيب تقوم بالدرجة الأساس على الجوانب
اللغوية ، لان ان (اللغة) ، وباعتبارها الهاجس الفعال المتحرك في هذه القصيدة ،
يمكن ان تحقق لها صورها الشعرية المتميزة . وايقاعاتها المتنوعة الخاصة ولعل هذا ما جعل بيرنار في كتابها ان تؤكد على ان قصيدة النثر تحتوي على مبدأ فوضوي وهدام لانها ولدت من تمرد على قوانين علم العروض – واحيانا على القوانين المعتادة للغة ، بيد ان أي تمرد على القوانين القائمة سرعان ما يجد نفسه مكرها على تعويض هذه القوانين باخرى ، لئلا يصل إلى اللاعضوي واللاشكل إذا ما اراد عمل إنتاج ناجح"([34]) . ويعني هذا ان قصيدة النثر قد تخلت عن كل ما كانت توحي به القصيدة التقليدية القديمة ، فتخلت عن الشكلية والنموذجية المسبقة ، لترسم معالمها الجديدة من الداخل قبل الخارج ، في هيكليتها اللامحدودة ، اللامقيدة ، المغايرة لكل الأشكال السالفة . ولتصبح – فيما بعد – خطابا جديدا موجها ، لا يقتصر على فرد معين أو جماعة محددة ، وانما خطاب موجه إلى العالم والوجود ، بحالته الإنسانية ، والكونية الموحدة . مع تنوع ما بداخله . لذا ، فان قصيدة النثر ، وان كانت تجربة جديدة ، لنمط نثري جديد ، لم تكن وليدة تجربة عابرة ، ولم تتمخض عن ملكة الإدراك الوظيفية ، وانما هي نتاج جميع الملكات الانسانية . لذا ، يمكن لهذا التعبير ان يتغير طولا ، وقصرا ، وشدة ورخاء بتغيرها ، فتكون القصيدة النثرية تشكيلا لمجموعة كبيرة من الدفقات الشعورية ، تنثال عبر خيال خلاق موحٍ في صور شعرية فريدة([35]) .
ان هذه الدفقات
الشعورية تمنح القصيدة أشكالا متعددة ، ومتغيرة وليست شكلا
ومع اعتقادنا بأن هذه
الموسيقى ، والاستجابة يمكن ان نجدها في عموم الشعر أولا- نثرية القصيدة ، فهي قصيدة نثر وليست قصيدة شعر ، فهي كتابة نثرية ، وليست شعرية ، لذا فان كل ما ينبجس منها يعتبر امرا غير عادي . ثانيا- شعرية هذه القصيدة التي تبعث فيها روح الشعر ومعناه ، وتفصلها عن باقي اشكال النثر الأخرى .
ان هذه الشعرية الخاصة
لقصيدة النثر ، منحت القصيدة بعدا دلاليا غير متعارف
هذه الميزة جعلت قصيدة
النثر ليس لها قاعدة منتظمة كما هو الحال في قواعد الشعر التقليدي ، فالشكل هو حركة
دائبة ، متغيرة ، تشكله لغة القصيدة ، فتشكل معه صورها وفي شيء من التأمل الذي يفترض في قصيدة النثر ، نجد ان هذه القصيدة تتجاوز عادتها في احايين كثيرة ، كما تتجاوز وصفها الطبيعي ، فلم تعد وسيلة ، وانما تصبح هدفا للخلق ، وتجليا له ، عبر صيرورة الخلق ، حين تبلغ كثافتها حالة متجاوزة حدود المعاني والدلالات الآنية القريبة ، عندما يسعى صوت اللغة بمفرداتها في تجسيد دلالات ايحائية لا متناهية ، يمكنها ان تستغني عن مظاهر الصوت الخارجي للكلمة ، حين يتفاعل مع مكانه ، باعتبار ان الكلمة بحد ذاتها شكل صوتي للمعنى([40]) ، يجسد في كليته معالم المشهد الشعري ، كلما اتسعت كثافته .
من المعروف ، ان المؤشر
على النثر ، هو تعبير عن الذهن ، يتنوع بتنوع ان عملية هذه الذهنية تتوقف على حتمية التعبير في الكتابة النثرية ، ولما كانت هذه الكتابة هي ردة فعل مقصودة ، وغاية محققة في نمط تعبيري خاص ، ضد أي شعور وانفصال عاطفي سريع ، لذا ، فان ما يميز هذه الكتابة ، هو ذلك التفاعل الارادي من خلال مشاركة العقل في اللعبة الشعرية([41]) . بيد ان هذا التفاعل الإرادي المقصود قد يحدث في القصيدة نوعا من الفوضى ، لكنها بمنحاها ، وبنائها ، تبدو ذات منحى وبناء غير فوضوي ، وذلك لاننا يمكن ان نستشف حقيقة ترى في الفوضى المطلقة انتفاء للفن ، في حين – وبما انها قصيدة – يجب ان تفرض على الشعر ، صيغة فنية تستمد قوانينها ، وحيويتها من طبيعة الشيء ، لا من خارجه([42]) .
ان الفوضى التي تبدو في
قصيدة النثر هي تكوين ذاتي ، ونفسي في جسد قصيدة لقد استقرت قصيدة النثر ، واصبحت ظاهرة في الشعر العربي ، بعد ان اكتسبت تصنيفها في جنس ادبي ، اسمها فيه "قصيدة نثر" ، فهي تتمتع بخصوصية القصيدة العربية مع فارق الجنس ، رغم كل ما قيل حولها ، من انها ذات اصل وابداع غربي ، او انها تجربة غربية . وذلك لان الممارسة الشعرية العربية ، الحداثية منها ، ومع ائتلافها مع مفاهيم الحداثة الغربية ، الا ان المغايرة في خصوصية التجربة العربية وسياقاتها مع خصوصيات وسياقات التجربة الغربية ، أتاح لقصيدة النثر العربية ان تكون ذات خصوصية عربية ، في الشكل والإيقاع وروح الشعر العربي ، لان لغة الخلق فيها هي اللغة العربية ، بايقاعها وجرسها .
لذا ، يرى ادونيس ، ان
معرفة ابداع الاخر (الغربي) ما هو الا معرفة ، وبوصفه لقد حاول كتاب قصيدة النثر العربية، ومنهم ، ادونيس والماغوط وانسي الحاج وجبرا وتوفيق صايغ ، ومن خلال التقانات التي استخدموها ، ان يطبعوا قصائدهم النثرية بخواص الشعرية العربية ، وأساليبها ، وان يعوضوا عن الوزن الشعري بعناصر تقنية اخرى ، تجلت في التوازي والسجع ، والجناس الاستهلالي ، والتكرار ، فضلا عن تنويعهم في أطوال الأسطر ، والإفادة من حروف اللين ، وما يترتب على ذلك من دلالة صوت الكلمة ، وايحاءاتها . ان هذا التكنيك في قصيدة النثر العربية ، اكتسب خاصيته الشعرية العربية كذلك ، من خلال عناية هؤلاء الشعراء بالتركيب اللغوي الذي ينسجم مع الذائقة العربية العصرية ، متمثلا في التجديد الكلي للنمط البنائي للعبارة الشعرية ، والذي يتكون من مساحات الجملة ، والفقرة ، والتنويع الدقيق في انماط هذه العبارة ، وحالاتها في أساليب التوكيد والاستفهام والتعجب ، وغير ذلك من أساليب البلاغة العربية([45]) .
لذا ، فقد بدت قصيدة
النثر العربية نمطا كتابيا عربيا ، تخطى اصله الغربي بتعريبه ، ليس اسما ، وحسب ،
ولكن كبنية اكتسبت معالم البنية العربية ، في النشأة ، والحياة معها . فتخطت
القواعد المعروفة للشعر والنثر العربيين ، تخطت الوزن والنثر ، من خلال الكشف
المعرف الجديد ، فكانت كتابة عظيمة في مديات جمالية العوالم التي بنتها ، وفي مجمل
العلاقات المعرفية الجمالية التي اقامتها بين اللغة بكل فإضاءاتها والعالم ، وبين
الإنسان اذن ، لم تكن قصيدة النثر العربية بدعة ، ولم تكن حلا لازمة الكتابة والإبداع التي عاشها الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين ، كما لم تكن "الرسالة" التي حملت الأجوبة النهائية لمجمل القضايا الشعرية العربية ، ولكنها كانت تمثل أفقا آخر ، جديرا الى جانب ذلك الأفق المتعارف عليه ، والذي تمثل في قصيدة الوزن . ولعل هذا ما آثار الجدال العنيف بين أطراف القبول والرفض لقصيدة النثر ، وكان مبعثا لاشكالات جديدة لم تكن بالحسبان([46]) .
لقد تجاوزت قصيدة النثر العربية الرؤية التي كانت تنظر الى الشعر العربي من خلال
السمات الكمية التي تجعله في احايين مستغنيا عن القافية ، وذلك لما يترتب من ايقاع
يتردد في كل بيت ، وعلى مدار القصيدة كلها ، بطريقة منتظمة ، مما توفر للشعر النغم لقد آخذت هذه القصيدة تعمق حضورها من خلال أشكال وصيغ لا حصر لها ، لتعبر عن مصداقية وجودها ، وهي تسعى لنسف "كل ما كان يشكل مصدر غنى وخصوبة للتجربة السالفة ، ويجيره لصالحه الخاص"([48]) ، باعتبار ان هذه القصيدة هي رغبة تلقائية مقصورة لتجاوز الأنظمة السابقة ، والسائدة ، رغبة تهدف الى فعالية التحريض الثوري ، للانقلاب المتجدد في الواقع . ان مفهوم قصيدة النثر في الكتابة العربية لا ينحصر في العدد الكثير من القصائد النثرية ، ولا في عدد كتابها ، ولكن بالكيفية التي يفهم بها الشعر ، ، وبالحالة التي تنتمي بها قصيدة النثر للنص الشعري ، من خلال العلاقات المبرمة لا بين الشاعر والكاتب ونصه ، ولكن بين الشعر والمتلقي([49]) ، الذي قبلت ذائقته هذا النمط من الكتابة النثرية . ان عربية هذه القصيدة ، او هويتها المفتوحة ، أخذت خصوصيتها من خلال بعدها العربي ، وعلى وجه الخصوص ، بعد ان تعرف كتاب هذه القصيدة على الأصول المماثلة لها في الكتابات الصوفية العربية ، فقد اكتشف هؤلاء الكتاب ان في هذه الكتابات ، وبشكل خاص كتابات عبد الجبار النفري في كتابه المعروف (المواقف والمخاطبات) ، وكتابات ابي حيان التوحيدي في (الاشارات الالهية) ، والبسطامي في (الشطحات) ، والكثير من كتابات محي الدين بن عربي والسهروردي ، وغيرهم ، ان الشعر لا يمكن ان ينحصر في الوزن ، وانما في طرق التعبير التي اختصت بها مثل هذه الكتابات ، وطرق استخدام اللغة ، حينما تكون جوهريا شعرية ، وان كانت هذه الكتابات غير موزونة([50]) .
([1]) ينظر : الحداثة في النقد الادبي المعاصر ، عبد الرزاق ، دار الحرف العربي ، بيروت ، ط1، 1991 ، 231 . ([2]) قضايا الإبداع في قصيدة النثر ، يوسف حامد جبر ، دار الحصاد للنشر والتوزيع ، دمشق ، ط1 ، 1991 ، 186 ([3]) ينظر : الحداثة في النقد الأدبي المعاصر ، 232 – 233 . ([4]) زمن الشعر ، ادونيس ، دار العودة ، بيروت ، ط1 ، 1985 ، 9 . ([5]) مقدمة للشعر العربي ، ادونيس ، دار العودة ، بيروت ، ط1 ، 1971 ، 108 . ([6]) ينظر : زمن الشعر ، 15 – 16 . ([7]) ينظر : مقدمة للشعر العربي ، 112 – 113 . ([8]) ينظر : قضايا الابداع في قصيدة النثر ، 16 – 17 . ([9]) زمن الشعر ، 16 ، 17 . ([10]) ينظر : ن. م. ، 51 . ([11]) موسيقى الحوت الازرق ، ادونيس ، دار الاداب ، بيروت ، ط1 ،1993 ، 112 – 113 . ([12]) قضايا الابداع في قصيدة النثر ، 52 .
([13])
ينظر : الحداثة في النقد العربي المعاصر ، 239 – 240 . وكذا ، ينظر :
اشكاليات قصيدة النثر ، ([14]) قصيدة النثر من بودلير إلى ايامنا ، سوزان بيرنار ، ترجمة : د. زهير مجيد مغامي ، مراجعة : د. علي جواد الطاهر ، دار المأمون للترجمة والنشر ، بغداد ، 1993 ، 143 – 144 ، وينظر كذلك في الصفحات السابقة واللاحقة . ([15]) الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ، عبد الحميد جيدة ، مؤسسة نوفل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1980 ، 317 . ([16]) ينظر : قصيدة النثر / مقاربة اولية ، د. عبد الفتاح النجار ، مجلة ابحاث اليرموك ، مح 19 / ع2 / 2001 ، جامعة اليرموك ، الاردن ، 375 . ([17]) ينظر : الحداثة في النقد الادبي المعاصر ، 243 . ([18]) الحوارات الكاملة ، 1(1960-1980) ، ادونبس ، بدايات للطباعة والنشر والتوزيع ،جبلة ، سورية ، ط1 ، 2005 ، 1 / 9 . ([19]) قصيدة النثر ، 148 . ([20]) ن. م. ، 148 – 149 . ([21]) الثابت والمتحول ، (صدمة الحداثة) ، ادونيس ، دار العودة ، بيروت ، ط1 ، 1978 ، 13 / 209 . ([22]) قصيدة النثر ، 151 . ([23]) في حداثة النص الشعري ، دراسات تقدية ، جفو العلامة ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، ط1 ، 1990 ، 137 . ([24]) الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ، 318 . ([25]) زمن الشعر ، 9 – 17 . ([26]) قصيدة النثر ، 67 . ([27]) ينظر : ن. م. ([28]) ينظر : قصيدة النثر ، 22 – 23 . ([29]) ينظر : افق الحداثة وحداثة النمط ، سامي مهدي ،دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، العراق ، ط1 ، 1988 ، 98 . ([30]) نقلا عن : افق الحداثة ، 97 لتعذر الحصول على اعداد مجلة "شعر" اللبنانية . ([31]) فاتحة لنهايات القرن ، ادونيس ، دار العودة ، بيروت ، ط1 ، 1980 ، 316 . ([32]) قصيدة النثر ، 75 – 76 . ([33]) افق الحداثة ، 87 . ([34]) قصيدة النثر ، 20 . ([35]) ينظر : الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ، 325 . ([36]) مقدمة للشعر العربي ، 116 . ([37]) ينظر : الحداثة ، ماكلم براد بري ، جيمس ماكفاردلده ترجمة : مؤيد حسن فوزي ، دار المأمون للترجمو والتشر وزارة الثقافة والاعلام ، بغداد ، الجمهورية العراقية ، 2 / 72 . ([38]) الحوارات الكاملة ، 1 / 56 . ([39]) قصيدة النثر ، 145 . ([40]) ينظر : في حداثة النص الشعري ، 146 . ([41]) ينظر : الحوارات الكاملة ، 1 / 61 – 62 . ([42]) ينظر : خليل حادي في مقابلة / محيي الدين صبحي ، الفكر العربي المعاصر ، 39 ، 1986 ، 148 . ([43]) الحداثة ، 2/62 . ([44]) ينظر : سياسة الشعر ، دراسات في الشعرية العربية، ادونيس ، دار الاداب ، بيروت ، ط1 ، 1985 ، 75 . ([45]) ينظر : في حداثة النص الشعري ، 142 . ([46]) ينظر : موسيقى الحوت الازرق ، 122 – 131 .
([47])
ينظر : القافية والاصوات اللغوية ، محمد عوني عبد الرؤوف ، مكتبة
الخانجي ، القاهرة ، ط1 ، د. ([48]) ينظر : قضايا الابداع في قصيدة النثر ، 80 . ([49]) ينظر : اشكاليات قصيدة النثر ، 360 . ([50]) ينظر : سياسة الشعر ، 76 .
|
|
|
![]() |
![]() |
|