ف |
شعر مترجم |
الارتجـــال
المسرحي
د.
توطئة:
يعد الارتجال Improvisationمن أهم الآليات الدراماتورجية لعرض فرجة مسرحية خاصة بالأطفال. والارتجال في الحقيقة أول خطوة يلتجئ إليها الممثل لبناء شخصيته الفنية، وبناء ذاته فوق خشبة الركح. ويستلزم الارتجال أن يكون صاحبه ذا موهبة فنية عالية، وذا ذكاء اجتماعي متميز من أجل أن يقدم فرجاته الدرامية للراصدين الحاضرين بشكل ممتع ومفيد. ولقد بدأ المسرح الإنساني بالارتجال الفطري الطبيعي الذي كان يتسم بالعفوية والتلقائية والاحتفالية الشعبية ضمن مرحلة الظواهر الفردية، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الحفظ والتنظيم مع مرحلة مأسسة المسرح، وإخضاعه لسلطة التأليف والتشخيص و الإخراج والسينوغرافيا. وعلى الرغم من كون المسرح اليوم يقوم على ضبط النص وحفظ الأدوار حفظا دقيقا ، إلا أن للارتجال مكانة هامة ومعتبرة في المسرح المعاصر سواء في مسرح الكبار أم في مسرح الصغار ؛ لما للارتجال من أهمية كبرى في تكوين الممثل وتدريبه وتأطيره ، وإثارة المتلقي ذهنيا، واستفزازه وجدانيا، وإرباكه حركيا، وجذبه للمشاركة في بناء الفرجة الركحية بشكل تشاركي. إذا، كيف يمكن الاستعانة بتقنية الارتجال لدعم مسرح الأطفال تأليفا وإخراجا وتشخيصا وتأثيثا؟
q مفهوم الارتجال:
الارتجال هو إبداع نص مسرحي بدون الرجوع إلى النص برمته أو التقيد بكل مدوناته، أي يتحول مخيال الممثل إلى منبع للوجدان الطبيعي ، ومصدر للأفكار التي تقدم على الخشبة الركحية بطريقة تلقائية عفوية. فيسمح الممثل آنذاك لخياله بأن يجنح في الآفاق. وبالتالي، يطلق عنان ذاكرته ومخيلته الإبداعية في الأجواء التخييلية والميتافيزيقية لكي تنساب الأفكار المضمرة في الشعور واللاشعور، وتنصهر التجارب الذاتية والموضوعية في قالب فني درامي إبداعي عفوي وفوري. والمقصود بالارتجال في المعاجم والقواميس الأدبية والمسرحية بأنه:" تقنية تتعلق باللعب الدرامي، حيث يؤدي الممثل أشياء مرتجلة، أي لم تكن مهيأة بشكل مسبق، وتبتكر داخل الفعل المسرحي. وهناك عدة درجات في الارتجال:ابتكار نص انطلاقا من شبكة معروفة بدقة (كما هو الشأن بالنسبة للكوميديا دي لارتي)، واللعب الدرامي انطلاقا من موضوعة أو أمر، وابتكار حركي ولفظي دون الاستناد إلى نموذج، ومخالفة كل التقاليد أو القواعد (غروتوفسكي، المسرح الحي)، والتحطيم اللفظي والبحث عن لغة جسدية جديدة (أرطو). كل المساحات الخاصة بالإبداع تنضاف بطريقة تناقضية إلى موضوعة الارتجال. شهرة هذا التطبيق تفسر بالرفض الحالي للنص، ورفض التقليد السلبي، والاعتقاد بإمكانية تحرير الجسد والاقتناع بإبداعية عفوية. إن تأثير تمارين غروتوفسكي، واشتغال مسرح الشمس على الشخصيات، وتطبيقات أخرى وحشية(بمعنى غير أكاديمية) أدت، وبقوة، إلى اصطناع أسطورة الارتجال، باعتبارها صيغة للإبداع المسرحي، صيغة اشتكى منها ميشيل برنار M.Bernard لكونها منبثقة عن التعبيرية الخاصة بالجسد والفن."[1] ومن هنا، فالارتجال يعني في حقيقته التمرد، والرفض، والثورة، والانزياح، والتجاوز ، والانتفاض على ماهو تقليدي وسلبي. ومن ثم، فعملية الارتجال تقوم عمليا على التأليف الفوري، بل تمتد إلى الإضافة، والتعديل، والتغيير، والتشطيب، والحذف، وإعادة كتابة النص، والخروج عن النص، والاسترسال، والاستطراد... وإن كان الارتجال في البداية يتعلق بالتأليف الفوري (كتابة النص) كما في الكوميديا المرتجلة الإيطالية والفرنسية. وعلى العموم، فالارتجال " يرتكز في جوهره على إبداعية تستمد فرضيتها من تلقائية حدسية أو خيالية. ومن ثم، فإنه ينشأ في الوقت معا كقطيعة ورجوع، وكتخريب وحنين، وهذا شيء حقيقي إلى درجة أنه لايمكن أن يوصف، أو يحلل إلا عبر مجموعة من أزواج الكلمات المتعارضة أو – إذا شئنا- عبر مجموعة من المفارقات التي تحدد، وتصف كل مرة فعل الارتجال المسرحي في علاقته مع مرجعين متضادين: يكون من المفروض أن يخرب الأول، ويزعزعه، بينما يعمل على كشف الثاني وإحيائه. وهكذا، فبمجرد مانعتبر الارتجال في أساسه، فإنه يطرح نفسه كرفض لما هو قاعدة للزخرف المسرحي، ورجوع إلى طبيعة السلوك اليومي، وهذا مايفرض لأول وهلة أن بنيته تترجم كدرء لنظام إشارات، وتحرير لاندفاع ما. إذاك نستطيع التخمين من الغاية المتوخاة هي أقل ماتنحصر في المراسلة أو التواصل مع الغير بقدر ماتوحي إلى التعبير عن الذات والمعيشي والشعوري."[2] وعلى أي حال، فالارتجال في الحقيقة هو الاستكشاف والإتيان بالجديد، والبحث عن شيء لم يوجد من قبل، شيء لم يشاهد ولم يدرك بعد بطريقة أو بأخرى، وإنجاز حدث أو مشهد غير متصور وغير معقول وغير مألوف. وبالتالي، يحدث قطيعة فنية وجمالية مع باقي المشاهد العادية التي تعود عليها بشكل روتيني وتكراري المشاهد الراصد، كما أن هذا الحدث المنجز يجب أن يكون حدثا غير إرادي وغير مقصود.[3]
q تاريخ الارتجال المسرحي:
من المعلوم أن المسرح الإنساني بدأ ارتجاليا قائما على العفوية والتلقائية الطبيعية كما تدل على ذلك الظواهر الفردية إذا اعتمدنا نتائج الأنتروبولوجيا البشرية. فقد مارس الإنسان القديم اللعب والتقليد والمحاكاة. وأبدع فرجات درامية ارتجالية بشكل طبيعي وفطري، يختلط فيها اللعب والرقص، كما يختلط فيها الكلام والغناء. ومن هنا، فالارتجال:" شكل قديم من أشكال فن التمثيل، ومن أعظم أشكاله إثارة في القرنين السادس عشر والسابع عشر- هو فن الكوميديا المرتجلة Commedia dell arte ، ثم نسيت إلى أن طورها من جديد طبقا لرأي العديد من خبراء المسرح، قسطنطين ستانسلافسكي في بداية القرن العشرين. ذلك أن ستانسلافسكي استخدم الارتجال كأداة للتدريب لاستيعاب فعل صعب بالسماح للممثل بممارسة سلوكه في مواجهة الشخصية لموقف مشابه، وبعد ذلك، يستفاد من تجربة الممثل في انتهاج مسلك لأداء الفعل الذي ينطوي عليه النص"[4]. وقد انتشرت الكوميديا المرتجلة في إيطاليا وفرنسا فيما بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر. وكان الارتجال في هذا النوع من المسرح شكلا من أشكال التأليف، ولم" يكن إضافة على نص مسرحي كامل – كما يقول المخرج المصري سعد أردش-، بل إن الأمر – اليوم- تخطى الارتجال الفوري إلى تعديل النص، مهما كانت قيمته الأدبية والدرامية، ومهما كان قدر كاتبه، بما يحقق نجومية الممثل البطل، حتى ولو أدت هذه التعديلات إلى إفساد النص وتشويهه، حتى إن كثيرا من هذه التعديلات قد حولت النص إلى منولوج للبطل، تحوطه وتتخلله بعض العبارات من مجموعة من الممثلين، وكثيرا ماكانت هذه العبارات مجرد حافز للبطل على التوغل والتعاظم والطغيان، ويكفي هنا أن نشير إلى واحد من هؤلاء الأبطال العظماء الذين أصبحت أسماؤهم قمما في تاريخ فن الممثل، هو الممثل الإنجليزي دافيد جاريك David Garrik (1779-1717)، سيجد القارئ اسم جاريك ممجدا ومتوجا في كافة الكتب التي تتحدث عن المسرح وعن فن الممثل، كأول من أعاد اكتشاف مسرح شكسبير الذي كان قد أصيب بالنسيان ولكنه كمخرج في الواقع كان يقدم ويمثل شكسبير على طريقته هو، فلم يكن يكتفي بالحذف من النص، بل كان يضيف إليه ويعدله ويعيد طبخه بما يتناسب مع الهدف الشخصي من العرض المسرحي: خلق وبلورة النجم والبطل الأعظم بحيث يحمل العرض اسم جاريك فقط."[5] ويلتجئ الممثل في منظور ستانسلافسكي أثناء الممارسة التدريبية إلى الارتخاء العضلي لإزالة التوتر النفسي، والحد من الثقل العصبي ، وتفادي التشنج العضلي عبر ممارسة مجموعة من الحركات الرياضية، واستيعاب بعض العلوم والفنون المساعدة كالموسيقا والباليه والرقص والترويض النطقي استعدادا للتطبيقات الميزانسية على خشبة الركح. وبعد ذلك ، ينتقل الممثل من التأمل العقلي لدوره إلى أجرأته ركحيا من خلال الجمع بين الكلمة والحركة والتشخيص الواقعي الحي، ولابد من الارتجال في عملية التمثيل من أجل إتقان الدور ومعايشته.
ومن أشكال الارتجال عند ستاسلافسكي:" العيش في الظروف القائمة فعلا. فمثلا عندما كان ستانسلافسكي يعمل في إخراج مسرحية(الأعماق السفلى) أخذ ممثليه إلى الحي الذي يتردد عليه الأفاقون والمنبوذون، وعمال التراحيل بموسكو حتى يستطيعوا أن يتشربوا من خلال ممارستهم تجربة العيش في الوحل والقذارة. والشكل الثاني الذي استخدمه ستاسلافسكي هو إيجاد موقف مشابه لذلك الموقف في الحدث المسرحي، ولكنه يرتبط بصلة مباشرة بحياة الممثل وظروفه. والارتجال حول الظروف التي يقع فيها الحدث في المسرحية، وإن كان لايقتصر على النص القائم فعلا، يساعد الممثل على أن يكتشف اختلافات ضئيلة وتفاصيل صغيرة، تضيف كلها إلى ثراء أدائه التمثيلي وطبيعته التي تشبه تماما ما يحدث في الحياة"[6] ومن المخرجين المعاصرين الذين اهتموا بالارتجال نذكر: تشارلز ديلان Charles Dullin الذي استثمره كثيرا في تدريب الممثلين ، كما شغله في التمسرح الميزانسيني. وفي هذا يقول أحمد زكي في كتابه" الإخراج المسرحي": " وفي المدرسة الملحقة بمسرحه" الأتلييه" L'Atelier كان يخصص جانبا كبيرا من الوقت لتدريب الممثلين على رقصات الباليه والتمثيل المرتجل. وكان جان لوي بارو Jean- Louis Barrault أحد تلاميذه. وفي التدريبات كان ديلان يرخي الزمام ويشجع ممثليه على أن يرتجلوا- لا في الحركة والإيماءة فحسب، بل في الكلمات، لأنه لا ينظر بإجلال عظيم لنص المؤلف وكان يمقت ما أسماه " الطبيعي الفظيع"، وقد اعتاد أن يقول:" إن عالم المسرح هو أرض الأحلام التي نستطيع فيها أن نهرب من حياتنا اليومية"، وكان يحب صفة اللمعان والإشراق والألوان الزاهية والموسيقى المرحة والحركات النشيطة."[7] ومن المخرجين الروس الذين أولوا أهمية كبرى للارتجال إلى جانب ستانسلافسكي نذكر: نيكولاي إفرينوف Evrinov الذي انبهر كثيرا بالكوميديا المرتجلة وفن الارتجال الذي استخدمه في تداريبه التشخيصية ، كما وظفه كشكل من أشكال التعبير العفوي والتلقائي على المستوى الدرامي والركحي. ونذكر في هذا السياق كذلك المخرج بيتر بروكBrook الذي اتخذ من البحث والارتجال وسيلتين أساسيتين للكشف عن أصول المسرح، فاستعان في ذلك بالناقد تشارلز ماروفيتز Charles Marowitz كمخرج مشارك في عدة تجارب.[8] ويعتبر الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي براندللو( 1867-1936) من أهم كتاب الارتجال والكوميديا الارتجالية كما يدل على ذلك مجموعة من مؤلفاته المسرحية:"ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، و"الليلة نرتجل"، و"لكل شيخ طريقته"... هذا، ويعد المخرج الفرنسي جان ڤيلار من المخرجين الذين انساقوا وراء فلسفة الارتجال الدرامي في عروضه المسرحية المفتوحة، كما كان من السباقين إلى تأسيس النظرية الاحتفالية في المسرح الغربي خاصة في الخمسينيات من القرن العشرين؛ إذ حول مهرجان أفنيون الصيفي إلى مهرجان مسرحي احتفالي خيالي، وجعله فضاء اجتماعيا وإبداعيا مفتوحا ، وفضاء للاحتفال الجماعي الشعبي للتعبير الحر والارتجال التلقائي. وقد كان مسرح جان ڤيلار فضاء شعبيا احتفاليا في خدمة الحفل الارتجالي والجمهور المرتجل على حد سواء. وقد تأثر بنظريته الاحتفالية كثير من المؤلفين والمخرجين المغاربة منهم: الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد.
q مقومات الارتجال وأنواعه:
يقوم الارتجال المسرحي على الموهبة، والصقل، والكفاءة، والحرية، والعفوية، والتلقائية ، والإبداع الفوري، وإعطاء الأهمية الكبرى للمخيلة والخيال والتخييل في تقديم الفرجة الدرامية وتركيبها مشهديا. كما يقوم الارتجال على الإضافات الشخصية، والاستكشاف الذاتي. كما ينبني على الجديد، واللامتوقع، والانزياح، والخروج عن السائد والمألوف، وتكسير بنية التقليد، والبحث عن نص أو فضاء أو تشخيص أو إخراج أو تأثيث سينوغرافي يتسم بالجدة والابتكار. ويكون الارتجال على صعيد الأفكار، والإخراج، والحوار، والمنولوجات، والحركات، والإيماءات، والرقصات، والأغاني، والتداريب التسخينية والميزانسينية، والتأثيث السينوغرافي...الخ وفي هذا الصدد ، يمكن الحديث عن أنواع عدة من الارتجال ، فهناك من حيث التأليف الفوري: ارتجالات بسيطة، وارتجالات مركبة. وهناك من حيث العدد: ارتجالات فردية، وارتجالات ثنائية، وارتجالات جماعية. و هناك من حيث المكونات المسرحية: ارتجالات ميمية، وارتجالات حوارية، وارتجالات منولوجية ، وارتجالات كوريغرافية، وارتجالات غنائية. وهناك من حيث المستويات الدرامية: ارتجال التأليف، وارتجال التشخيص ، وارتجال الإخراج، وارتجال السينوغرافيا. كما يمكن الحديث كذلك عن الارتجال الجزئي والارتجال الكلي.
q الارتجال في مسرح الطفل :
يمكن للمخرج أن يتخذ من الارتجال في مسرح الطفل تقنية مهيمنة وكلية من البداية حتى النهاية أو يوظفه في بعض المشاهد واللوحات الدرامية بطريقة جزئية ومتدرجة. ولايمكن للمثل أن يبدأ في الارتجال فوق خشبة الركح حتى يقوم بمجموعة من التداريب التمهيدية والتسخينية ليروض جسده وصوته على الارتجال، فيبدأ في بناء نص فوري مع رفقائه من الممثلين إضافة وتعديلا وتغييرا وإبداعا واسترسالا واستطرادا قصد إرباك المشاهد المتوقع حضوره. ويكون الارتجال الفوري غالبا بتأليف نص بشكل عفوي وتلقائي فرديا أو جماعيا، حيث يبدأ الواحد بطرح فكرة، فيكملها الثاني، ثم يحبكها الثالث، ويوسعها الرابع إلى آخره. ويكون الارتجال بخروج الممثل عن نص الكاتب ونص المخرج على حد سواء بإضافة أشياء وإقحام أحداث غير موجودة لدى الممثلين الآخرين وغير متوقعة عندهم أصلا. ولكن بشرط أن تكون هذه الإضافات والتغييرات زيادة ونقصا مفيدة ووظيفية كما نلفي ذلك عند الممثلين المصريين المتمكنين كأحمد بدير، وسمير غانم، ومحمد صبحي، وسهير البابلي، وعادل إمام وغيرهم في كثير من مسرحياتهم الكوميدية التي يخرجون فيها عن النص الأصلي ، فيرتجلون من عندياتهم كلاما مضحكا يمتع الجمهور ، ويربك أفق انتظاره. وقد يكون الارتجال خاصا بممثل معين، يرتجل مجموعة من الرقصات والحركات الكوريغرافية وحوارات منولوجية إيجابية وهادفة لتنشيط الفرجة الركحية، وقد يكون ارتجالا جماعيا يشارك فيه الجميع بالتناوب والتسلسل والتضمين اتساقا وانسجاما. إن الارتجال" بدون نص – يقول المخرج والناقد المصري أحمد زكي- يجعل الممثل مطالبا بأن يطلق العنان لخياله لأقصى مدى ممكن، قدرة على الأخذ والعطاء مع زملائه وعلى تمثيل أفعال بطريقة فورية وتلقائية. وعمل المخرج في الواقع يكمن في الحفاظ على جوهر، صريح، إبداعي لحفز خيال ممثليه ولانتخاب العمل من الإمكانيات الكثيرة التي تطورت تدريجيا، وتهذيبه. ودورات الارتجال في الغالب تبدأ بلعبات وتمرينات تحسب لإزالة التوتر من الجماعة والشروع في أن يعمل أفرادها معا كوحدة متوافقة، ولزيادة شدة تركيزهم. والارتجال يمكن أن يتطور تدريجيا من التمرينات ذاتها.... وعلى المخرج دائما أن تكون له نقطة انطلاق محددة في ذهنه للقيام بدورة تدريب. وإذا لم تكن الارتجالات امتدادات للعبات أو لتمرينات، فإنه يجب عندئذ، التركيز على موضوع ما من قيام الممثلين بارتجالاتهم الاستكشافية."[9] وقبل فعل الارتجال، ينبغي على الممثلين أن يتفقوا على موضوع معين أو نص ما أو فكرة ما قصد وضع تصورات قبلية حول فكرة النص ووحداته الدلالية ومشاهده الدرامية. وبناء على هذا الفهم المسبق للمسرحية، واستيعاب أحداثها بطريقة كلية، يتم توزيع الأدوار على الشخصيات، لتدخل فيما بعد في تفاعلات تواصلية وتشابك حواري ضمن سياقات تبادلية مختلفة حتى تنتهي المسرحية. ويستلزم التشخيص الارتجالي الانطلاق من بعض مبادئ ستاسلافسكي كالمعايشة الصادقة للدور، وتشغيل الذاكرة الانفعالية، والعيش في نفس الظروف القائمة فعلا، واعتماد المشابهة في استذكار الأحداث والمواقف المسرحية. ومن هنا، فالمسرح الناجح ضمن دراما الأطفال هي التي يكتبها الأطفال ارتجالا، ويخرجها الأطفال ارتجالا، ويشاركهم فيها الجمهور الحاضر ارتجالا عن طريق تكسير الجدار الرابع بالمفهوم البريختي أو بالمفهوم الاحتفالي كما عند عبد الكريم برشيد. وعليه، فالارتجال في مسرح الطفل أو مسرح الأطفال يبدأ بتصور نص ارتجالي، والتدريب عليه ارتجاليا، وتحويله إلى فرجة ركحية ارتجالية على مستوى اللغة والحركة والإيماءة والكوريغرافيا والتواصل مع الجمهور. ومن المعروف أن الارتجال تقنية درامية من الصعب التحكم فيها فنيا وجماليا وإخراجيا ، إلا إذا أوتي الممثل والمخرج كفاءة كبيرة وخبرة جيدة بفن المسرح الشامل. ومن ثم، فالارتجال له سلبيات وإيجابيات، فالعمل" على نص بطريقة ارتجالية يمكن أن يقال أن له فوائد إقامة اتصال مباشر بين الممثلين وبين نبض المسرحية. فالتمسك بالنصوص يعوق، لامحالة، عملية الاستقصاء الطبيعي ، والاتصال بالعين والكلمات كثيرا ما يتدخل في طريق الإحساس. والعملية الآلية لملازمة المرء مكانه وترقب الإشارات بالعمل، تغلب على العملية العضوية للسمع والإحساس والاستجابة. إن النصوص التي ترتجل يجب أن تصبح أكثر حيوية، ومكسوة باللحم تماما، ويجب أن يكون الممثلون أكثر علما واستجابة. وأما الحذر من هذه التقنية فيمكن في أنها تقنية دقيقة تعني مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الممثل والمخرج معا. فالممثلون يشعرون أولا بالافتقار إلى أي أمن- فليست هناك سطور أو قالب شكلي يواصلون العمل على هداها- ويجب على المخرج أن يوفر ذلك الأمن بخلق جو عام صريح، مرهف الحس. وبينما يقيم المخرج هذه الثقة والاحترام المتبادلين فإنه يجب أن يحرك التدريبات بلا تطفل، في اتجاه إيجابي، بإيجاد ثروة من التحديات الإبداعية في الممثلين، وحساب استجاباتهم في ظل أحداث المسرحية. وأخيرا، بأن يكون مرنا، دون أن يضل طريقه، ويسمح بالتدريبات بأن تتدهور لغياب أهدافها."[10] إذا، فالارتجال ليس تقنية دراماتورجية سهلة، بل تتطلب دراية كبيرة بفن المسرح وطرائق التشخيص والإخراج، و إلمام جيد يتم تحبيك النص المسرحي. ولابد للارتجال أن ينصب على مواضيع هامة وجادة ومصيرية بالبحث عن الجديد واللامتوقع والغريب من المشاهد والأحداث، بدلا من تناول المواضيع الاجتماعية المعروفة التي تتسم بالرتابة والتكرار والاجترار والتداول العقيم. وينتج عن هذا تحول الارتجال الدرامي إلى إسكتشات فكاهية ومشاهد هزلية لاتترك أثرا جماليا راسخا على الراصد المتتبع.
خاتمــة
هكذا، يتبين لنا أن الارتجال فن مسرحي قديم، ظهر مع الإنسان البدائي الذي كان يعبر عن حاجياته الذهنية والوجدانية والحركية عبر التنشيط الذاتي، وإبداع فرجات ارتجالية عفوية وتلقائية وطبيعية تعبر عن مدى حريته الشخصية الفطرية والتلقائية والعفوية والفورية. لكن الارتجال سيتطور مع مدارس المسرح ومذاهبه الفنية والجمالية، وكذلك مع طرائق الإخراج المعاصر الذي أعطى أهمية كبيرة للارتجال ؛ لكونه المعيار الحقيقي لتكوين المدرب وتأطيره عقليا ووجدانيا وحركيا ، وبناء شخصيته الوجودية والفنية. كما أصبح الارتجال أفضل طريقة لتحقيق التواصل بين الممثل والراصد المشاهد. وعلى العموم، ينصب الارتجال على تصور النص المتخيل، وتوزيع الأدوار التمثيلية، والانتقال إلى التدريبات الارتجالية، وتشخيص المواقف المرتجلة على الركح على ضوء تصور ميزانسيني وسينوغرافي يتسمان بدورهما بالخاصية الفورية والارتجالية.
[1] - أحمد بلخيري: معجم المصطلحات المسرحية، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2006، ص:17؛ [2] - د.حسن المنيعي: المسرح والارتجال، عيون المقالات، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1992م، ص:25؛ [3] - - د.حسن المنيعي: المسرح والارتجال،ص:25؛ [4] - أحمد زكي: الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:263؛ [5] - د. سعد أردش: المخرج في المسرح المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ص:26؛ [6] - أحمد زكي: الإخراج المسرحي، ص:211-212؛ [7] - أحمد زكي: الإخراج المسرحي، ص:99؛ [8] - أحمد زكي: الإخراج المسرحي، ص:132؛ [9] - أحمد زكي: الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:263-264؛ [10] - أحمد زكي: الإخراج المسرحي، ص:269؛
|
|
|
|