ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

أحمد عبد المعطي حجازي - مصرمدينة فاضلة .. أو تكاد!

أحمد عبد المعطي حجازي - مصر

 

أنا عائد من هونج كونج بعد زيارة وقفت فيها أمام هذه المدينة بإعجاب‏,‏ وشعرت بالرضا والتفاؤل‏.‏ ولمست بيدي قدرة الإنسان علي أن يبعث من موته الطويل‏,‏ ويحطم أغلاله الموروثة‏,‏ ويخرج من الظلمة الدامسة إلي النور الساطع‏.‏

وأنا رجل لم تعد تخدعني المظاهر أو تسرقني الشعارات الجوفاء‏.‏ فضلا عن أن هونج كونج تعمل أكثر مما تتكلم‏,‏ وتمارس الحرية أكثر مما تتغني بها‏.‏

وقبل عقود قليلة‏,‏ لم تكن هونج كونج هذه إلا جزيرة متخلفة بائسة في جنوب الصين‏,‏ وضع البريطانيون يدهم عليها في أعقاب حرب الأفيون التي شنوها علي الصين عام‏1840,‏ واضطروها بعدها للتوقيع علي معاهدة استولوا بها علي الجزيرة‏,‏ وجعلوها محطة لتجارتهم في جنوب شرق آسيا‏,‏ وواصلوا وجودهم فيها بعد قيام الصين الشعبية التي نجحت أخيرا في عقد اتفاق جديد معهم استعادت به سيادتها علي هونج كونج‏,‏ وإن وافقت علي تأجيل ممارستها السياسية لهذه السيادة فترة انتقالية تمتد إلي منتصف هذا القرن ويتم خلالها مد الجسور‏,‏ وتطبيع العلاقات بين نظامين مختلفين يتطوران معا ليلتقيا في منتصف الطريق‏.‏ النظام الاشتراكي في الصين الأم الذي يحاول التوفيق بين الملكية العامة والمبادرات الفردية‏,‏ والنظام الحر في هونج كونج الذي يزود المبادرات الفردية بما تنهض به الدولة من خدمات عامة‏.‏ ويبدو أن الأمور في هونج كونج تسير بنجاح في ظل هذا الاتفاق‏.‏

***‏
هونج كونج تضم نحو سبعة ملايين من السكان الذين يشتغلون بالتجارة والصناعة‏.‏ صناعة متقدمة لأنها تتمتع بكل ما تتيحه لها الحرية‏:‏ التفكير العقلاني‏.‏ والانفتاح علي خبرات العالم‏,‏ والتمويل المتعدد الجنسيات‏,‏ وما تثيره المنافسة من حوافز‏,‏ والامتثال لحكم القانون‏,‏ والنتيجة اقتصاد قوي ونمو مطرد يوجه الطاقات ويستوعب الخبرات ويلبي المطالب والحاجات‏.‏

هونج كونج ـ كما سمعت ـ لاتعرف مشكلة البطالة‏,‏ وتكاد الجريمة تكون فيها معدومة‏.‏ والدولة عيونها ساهرة وأدواتها حاضرة‏.‏ وعند الضرورة يخرج الشعب ليصحح الخطأ ويعدل الميزان‏,‏ كما حدث قبل سنوات عندما تجاوز حاكم المدينة حدوده فخرج إلي الشوارع مليون مواطن يهتفون بسقوطه حتي سقط‏,‏ دون أن تقع خلال ذلك حادثة واحدة‏,‏ لا من جانب الجماهير الغاضبة‏,‏ ولامن جانب السلطات التي لم تكن تحافظ علي أمن الدولة‏,‏ وحدها‏,‏ بل كانت تحافظ أولا علي أمن هذه الجماهير‏,‏ وتمكنها من استعمال حقها في التعبير عن رأيها‏,‏ وانتخاب حكامها وإسقاطهم أيضا‏!‏

وهونج كونج مدينة نظيفة مكنوسة‏,‏ مغسولة‏,‏ منظمة‏,‏ مرتبة‏,‏ المنازل‏,‏ والمتاجر‏,‏ والمقاهي‏,‏ والمطاعم‏,‏ والطرقات‏,‏ لامناديل ورق‏,‏ ولا أعقاب سجائر‏,‏ ولا قشر موز‏.‏ وعقوبة البصاق خمسمائة دولار‏!‏

وفي هونج كونج كل شئ هادئ‏,‏ مع أنه في حركة دائبة‏,‏ لا ميكروفونات تمزق السكينة وتزلزل الأسماع‏,‏ ولا أبواق سيارات‏,‏ ولاصيحات باعة يطاردونك في النوم واليقظة‏,‏ ولا متسولون‏,‏ ولا متسولات‏,‏ ولقد تجولت كثيرا في شوارع هونج كونج فلم أصادف إلا متسولا واحدا مقطوع الساقين فعلا لا ادعاء‏,‏ يكسب رزقه بالعزف علي الناي فهو يعطي مقابل ما يأخذ‏,‏ وأكثر مما يأخذ‏!‏

وفي هونج كونج مجتمع كوني أو أممي يذكرنا بالمجتمعات المختلطة التي عرفتها المدن المصرية في القرنين الماضيين‏:‏ صينيون بالطبع‏,‏ وآسيويون آخرون‏,‏ وأوروبيون وأمريكيون وبعض المصريين الذين كان لهم الفضل في ترجمة قصائدي إلي الصينية ونشرها والتعريف بها في عدد من المجلات والمختارات‏,‏ وفي مقدمة هؤلاء مترجم وشاعر مصري شاب يقيم في هونج كونج منذ نحو عشرين عاما توثقت فيها علاقاته بالصين‏,‏ وحصل علي جنسيتها‏.‏ وهو سيد جودة الذي عرفني بمترجم وشاعر مصري آخر يقيم أيضا في المدينة وهو صلاح عليوة‏.‏

لقد حول هذان الشاعران المصريان هونج كونج إلي مهجر صيني يواصلان فيه ما بدأه الشعراء اللبنانيون في المهجر الأمريكي‏,‏ وينطقان بالعربية إلي جانب الناطقين بالصينية‏,‏ والانجليزية‏,‏ واليابانية‏,‏ والفرنسية‏,‏ والالمانية في هذا المجتمع الأممي الناطق بكل اللغات‏.‏

وفي هونج كونج لايسألك أحد عن دينك‏,‏ ولا حتي عن جنسيتك‏,‏ فالدين لله‏,‏ والجنسية لمصلحة الجوازات‏,‏ أما الحياة العامة فلا يوجد فيها إلا العمل الذي تنظمه قوانين ومؤسسات يتساوي أمامها الجميع‏.‏ الصينيون وغير الصينيين‏,‏ البوذيون‏,‏ والمسيحيون‏,‏ والمسلمون‏.‏ وسوي هؤلاء وهؤلاء‏.‏

مجتمع لا أبالغ إلا قليلا اذا قلت انه مجتمع فاضل‏,‏ لا بالمعني الذي نقصده حين نتحدث عن المدن الخيالية التي صورها أفلاطون‏,‏ والفارابي‏,‏ وماركس‏,‏ ولكن بالمعني الذي نفهمه من الحديث عما يمكن أن يتحقق في مدن الواقع من الأمن والحرية والعدل والرخاء‏.‏

ومن الطبيعي أن يستغرب الاشتراكيون هذه الشهادة التي أقدمها عن هونج كونج التي لايرونها إلا مجتمعا رأسماليا‏:‏ فقراء يكدحون‏,‏ وأغنياء يربحون‏,‏ أو كما قال في قصيدته عنها الشاعر الصيني أي تشينغ‏:‏ بورصة كأنها بركة دماء ملوثة‏,‏ ونواد ليلية وساحات للمتعة تفور بشهوة الدم‏.‏ ولاشك أن العدالة في هونج كونج نسبية‏,‏ والمجتمع لا يخلو من ظالمين ومظلومين‏,‏ لكن هونج كونج تقاوم الظلم بالحرية لا بالاستبداد‏!‏

***‏
واذا كانت هونج كونج قد بلغت هذا المستوي من التقدم‏,‏ فالسؤال الذي يمكن أن يخطر لنا هنا هو سؤال الثقافة‏,‏ ماهو مكانها في هذا المجتمع؟ وماهو الدور الذي أدته في وصول هونج كونج إلي ما وصلت إليه؟

والجواب أن الثقافة حاضرة متمثلة في كل ما نراه في هونج كونج‏,‏ لأن كل شيء مقصود ومحسوب‏,‏ وتلك هي الثقافة من حيث هي عمل وسلوك تحدده مطالب الفرد والجماعة‏,‏ وتبلوره التجارب والخبرات الموروثة والمكتسبة‏,‏ وتحوله إلي مثل أخلاقية وعقائد دينية تهدي الانسان إلي الخير‏,‏ وتجعله نافعا لنفسه ولغيره‏.‏

أما الثقافة النظرية فبوسعنا أن نلتمسها في جامعات هونج كونج‏,‏ ومنها الجامعة الانجليزية التي احتلت مركزا متقدما بين أفضل جامعات العالم‏,‏ والجامعة الصينية التي حصل أربعة من الأساتذة العاملين فيها علي جائزة نوبل في العلوم‏.‏ وهذه الجامعة هي التي نظمت المهرجان الدولي الأول للشعر‏,‏ ودعتني لتمثيل الشعر العربي فيه‏,‏ وسوف أحدثكم عنه يوم الأربعاء المقبل‏.‏ فإلي اللقاء‏.‏

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا