ف |
شعر مترجم |
حكمة فوريست غامب عن ديوان "يوجد هنا عميان" (*) لحلمي سالم بنعيسى بوحمالة - المغرب
لا يعدّ حلمي سالم فقط أحد أغزر شعراء جيله إنتاجيّة و أشدّهم مثابرة على الحضور في المشهد الشعري، المصري و العربي، بحيث بلغت حصيلته من المجاميع الشعرية، لحدّ صدور هذا الديوان، اثنتي عشرة مجموعة، و إنّما هو، إضافة إلى هذا، أحد ألفتهم اعتناقا لمبدأ التجاوز الشعري و السعي الحثيث نحو الأنضج و الأرقى و ذلك في مرمى إكساب خبرته الشعرية الشخصية أوفى ما يمكن من التماسك و التّصالب و، بالتالي، الصّدقية. و إذا ما نحن صرفنا النظر عن بواكيره الشعرية، بدءا من ديوانه الافتتاحي "الغربة و الانتظار" (1972)، المشترك مع مجايله رفعت سلام، و "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض" (1974)، و "سكندريا يكون الألم" (1981).. التي تنضوي، بقوة الأشياء، إلى عتبة التدشين الكتابي، مع ما يعنيه هذا من تحرّج و محدودية و قلّة مراس و ضيق أفق، و في كلمة واحدة من انفعال تربّصي بالمسألة الشعرية أكثر منه استحكاما في دواليبها و أسرارها المتأبيّة، فإن إصداراته الموالية، و تحديدا "فقه اللذّة" (1990)، و "الشغاف و المريمات" (1994)، و "سراب التريكو" (1995)، انتهاء ب "الواحد الواحدة" (1997)، لتنهض دليلا قويا و مفحما على حجم الخطوة الكتابية التي أنجزها حلمي سالم و على مدى ارتقاء وعيه الشعري و تنامي مداركه الإبداعية و مكاسبه المعرفية، و هو ما يتكرّس بالملموس في ديوانه الشعري "يوجد هنا عميان"، إذ يبين فيه عن دراية ناجزة ليس ما عدا بالزاوية الملائمة لتمثّل برّانية العالم الموضوعي، أو، لنقل، للإجابة عن قلق و دوخة أيّ عالم قد يجدي القصيدة، بل و بكيفيات اجتراح المفردة الشعرية المقدودة و الكفؤة و التّوليف النابّه و الموفّق، و كذا إعمال المحكيات و الأخيلة و تصريف التغريبات و الإيهامات، في منحى بلورة تموقف متفاعل مع / فاعل في مجريات الواقع المستدرج إلى نطاق القصيدة. يتألف الديوان من ستّ قصائد طويلة - كتبت بين عامي 1995 و 1999 كما تنصّ على ذلك القرينة الميثاقية الواردة في خاتمة الديوان - هي كالتالي: "رفع العيون عن الجثث"، "صعوبة أن تكون رومانتيكيا"، "أجمل مريضة سرطان"، "هيمنة الساق على النص"، "بورتريه الضباط الأحرار"، ثم "صباح الخير أيها المجرمون"، التي تتراوح بين قصائد عنقودية، إن شئنا، تأوي جماعا من المقاطع / القصائد الفرعية، المتوسطة أو غاية في القصر، و الحاملة لعناوين مستقلة لكن ليس إلى حدّ الإحجام عن الاشتغال في نسيج القصيدة الأمّ و المواظفة ضمن إواليتها النصيّة و البنائية و التخييلية المخصوصة، الشيء الذي ينطبق على القصائد، الأولى و الثالثة و الرابعة، في حين ستتخذ القصائد، الثانية و الخامسة و السادسة، هيئات كتلويّة، استغراقية، انسيابية، تبقّعها تشذيرات محكمة و تتمفصل في مواقع متباينة من دفقانها التعبيري أبنية تلفّظية ميكروسكوبية لا حصر لها. على أن اختلاف الهندسة البنائية الشّارطة لهيكلة القصائد و تمظهرها يوازيه، على صعيد آخر، تضاربها من حيث طبيعة التغطية الإيقاعية و نوعيتها، نقصد انضواء قسم من متن الديوان إلى خانة الأسلبة الإيقاعية التفعيلية و انحياز قسم آخر إلى أفق قصيدة النثر و توسّله، كنتيجة، بمعظم المزايا الأدائية التي يخوّلها هذا الأفق، كالتكثيف و الحكي الشعري البليغ و قنص التوضّعات المفارقة و تمرير المشاعر الساخرة، البارعة في دلالتها و إشاريتها. هذا و بقدر ما ترتهن الكتابة في هذا الديوان بروح المشروع الشعري لجيل السبعينات المصري، بقاعدته التصوريّة الصلبة، بنواظمه و استهدافاته، فإنها لتنطبع بالبصمة الخاصة لصاحبها، أمّا تلاوينها و مستدقّاتها فلا تدع مجالا للارتياب في السّبل المنفردة التي انخرط فيها الشاعر، على مسؤوليته و لحسابه الإبداعي الخاص، إثر تفرّق مصائر المجموعة بمجرد ما طرد شعراؤها من أوعائهم غشاوة السبعينات الحلقية، الطوباوية، و أحسّوا، ذاتيا و موضوعيا، أنهم يمكن أن ينتجوا أفضل و هم فرادى بدل الانحشار في تفكير ائتلافي قسري، كانت له دواعيه و مبرّراته في وقت من الأوقات، يغتال الحرية و الاختلاف بينما هما جوهر أيّما تقدم إبداعي كان. و إذن فنحن، في هذا الديوان دائما، بإزاء اقتصاد وفرة شعري يعكس التحقّقات الوازنة و المركّبة التي استحصلها الشاعر على حدة و تشكّل، في الآن عينه، ضربا من قيمة مضافة لمشروع شعري جمعي انتمى إليه شعراء كرفعت سلام، عبد المنعم رمضان، جمال القصاص، حسن طلب، أحمد زرزور..؛ وفرة تسم جملة شعرية تتأنّق في شعريتها سيان و هي تنشرط بالمقوميّة الإيقاعية التفعيلية أو عند تحرّشها بصلادة المعجم النثري و ترتيقها، من داخل الإرغام النثري، إهابات و أنسجة تخييلية خليقة بالانتباه. و في استدعاء هذه الجملة، تلبية لتلفّظات الأنا الشعرية المتكلّمة في رحاب تجربة الديوان و النائبة مناب الشاعر، لمعجم حادّ و جارح، موخز و تقريفي، يهجس بألوان من التّقاطب و المفارقية، و هو ما يبادهنا به انطلاقا من عناوين القصائد إذ نجدنا في خضمّ من الإبدالات العنوانية الصادرة عن حساسية تغريبية مبلبلة للجاري و المألوف، و كمثال تنابذ الجمال و المرض في عنوان "أجمل مريضة سرطان" و تجافي لياقة تحيّة الصباح و بشاعة الجريمة في عنوان "صباح الخير أيها المجرمون"، و يسخّر، أي المعجم، من بين ما يسخّر، رصيدا من التعابير المسكوكة المقترضة من سجلاّت لاهوتية و أخلاقية و فلسفية و من مدوّنات شعبية و سحرية.. في استدعائها، كما قلنا، للغة معتنفة و مهجّنة، بوسائط كنائية و استعاريّة و مجازية لا تعتني بفائض الانزياح التخييلي بقدر ما يشغلها إمداد الإيهام بأجرأته التقبّلية المناسبة، بتقنية تزمينية تنصهر معها الحقب و الدّهور، كما الأحايين و البرهات، في لحظة شعرية صميمة تستثمر سيرورة الزمن العياني و ذبذبته لصالح القصيدة و بما يؤجّج اعتمالها التخييلي، بتفضية تتضافر فيها المكانية المحلية المجتزأ بها من فضاء مصري أرحب، كالدّقي و الجيزة و مدينة نصر و القاهرة..؛ و المكانية القومية المصغّرة، كشاتيلا و العامرية و النجف و صيدا و نابلس و القدس..؛ و المكانية الماكرو - سكوبية، القطرية و الجهوية، كمصر و الولايات المتحدة و باكستان و الشام..؛ زد على ذلك العلاميّة الكوسموبوليتية التي ترشح بها كلّ من بابل و أثينا المستحضرتين في فضاء التجربة. و أيضا و الفاعلية التناصيّة تنحو منحى الاستصداء و إعادة البناء لموارد و مؤثّثات تناصيّة من مظانّ ثقافية مختلفة، و ذلك بما يعضّد التلفّظ الشعري و يوسّع من أفقه الدلالي، إمّا من مرجعيات فلسفية (فريدريش نيتشه)، أو تشكيلية (كلود مونيه، بّابلو بيكاسو)، أو سينمائية (الشريط السينمائي المتحف "فوريست غامب" الذي قام ببطولته الممثل الأمريكي القدير طوم هانكس)..؛ و تتجه وجهة الترميز أو التّقنيع ركوبا على شتات من الهويات و الأسامي الدالة، مثل امرئ القيس و رهين المحبسين و ديك الجن و إبراهيم ناجي و بدر شاكر السياب و قسطنطين كفافيس..؛ مصطفى لطفي المنفلوطي و نجيب محفوظ و سعد الله ونوس..؛ الخضر و السيدة زينب و ابن حنبل و الحلاج و السيد البدوي و أبي العباس المرسي..؛ ابن خلدون و مصطفى صادق الرافعي..؛ كارل ماركس و فريدريش إنجلز و جان بول سارتر و ميشيل فوكو و جان جنيه..؛ عايدة و سالومي و الغجريات و السندباد و راسبوتين و زهران دونشواي و عبد الرحمن عبد ربّه سالم و علاء حمروش و كمال عبد الجواد..؛ سيّد درويش و أمّ كلثوم و اسمهان و عبد الحليم حافظ و شمس البارودي.. إذ تفعل، أي الجملة الشعرية، هذا و تعكف، في تضاعيف اشتغالها، على إلباس الأزمنة و الأمكنة، الأفراد و الجموع، الوقائع و التوضّعات وشاح محكي شعري فطن و موجع يصل حدّ الفانتازيا، من فرط روحه التراجيكوميدية و اكتنازه العبثي، في حين تباشر الأنا الشعرية، القائمة نصيّا و تخييليّا بموجب استراتيجية تذويت سافرة و متقصّدة، سياحتها الأسيانة، و المتفكّهة في آن معا، في أقاليم الاجتماع و السياسة و الثقافة، في سراديب المعيش و الجزئي و المتشذّر، و هي تفعل هذا لا تتراخى، قيد أنملة، عن تدريج موضوع شعري ينتصر لعفاف الجغرافيا و التاريخ، لنبل الأشياء و العلائق و التّماسّات، و تبئير عاطفة مكينة تدافع عن كينونة مغتنية، ممتلئة، و محصّنة ضد ما يلوّث الأبدان و الأرواح و الحيوات و يحطّ من قدر الأفراد و المجتمعات: بجلافة الذي لا يحسن التصرف أفلتت منّي فرصة أن أكون واحدا من النّيتشويّين الخلّص، فأمتلك قوة نسيان الماضي بنظرة من الطرف. لو أنّ معي المفاتيح لأجلست شقيقتي في موضع قطعة من أعمال مونيه، في المتحف الذي أغلقوه على حاملي التّذاكر، و لانكببت على درس أفعال أصابعها بما يتيح لي استخلاص بعض التّباديل: حزام العفّة و حزام الفقر و حزام الدّيناميت، عسى كنّا قبضنا على الناقص في أحشاء المدن. - قصيدة "رفع العيون عن الجثث". مستعيرا، على هذا المنوال، مبدأ النسيان، لكن المبدع و الخلاّق في الجوهر، من فريدريش نيتشه بما هو أحد مفاتيح بوابة الحداثة بحسب التحليل النّيتشوي، النسيان كتملّك لعذرية الكينونة و استحقاقها، و كارتفاع بها من درك التّصدية المتبلّدة لكينونات سابقة إلى صعيد الحضور الوجودي الدال، و مستسعفا الجمالية التشكيلية الانطباعية، ابتداعيّتها التخطيطية و التّلوينية، يوفّق الشاعر إلى تشييد لوحة رامزة ليست الشقيقة المتخيّلة في مهادها سوى تعلّة لاستنهاض تاريخ شامل و تقويله داخل كثافتها الشعرية و الفلسفية. و بالمثل، و من خلال تصوير لا يخلو من نباهة، لن تتحرّج المخيّلة في تغوّر أسطورة الضباط الأحرار، الأسطورة بالمعنى الذي تأخذه في تحليلات و مقاربات رولان بارت، التي خيّمت، من سطوتها و جاذبيتها، على التفكير و الوجدان الجمعيين، مصريا و عربيا، لردح من الزمن، و تفكيكها، بله تسفيهها، شعريا و التعرية، بالتالي، عن هشاشتها التي هي من هشاشة أيّما عقيدة إيديولوجية استبدادية، و من ثمّ فإنها، أي المخيّلة، و هي تكبّ على ذمّ العسكرتاريا و آفة تعليب العقول و تنميط الحيوات تمتدح، علانية أو استضمارا، قيم الحرية و الديمقراطية و الإبداع التي بها تتجوهر حياة الناس و تسمق مكانة الأوطان: حين كان يعلّم الحواريين كيف يصبح الناس تكتيكيين كلّما أقبل المساء كان يعرف أن ذبحة القلب سوف تفسد الخطط، فلمّا واتته الجرأة على مجافاة تاريخ الأب، حيث بورتريه الضباط الأحرار فوق كل هامة، أدرك أن الأطفال وحدهم قد يفلتون من غسيل المخّ إذا صار المدرّسون غير بكباشيين. لماذا إذن خذلته الفلسفة بعد أن أفرخت الذّقون ذاتها، و لم يهرع لنجدته ابن خلدون إثر هجرة الأهل ؟ قبّلني لحظة الخروج من باب الخلق حين كانت السبعينيات مسئولية التلاميذ، لأنه خمّن ثقل الأفئدة لو ظلت محمولة على الأكتاف. - قصيدة "بورتريه الضباط الأحرار". ختاما نقول يتعلق الأمر، في تجربة هذا الديوان، بمجاز عماء مطبق، بسديم تاريخي و روحي من طراز سديم فجر الخليقة، بغياب المعنى و التباس الكلّيات و الجزئيات، و بتعبير أدقّ بالتساؤل، شعريا، عن الفرق بين العماء و الإبصار، و، بالتالي، عن جدوى عيون تحدّق، ملء اتساعها و عافيتها، في ما يشبّه لأصحابها أنه الحقيقة و الحال أن البصيرة، كتلك التي جعلت من فوريست غامب حكيما في محشر من المختلّين ذهنيا و روحيا، لا البصر، هي نبراس أنا شعرية، لا يضيرها في شيء انطفاء وميض عينيها الشاخصتين، مهووسة باستكناه بواطن الموجودات و المرئيات و المواقف و التقاط مغزاها الثاوي أسفل قشرة الاعتياد و غبار الرّتوب.
(*) دار "كاف نون" للنشر و التوزيع، القاهرة 2001.
|
|
|
|