حجازي
والقصيدة الخرساء
فاروق شوشة - مصر
أخيرا أطلق الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي قنبلته
الأدبية المدوية لهذا الموسم, المتمثلة في كتابه الجديد
قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء الصادر ضمن مطبوعات مجلة دبي
الثقافية عدد نوفمبر2008, والشاعر الكبير يهدي كتابه إلي
شعراء الأجيال القادمة علي اختلاف اجتهاداتهم ومراميهم,
بادئا بإعلان موقفه الواضح في أنه لا يعترض علي ما يكتب تحت
هذا الاسم قصيدة النثر, فالكتابة حق مكفول للجميع, ولمن
شاء أن يجرب ما شاء من صورها, وأن يبحث عن الشعر في أي
شكل, وأن يخلط الشعر بالنثر والنثر بالشعر إذا أراد, شريطة
أن يتحلي بشيء من التواضع وسعة الصدر, فيسلم بأن لنا حقا
كحقه في أن نقرأ ما كتب, وأن نناقشه فيه فنقبل منه ما نقبل
ونرفض مانرفض. الكتاب يضم عددا
من المقالات والدراسات والمداخلات نشرها شاعرنا الكبير من
قبل, وعندما جمعها بين دفتي أدي هذا إلي اكتمال الفكرة ووضوح
الموقف, وبيان التهافت لدي من حاولوا أن يصرفوه عن رأيه
المتمثل جوهريا في أن القصيدة تفقد وجودها عندما تتخلي عن
الوزن أو الموسيقي الشعرية, وأن الذين يدعون أن قصيدة النثر
تقوم علي إيقاع جديد يعجزون عن شرح هذا الايقاع أو توضيح ماذا
يقصد به, الأمر الذي أدي إلي أن يكون أحد عناوين الكتاب:
قد أفسد القول وهي عبارة تكملتها: حتي أحمد الصمم, ثم يقول
ان قصيدة النثر لم تستطع بعد مرور أكثر من قرن علي ظهورها أن
تقنعنا بأنها قصيدة, أو بأنها شعر بالمعني الاصطلاحي
للكلام, أو بأنها شعر آخر يكافئ الشعر كما نعرفه أو
يساويه. ومن أخطر ما يراه
البعض أن الوزن في الشعر حلية أو قيمة شكلية تضاف إلي الكلام
فتزيده جمالا في نظر بعضهم, أو تقيده وتضغط عليه وتكبح
جماحه, وتنال من حريته وقدرته علي التعبير في نظر بعضهم
الآخر, وهي نظرة قاصرة بعيدة كل البعد عن الصواب, فالشعر
ليس مجرد معني يمكن ان يستقل بنفسه, والمعني في الشعر لا
يتحقق بدلالة الألفاظ وحدها, بل يتحقق بدلالات الألفاظ
وأصواتها في وقت واحد, وشاعرنا الكبير يؤسفه أن يجد نفسه
مضطرا إلي الدفاع عن البديهيات ومنها حاجة الشعر إلي الوزن,
في لغتنا وفي كل اللغات, فالوظيفة الحيوية التي يؤديها الوزن
في الشعر ليست في حاجة إلي بيان أو توضيح, قصيدة النثر إذن
ثمرة من ثمار الصمت الذي أصبنا به, فنحن خرس لا نقول ولا
ننشد, ثم هو يؤكد في موضع آخر من كتابه: الموسيقي في الشعر
شرط من شروطه, كما أن السرد في القصة شرط من شروطها, فلا
قصة بلا حكاية ولا شعر بلا موسيقي.
ولأن القضايا الأدبية ـ في رأي حجازي ـ لا تسقط بالتقادم,
فلابد من طرحها مرة بعد مرة, وجلاء وجه الحقيقة في خضم حياة
أدبية وثقافية غائمة غاصة بالأكاذيب تصعر خدها للناس وتستعلي
علي الحقائق الخرساء, بعد افتقاد هذه الحياة ـ في كثير من
الحالات ـ إلي نقد جاد نزيه مسئول, ينتشل النقد من غموضه ولا
مبالاته وفوضاه, وأنا أزيد علي هذه الصفات: الغرضية
النفعية, والوصولية, وادعاء الأستذة الجوفاء.
وفي صفحات من البحث العميقق, يتصدي حجازي لتوضيح من أين جاءت
فكرة الثابت والمتحول, التي أطلقها أدونيس وتابعه فيها من
تابعه, ليثبت أن مطلقها الحقيقي هو المستعرب الفرنسي الراحل
جاك بيرك عندما ميز بين البنية الثابتة والظواهر المتغيرة,
مشيرا إلي السؤال الذي طالما طرحه علي الثقافة العربية:
الأصالة والمعاصرة, الارتباط بالينابيع الأولي دون توقف يؤدي
إلي الركود, والتدفق دون انقطاع عن هذه الينابيع يؤدي إلي
الجفاف والضياع, وهكذا أخذ بيرك يتحدث عن الثابتوالمتحول
بهذا المعني, فالثابت عنده هو القانون العام أو هو النظام
الذي يقوم به البناء, أما المتحول فهو الناتج المتحقق
المرتبط بالوقت والظرف, المعرض بالتالي للتحول والتغير.
ولعل من أطرف ما يتضمنه هذا الكتاب القنبلة تسجيله للحوار الذي
دار بين الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي والناقد المفكر
الكبير محمود أمين العالم حول المقصود بالإيقاع في قصيدة
النثر, حجازي يري أنها خالية من الايقاع, ويستطيع أن يثبت
ذلك باختبار مقاطعها الصوتية فلا يجد فيها تكرارا ولا
انتظاما, والعالم يقول إن فيها إيقاعا, لكنه لا يستطيع أن
يبرهن علي مايقول, وهو موقف يشاركه فيه النقاد الذين يتحمسون
لقصيدة النثر باعتبارها مستقبل الشعر العربي.
هذا الكتاب من شأنه أن يبدد الضباب ويوقظ الوعي ويدفع الآخرين
الي قول الحق دون مراوغة أو التباس, وياعزيزي حجازي ان افضل
دفاع تقوم به عن الشعر الحقيقي هو صدور مجموعتك الشعرية
الجديدة طلل الوقت التي طال انتظارها, ليعرف الناس الفرق
الهائل بين الشعر واللاشعر, بين القصيدة الناطقة والقصيدة
الخرساء.
|