 بقرة
حاحا
عامر بوعزة - تونس
وأنت تشاهد على شاشة إحدى القنوات الفضائية الخاصة المدرب الوطني المساعد نبيل
معلول يُجهد نفسه في إقحام عبارات فرنسية في تصريحاته الفورية، تشعر ولا شك
بالخجل والشفقة حيال فئة عريضة من الناس لم تستطع بعد أن تتصالح مع ذاتها وأن
تحدّد بشكل صارم ملامح هويتها وأن تعتز بمقومات شخصيتها الوطنية.
يحدث هذا في ظلّ مفارقة عجيبة فالدراسات اللسانية تؤكد قُـرْب العامية التونسية
من اللغة العربية الفصيحة وتثبت علميا أن التونسيين هم أقدر العرب على نطق حروف
المعجم العربي دون عجمة أو لكنة وفي ذات الوقت
تعمل عديد المؤسسات في بلادنا على جعل المنطوق اليومي خليطا عجيبا من المفردات
واللهجات مع ما يعنيه هذا التذبذب اللغوي من ارتباك فكري واهتزاز وجداني عنيف. إنه
لمن المؤسف حقا أن يظلّ الفكرُ على مدى أكثر من نصف قرن يدور على نفسه دوران
بقرةحاحا التي رثاها الشيخ إمام، دورانا معصوب
العينين يصل إلى حيث بدأ ويبدأ من حيث وصل دونما رغبة حقيقية في الإفلات مناللامعنى
واللاجدوى..
فالعناصر الأساسية المحددة للهوية لم تعد موضوعا للجدل المخصب والبنّاء بقدر ما
هي مضيعةٌ للوقت والجهد والمال، وعلى الذين يعتقدون أن اللغة العربية لا تعبر
عن أفكارهم أن يستخدموا غيرها من اللغات في مجالسهم الخاصة وفي حياتهم اليومية
لأن ذلك شأنهم وحدهم أما إذا ما دعت الضرورة إلى أن يتحدّثوا عبر جهاز رسمي
فعليهم أن يتنبهوا إلى خطورة المسألة وإلى أن قنواتنا الفضائية تنقل صورتنا
وصوتنا إلى الخارج ومن تداعيات هذا السلوك غيرالمسؤول
أن يدعم فكرة الاغتراب التي ينعتنا بهاالمشارقة
على وجه الخصوص.
ولا شكّ أن تسريب الملل من اللغة العربية إلى أذهان الناشئة عبر استخدام هذا
الخليط المرعب من التراكيب المفككة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لا
يتناقض فقط مع الثوابت الثقافية التي تتصدّر الدستور وإنما يتعارض مع الإرادة
السياسية الرسمية في جعل اللغة العربية أداة التواصل في الداخل والخارج وعلى
الذين يسيرون في هذا الاتجاه الانتباه إلى أنهم يمثلون جيوب الردة والطابور
الخامس في معركة ضارية تستخدم فيها كل الأسلحة لمقاومةالانبتات
والاغتراب والتصحر الثقافي.
لست أبالغ إذ أقول إنّ مسألة التذبذب اللغوي التي غذتها القنوات الإعلامية
الخاصة في السنوات الأخيرة قد أعادت إلى الواجهة مسألة خلنا أنها قد انتهت
وطويت إلى الأبد وفتحت ملفا قديما كان من الضروري غلقه والتيقظ لغيره من
المشكلات الحضارية التي تتهدّد حاضرنا ومستقبلنا تحت مظلة العولمة. وبذلك تكون
هذه المؤسسات قد أعادتنا سنوات إلى الوراء في الوقت الذي كنا نعلق فيه آمالا
عريضة عليها كي تدفعنا سنوات إلى الأمام.. وقد طغى في فترة من الفترات إحساس
عارم لدى بعض أصحاب القرار بأنّ هذا الخليط اللغوي المشبوه هو عنوان الحضارة
والتمدن والانتماء إلى العصر وأن اللغة العربية ينبغي أن تصبح جزءا من ذكريات
الماضي وقد يفاجئك أحدهم بقوله إن الناس لا يفهمون العربية وأن عليك أن ترخي
لهاتك وأن تبرطم بشفتيك عبارات ركيكة من معجم الاستعمار الثقافي حتى تُـفهم
القوم والحال أن الواقع ينفي ذلك ويدحضه جملة وتفصيلا..
وصفوة القول في هذا..إن حفظ اللغة العربية ونشرها عبر وسائل الإعلام العمومية
والخاصة جزء من النضال اليومي من أجل البقاء في عالم أصبح فيه كل شيء مشاعا
ومنتهبا وإن الواجب يحتم على أصحاب القرار أن يضربوا بقوة على أيدي
العابثين بها والداعين بالتنظير والممارسة إلى تجاوزها .ولئن
كانت الضرورة تحتم اللجوء إلى خدمات مدرب فرنسي لتحقيق الانتصارات الكروية فإن
الضرورة كذلك تحتم على من يحيطون به أن يتكلموا في قنواتنا
التلفزية اللغة العربية التي نعرف أنهم يتقنونها جيدا بدليل أنهم
يستخدمونها عندما يدعون إلى تحليل المباريات الرياضية في القنوات الخليجية. |