لماذا
نحتفل بحافظ وشوقي؟
أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر
اليوم يختم المجلس الأعلي
للثقافة احتفاله بالذكري الخامسة والسبعين لرحيل شاعر النيل حافظ ورفيق دربه في
البداية إلي النهاية أمير الشعراء أحمد شوقي.
لقد ولد الشاعران في تاريخين متقاربين بين أواخر ستينيات القرن التاسع عشر وأوائل
سبعينياته, ورحلا في العام الثاني والثلاثين من القرن العشرين, لا يفصل بين
رحيل حافظ ابراهيم في أواخر يوليو من ذلك العام ورحيل شوقي في أواسط أكتوبر إلا أقل
من ثلاثة شهور.
هكذا قدر للشاعرين ألا يفترقا أبدا وهما علي قيد الحياة يتسابقان فلا يكاد أحدهما
يسبق حتي يلحقه صاحبه, ولا بعد أن رحلا فاقترنا معا بذاكرتنا, لا تكاد تحل ذكري
الأول حتي تستدعي أختها, هكذا يساعدنا القدر علي أن نخلغ من خيالنا علي الواقع ما
تتحول به الحقيقة إلي أسطورة. فلا يعود حافظ وشوقي مجرد شاعرين ظهرا ورحلا بعد أن
تركا لنا مجموعة من القصائد, وإنما يصبحان رمزا حيا للبلاد التي أنجبتهما,
والثقافة التي ينتميان لها, والعصر الذي عاشا فيه.
ولقد كان من حظي أن أشارك في الاحتفال بحافظ وشوقي ثلاث مرات حتي الآن. الأولي في
الذكري الثلاثين لرحيلهما عام1962, والثانية في الذكري الخمسين والأخيرة في
الاحتفال بالذكري الخامسة والسبعين الذي افتتحه الاستاذ فاروق حسني يوم الأحد
الماضي في المجلس الأعلي للثقافة وشارك فيه إلي جانب المصريين عدد من كبار الشعراء
والنقاد المشارقة والمغاربة منهم سليمان العيسي. وشوقي بغدادي من سوريا, ويوسف
الخطيب من فلسطين وجوزيف حرب من لبنان, وحيدر محمود, ويوسف بكار من الأردن,
ومنصف الوهايبي, ومحمد الهادي الطرابلسي من تونس, وأمجد سعيد من العراق,
والصديق المجتبي من السودان.
لماذا نحتفل بحافظ وشوقي؟
نحتفل بهما لأنهما شاعران. ونحن في حاجة للشعر, في هذا العصر كما كنا في حاجة
إليه في العصور الماضية.
نحن في حاجة للشعر لأننا في حاجة لأن نشعر ونحس ونحلم ونتخيل ونفكر وننفعل ونقول.
نحن في حاجة لتلك اللغة الأخري, تلك اللغة السحرية التي نلعب بها, ونغامر
فيها, ونستعيد معها حريتنا وبراءتنا, ونعرف أنفسنا, ونعرف العالم, ونتحد
به, ونتحول معه إلي صور ورموز وألوان وأنغام. والذين يظنون أن زمن الشعر ولي,
وأن هذا العصر لا يتسع للشعر يردون الإنسان إلي الحيوان الذي كانه, ويرون العالم
بعين واحدة!
نحن في حاجة للرفاهية المادية, لكننا أيضا في حاجة للجمال. ونحن في حاجة
للعلم, لكننا في حاجة كذلك للحكمة. ونحن في حاجة للنظام, لكننا في حاجة
للحرية, وربما كانت حاجتنا للحرية أكثر الحاحا. ولا تغني أي من هذه الحاجات عن
الأخري.ولا تتعلق بوقت دون وقت وإنما هي مطلب دائم وشرط جوهري من شروط الحياة.
فاذا كانت الحاجة للشعر لا تتغير من عصر لعصر, فالشعر نفسه يتغير ويتجدد, لأن
الشعر إن كان واحدا في جوهره, فهو كثير في صوره وأشكاله. والآراء تختلف حوله,
لا بين ناقد وناقد, أو بين قاريء وقاريء آخر فحسب, بل بين القاريء ونفسه,
وبين مقال للناقد ومقال.
إن الذي كنا نقوله عن حافظ وشوقي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الذي مضي لم
نعد نقوله اليوم. والذين عاصروهما من النقاد غيروا آراءهم فيهما أو عدلوها علي
الأقل المازني الذي كان يقول في شبابه عن شعر حافظ لو كان للأدب حكومة تنتصف له من
المسيء وتكافيء المحسن لكان أقل جزاء لحافظ علي ما ارتكب من الشعر أن يبتاع ما
اشتراه الناس من كتبه ثم يحرقها بيده لأن شعره جناية علي الأدب. وأنت تعلم أن من
الشعر ما يكون آثما ومنه ما هو بريء صالح, أما الآثم فهو الذي يفسد الذوق ويعود
الناس الكذب ويضلل النفوس, وشعر حافظ من هذا النوع ــ أقول إن المازني الذي كان
يرمي شعر حافظ بهذه التهم ويجرحه هذا التجريح هو الذي أخذ يستغفره بعد رحيله ويقول
لقد افتتحت سيرتي في الكتابة بأن نقدت حافظا رحمه الله في سلسلة مقالات كنت أعتز
بها وأعتدها شيئا ثمينا فجمعتها ونشرتها في كتاب بيع من نسخه القليل وتكدس أكثرها
عندي فبعته لبقال رومي ليلف في ورقاته ماشاء من جبن وزيتون أو يفعل بها ما هو شر من
ذلك. وقلت وقد خلصت أنفاسي واستراح قلبي هذا خير! فما يستحق مثل هذا النقد إلا
هذا المصير!
والعقاد الذي كان يقول عن شعر شوقي إنك تعود إليه فلا تري فيه مما لم تسمعه من
أفواه المكدين والشحاذين إلا كل ما هو أخس من بضاعتهم وأنجس من فلسفتهم, هو الذي
يقول عن شوقي بعد رحيله كان أحمد شوقي علما في جيله, كان علما للمدرسة التي
انتقلت بالشعر من دور الجمود والمحاكاة الآلية إلي دور التصرف والابتكار, فاجتمعت
له جملة المزايا والخصائص التي تفرقت في شعراء عصره, ولم توجد مزية ولا خاصة قط
في شاعر من شعراء ذلك العصر إلا كان لها نظير في شعر شوقي من بواكيره إلي
خواتيمه.
والذي نجده في كتابات العقاد والمازني الأولي عن شوقي وحافظ من قسوة تبلغ حد التجني
نجده في كتابات طه حسين الذي لم يكن أقل عنفا ولا أكثر إنصافا!
وكما كان موقف المازني والعقاد وطه حسين من حافظ وشوقي كان موقفنا وموقف جيلنا
منهما, وربما ركب بعض صغار الحداثيين نوعا رخيصا من الحداثة لا يستطيع أن يبرر
وجوده إلا بإنكار غيره, ولا يجد في شعر الشاعرين الكبيرين إلا أنه استعادة للماضي
وتكرار للقديم الموروث.
نحن إذن في حاجة لامتحان هذه المواقف المختلفة وهذه الآراء المتناقضة لنعرف أين
الصواب وأين الخطأ, ولنبحث عن جواب للسؤال الذي كان يلح علينا في احتفالنا الأخير
بالذكري الخامسة والسبعين لرحيل الشاعرين.. ماذا بقي لنا منهما؟!
(نقلاً عن الأهرام)
|