الذين يقرأون شعر البارودي فيتهمونه
بالتقليد, لأنه يعارض الشعراء
القدماء, ويستعير لغتهم أحيانا,
|
حافظ ابراهيم واحمد شوقي |
ويستدعي عالمهم ـ هؤلاء السادة
الأفاضل لا يحسنون القراءة, ولا
يصبرون علي تكاليفها.
ونحن لا نستطيع أن نتصدي لنقد الشعر
والحكم عليه إذا اكتفينا بقراءة سهلة
متعجلة تتحكم فيها الانطباعات الأولي
أو الأحكام المسبقة التي نحاول ـ من
خلال القراءة ـ أن نجد تبريرا لها أو
برهانا عليها.
ولاشك في أن البارودي عارض بعض
الشعراء القدماء. ولاشك في أنه تأثر
بلغة البادية العربية, والتزم في
بعض قصائده عمود الشعر القديم فوقف
علي الأطلال, وتغزل في النساء,
ووصف الرحلة والراحلة, لكنه لم يكن
في ذلك مقلدا, وإنما كان يستعيد
لنفسه ولبلاده ثقافة كانت في العصور
التي سبقت ظهوره قد اندثرت, ولغة
كانت قد أصبحت غريبة بعيدة حتي عن
متناول المشتغلين بها من الكتاب
والشعراء.
وما علينا إلا أن نقرأ ما نقلته لنا
التواريخ والموسوعات من شعر
الإدكاوي, وإسماعيل الظهوري,
وعامر الأنبوطي من المصريين, وجعفر
بن محمد السقاف من شعراء الحجاز,
وبطرس كرامة من لبنان, لنري إلي أي
حد فسدت اللغة, وانحط الذوق,
واختلطت الفصحي بالعامية, وابتعد
الشعراء عن الحياة الجادة, وتحول
الشعر علي أيديهم إلي تهريج ماجن,
وعبث ركيك, كما نجد في قول القائل
فيما يقرأ من أوله لآخره, كما يقرأ
من آخره لأوله:
ألغ من نم فمن نم غلا!
وكما نجد في قول الآخر:
اضربوا مندلا لنا يا ثقاتي
ربما يحصل المني ولعلا
دخنوا دخنة التهاطيل قولوا
يا طهاطيل طهطهيلات طهلا!
في تلك العصور كانت العربية الفصحي قد
اعتزلت الحياة اعتزالا تاما, وانزوت
في الجامع الأزهر الذي اتخذها مجرد
آلة لحل رموز النصوص الدينية, علي
حين كانت التركية والفارسية هما
المستخدمتين في الإدارة وفي أوساط
النخبة الحاكمة. ولم تكن نسبة
القادرين علي القراءة بين المصريين
تزيد علي ثمانية في المائة, ولم تكن
المطبعة قد دخلت مصر بعد. ولنقرأ
هذه السطور من الأمر الذي أصدره سعيد
باشا ابن محمد علي باستخدام اللغة
العربية في دواوين الحكومة لنزداد
علما بما كانت عليه من ضعف:
إن الجاري ـ والحالة هذه بالدواوين
وسائر الجهات ـ في خصوص المخاطبات
المتعلقة بالقضايا وإدارة المصالح,
البعض تركي والبعض عربي, ومن أجل
ذلك حاصل تداخل الأشغال في بعضها...
وبما أنه يجب تمشية المصالح علي طريقة
واحدة لمنع حصول ما يماثل ذلك, إذ
أنه من المعلوم أن معظم أشغال هذه
الديار ومصالحها إنما تنتهي
بالعربي, فقد تعلقت إرادتنا أنه من
الآن تحصل المباشرة في الكتابة,
بالعربي كما ذكر...!
كيف كان باستطاعة البارودي أن يعيد
الحياة للشعر قبل أن يعيد الحياة للغة
التي سيكتبه بها؟
واللغة بالنسبة للشاعر ليست مجرد أداة
نقل أو اتصال كما هي بالنسبة للرجل
العادي, أو للكاتب الذي لا يريد من
اللغة إلا أن تحمل لغيره ما يريد من
أفكار وأخبار..
اللغة بالنسبة للشاعر غاية لا
وسيلة.. ومعني هذا أنه لا يستخدم
اللغة كما هي, ولا يلتزم ما تدل
عليه مفرداتها كما نجدها في المعجم,
ولا يكتفي بما نملكه في اللغة ملكية
مشتركة, وإنما يحمل اللغة ما لم تكن
تحمله, ويستخدم أدوات لا تستخدم في
لغة النثر أو لغة الاتصال اليومي
كالأوزان والرموز والصور, ويقيم بين
المفردات علاقات تولد منها معاني
جديدة, وتضيف إليها ظلالا وإيحاءات
وإيماءات نجدها في القصيدة ولا نجدها
في أي نص آخر.
والشاعر بما يملك من موهبة, وبما
يستخدم من أدوات يخلق لغة جديدة
نتلقاها عنه لنستمتع بما فيها من
جمال, فالجمال هو المقصد الأول الذي
يسعي له الشاعر ونسعي له معه, لأن
الجمال في القصيدة هو خالق المعني.
والشاعر لا يستطيع أن يتصرف في اللغة
أو يستخدمها علي هذا النحو الخلاق,
إلا إذا كان يملكها كما يملك قدرته
علي التنفس. وتلك هي المعجزة التي
حققها البارودي.
إنه لم يقنع من اللغة بما استطاع أن
يقنع به منها شاعر مثل جبران خليل
جبران, الذي يفضله أدونيس علي كل
الشعراء العرب المحدثين, رغم أن
لغته العربية كانت متواضعة, ولم يكن
يستنكف فيها من استخدام التراكيب
اللغوية الدارجة, وخلط العامية
بالفصحي, كما في البيت الذي يستخدم
فيه الفعل تحمم بمعني استحم:
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور؟
أو في قوله البالغ الركاكة:
لكن هو الدهر في نفسي له أرب
فكلما رمت غابا قام يعتذر
يقصد أنه كلما طلب من الدهر أن يتيح
له الحياة في الغاب, أي في أحضان
الطبيعة, وقف الدهر له بالمرصاد,
واعتذر عن أن يحقق له ما تمناه!
وأنا لا أشك في شاعرية جبران خليل
جبران التي تمثلت في مؤلفاته النثرية
أكثر مما تمثلت في أشعاره القليلة,
لكني لا أتردد في أن أقول ـ كما قلت ـ
إن لغة جبران كانت متواضعة, وهو
معذور في ذلك إلي حد ما, فقد غادر
لبنان إلي الولايات المتحدة وهو بعد
شاب في نحو العشرين لم تنضج لغته,
ثم هجر الكتابة بالعربية وهو في نحو
الخامسة والثلاثين ليكتب
بالإنجليزية, حتي غادر الدنيا قبل
أن يبلغ الخمسين.
من هنا كانت لغته ـ كما رأينا ـ
ضعيفة, لا تدين لها العربية
الحديثة, ولا تدين لصاحبها, كما
تدين للبارودي الذي لم يتلق لغته من
معاصريه, كما فعل جبران, وإنما
تلقاها من مصادرها القديمة, وتمثلها
وعاشها في شعره وفكر بها وتخيل
وانفعل, حتي استطاع في النهاية أن
يرد إليها الروح ويسلمها حية لمن ظهر
بعده من الكتاب والشعراء.
***
البارودي لم يقنع من اللغة بما يعبر
به عن مثل الخواطر والأفكار التي عبر
عنها جبران, وإنما أراد من اللغة أن
يعرف بها تراث الشعر العربي كله,
وأن يبعثه حيا من جديد, أراد من
اللغة أن تعود بكامل طاقتها
وحيويتها, وأن تتسع للحاضر
والمستقبل, كما اتسعت للماضي, إذن
فلابد من امتلاكها كلها بكل ما تحقق
فيها منذ قصد فيها الجاهليون
قصائدهم, وعلقوا معلقاتهم حتي ظهر
فيها أبو نواس, والبحتري, وأبو
تمام, والمتنبي, والمعري.
من هنا معارضات البارودي لهؤلاء
الشعراء, ومختاراته من قصائدهم,
ومن هنا طللياته, وغزلياته,
وخمرياته, وطردياته, وحماسياته.
والبارودي في كل ذلك لا يقلد, بل
يملك ويحوز. المقلد فقير معدم يمد
يده للآخرين ويستجديهم, والبارودي
الذي ينطق بلسان البدو والحضر,
والذي يعارض شعراء القرن التاسع,
كما يعارض شعراء القرن الثالث عشر,
غني بما يملكه من هذا التراث
الحافل.
المقلد لص يتسلل إلي شعر غيره يحاول
أن يدعيه ويضع اسمه عليه, لكنه يفضح
نفسه لأن أدواته قاصرة حتي عن أن
تمكنه من التقليد المتقن.. أما
المالك فيستخلص أجمل ما سبق إليه
السابقون, فإذا تمكن منه صار ملكا
له. وهذه الملكية المشتركة خاصية لا
تتحقق إلا في فن الشعر, لأنه فن
اللغة, واللغة ملك لجميع الناطقين
بها, والفرق هائل بين دعي يقلد نصا
لا يستطيع أن يضيف إليه شيئا من
عنده, بل إن النص هو الذي يملي عليه
ما يقول, وشاعر حقيقي يحترم
التقاليد ويطوعها في الوقت نفسه لما
يريد. وهذا هو البارودي الذي يقول
عن نفسه:
ملكت مقاليد الكلام وحكمة
لها كوكب فخم الضياء منير
فلو كنت في عصر الكلام الذي انقضي
لباء بفضلي جرول وجرير
ولو كنت أدركت النواسي لم يقل
أجارة بيتينا أبوك غيور
وما ضرني أني تأخرت عنهم
وفضلي بين العالمين شهير
فيا ربما أخلي من السبق أول
وبذ الجياد السابقات أخير!
ليس كل من عاد للتراث القديم
مقلدا.. والمغرضون وحدهم والسذج
الأغرار هم الذين يخلطون بين التقليد
وإحياء التقاليد.
***
التقليد ـ كما تقول المعاجم ـ هو
اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل
من غير نظر وتأمل في الدليل. وهو
غير التقليد بمعني المأثور المتوارث
الذي يتداوله الناس ويرونه قاسما
مشتركا يجمع بينهم, ويجمعهم
بأسلافهم, ويعبر عن شخصيتهم
القومية.
والتقليد بهذا المعني الأخير يستخدم
في الأغلب بصيغة الجمع, فيقال
تقاليد إشارة لتلك المنظومة من
الأعمال والرسوم التي اصطلح الناس علي
مراعاتها في بعض الأمور المتصلة
بالنشاط القومي. وإذا كان التقليد
بمعني المحاكاة مستهجنا, فالتقليد
بمعني احترام المأثورات مقبول
ومحمود.
غير أن التقليد بمعني الاتباع لا
يستهجن في كل حال, فالمشتغل بكل فن
أو صناعة لابد أن يبدأ بتقليد من
يتتلمذ عليهم ويتعلم منهم, حتي
يسيطر علي أدواته ويتمكن منها,
ويصبح قادرا علي أن يستقل بأسلوب
خاص, كما أن التقاليد تتطور وتتغير
فيحافظ بعضها علي حيويته وقدرته علي
أداء وظيفته, ويجف بعضها الآخر
ويتحجر ويموت, لأنه لم يعد قادرا
علي الاستجابة لحاجات العصر ولم يعد
قادرا علي العطاء. وهذا هو المحك,
فنحن نحكم علي لغة الشاعر بما أدته لا
بما تنتمي إليه من تيارات ومذاهب.
ولاشك أن الشعر الذي نجده في بعض
قصائد البارودي يفوق الشعر الذي نجده
في دواوين الكثيرين ممن ظهروا قبله
وممن ظهروا بعده. وهذا هو الذي
يهمنا, القيمة الشعرية التي تضمنتها
القصيدة سواء كتبت بلغة عصرية أو بلغة
تقليدية. فاللغات الشعرية تتعايش في
العصر الواحد الذي يضم المجددين
والمحافظين. والتقاليد القديمة تبعث
من جديد في الأدب والفن, والشاعر
الواحد ربما كان في جانب من شعره
مجددا وفي جانب آخر محافظا.
شوقي الكلاسيكي في ديوانه رومانتيكي
في مسرحه. وفيكتور هيجو زعيم
الرومانتيكية الفرنسية كان يكتب بلغة
كلاسيكية نقية, والرسام بابلو
بيكاسو جمع كل المذاهب في فنه, فكان
انطباعيا, وكان تكعيبيا, وكان
سورياليا. والشاعر أبوللينير,
الذي تزعم حركات التجديد الفرنسية عقب
الحرب العالمية الأولي كان يقول إن
الروح الجديدة تدافع قبل كل شيء عن
الواجب والنظام, أي عن ميراث العقل
الفرنسي.
وما يقال عن هؤلاء يقال عن
البارودي, فالبارودي الذي عارض
النابغة والمتنبي, وذكر المواضع,
وحن لأراك الحمي, هو البارودي الذي
ينظم في وزن لم ينظم فيه العرب من
قبل, ويرثي ولده فيستخدم اللغة
البسيطة التي يستخدمها كل من تفطر
فلبه بهذا المصاب الأليم:
كيف طوتك المنون يا ولدي
وكيف أودعتك الثري بيدي
واكبدي يا علي بعدك! لو
كانت تبل الغليل واكبدي
فقدك سل العظام مني,
ورد الصبر عني
وفت في عضدي!
والبارودي لم يعد للغة القديمة إلا
ليزود العصر الذي عاش فيه بلغة
صحيحة, وليجدد اللغة بما في هذا
العصر الجديد من حياة جديدة.
التجديد هو هدف البارودي من
التقليد, إذا صحت هذه العبارة, بل
هو هدف النهضة المصرية كلها وهدف
كتابها وشعرائها ومفكريها, كلهم
كانوا يتحدثون عن التجديد ويلهجون به
ويدعون له. الشيخ حسن العطار,
أستاذ الطهطاوي الذي تأثر بما رآه عند
الفرنسيين خلال وجودهم في مصر يقول:
إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها,
ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها.
والطهطاوي يقول: لا ينبغي لأبناء
الزمان أن يعتقدوا أن زمن الخلف ـ أي
الزمن الحاضر ـ تجرد عن فضائل
السلف. وهو يميز بين ما يجب للدين
وما يجب للدنيا, فيقول: إن
الاتباع مطلوب في الأمور الدينية
وحدها, أما في أمور الدنيا,
فالابتداع ليس مذموما, بل أكثره
مستحسن!
***
في إطار هذا الجدل بين إحياء القديم
واقتباس الجديد نفهم حركة النهضة,
ونفهم شعر البارودي الذي ألف فيه بين
سيرته الجديدة ولغته القديمة.
لقد وجد البارودي في لغة الفرسان
البدو ما يلبي حاجته للتعبير عن نفسه
كفارس عصري, فليس في الشعر العربي
فروسية إلا فروسية البدو القدماء.
ومع أن هذه اللغة قديمة, فقد استطاع
البارودي أن يطوعها لنفسه ويجعلها
لغته ويصور بها سيرته, ويخرج بهذه
السيرة من الواقع إلي الأسطورة,
ويحولها إلي مغامرة روحية فريدة,
كما فعل في قصيدته الفاتنة التي يصف
فيها ناقة من النعمانيات, وهي
المنسوبة للنعمان بن المنذر ملك
الحيرة, وكانت له إبل كريمة يقال
لها عصافير النعمان:
وروعاء المسامع ما تمطت
بحمل بين سائمة مخاض
خرجت بها علي البيداء وهنا
خروج الليث من سدف الغياض
تقلب أيديا متسابقات
إلي الغايات كالنبل المواضي
مددت زمامها والصبح باد
فما كفكفتها والليل غاض
فما بلغت مغيب الشمس حتي
أضاءت آتيا منه بماضي
أحال السير جرتها رمادا
فراحت وهي خاوية الوفاض
وما كانت لتسأم, غير أني
رميت بها اعتزامي واعتراضي
هتكت بها ستور الليل حتي
خرجت من السواد إلي البياض!
في هذه القصيدة, يصف الشاعر رحلة له
علي ناقة يقول إنها حادة السمع لم
تحمل ولم تلد, خرج بها إلي الصحراء
خروج الأسد من الشجر الكثيف, فأسرعت
به, ومدت قوائمها المتسابقة كأنها
السهام المفوفة, تصل الليل
بالنهار, حتي جوعها طول السير
وأنهكها. لكن الشاعر ظل يدفعها إلي
غايته حتي خرج بها من السواد إلي
البياض.
تجربة لا تتصل بحياة البارودي في
الواقع, لكنها موغلة في أعماقه
كفارس شاعر. ومع أن ناقة البارودي
تنتسب للنعمان, وتذكرنا بناقة طرفة
بن العبد, والشماخ, والأعشي,
فهي ناقة أخري, والبارودي شاعر
آخر.
الشاعر الجاهلي يصف ما يراه ويسمعه
ويلمسه. وأما البارودي فيرحل في
العصور, ذاهبا إلي نقطة البدء أو
إلي الروح, يخرج وحده مغاضبا من
الخفاء إلي الوضوح, ومن كثافة
الأشياء إلي شفافية الوعي بالعالم,
يخرج من الليل كما يخرج من النهار,
كأنه فكرة تخلصت من أسر الزمن,
وانسربت من عتمة الظن إلي انبلاج
اليقين. وليست الناقة في هذه
القصيدة إلا لغة البارودي, لغته
القديمة التي ركبها ليمنحنا هذه
التحفة الرائعة.