ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

أحمد عبد المعطي حجازي - مصرفي ذكري حافظ وشوقي‏5‏

رب الســـيف والقـــــلم‏!‏ 
الحداثة الأوروبية قطيعة‏..‏ والنهضة العربية اتصال 
قصور الثقافة تضع البارودي مع شعراء الانحطاط 
بدايات متعددة للنهضة‏..‏ والأولي في مصر


أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر

 

كنت أفضل أن أتحدث عن البارودي ابتداء من البارودي نفسه‏,‏ أي من شعر البارودي‏,‏ ومما نجده في حياته وحياة عصره مما يمكن أن يضيء لنا هذا الشعر‏,‏ ويساعدنا علي تذوقه وتقييمه‏,‏ لكني مضطر لأن أبدأ حديثي عن هذا الشاعر العظيم مما قيل في إنكار شاعريته‏.‏ 
 
والحقيقة أن الذين ينكرون شاعرية البارودي أفراد قلائل لا يقاسون إلي جانب الذين يشيدون بشعره‏,‏ ويشهدون له من أمثال حسين المرصفي‏,‏ وشكيب أرسلان‏,‏ وخليل مطران‏,‏ وحافظ إبراهيم‏,‏ وعباس محمود العقاد‏,‏ ومحمد حسين هيكل‏,‏ ومحمد مندور‏,‏ وشوقي ضيف‏,‏ وحسبنا أن نقرأ الأبيات التالية من قصيدة شاعر النيل في رثاء البارودي لنري كيف أحبه تلاميذه‏,‏ وأحبوا شعره‏,‏ واعتزوا به‏:.‏ 
 
لبيك يا مؤنس الموتي وموحشنا 
يا فارس الشعر والهيجاء والجود 
ملك القلوب‏,‏ وأنت المستقل به‏,‏ 
أبقي علي الدهر من ملك ابن داود 
 
لقد نزحت عن الدنيا كما نزحت 
عنها لياليك من بيض ومن سود 
أغمضت عينيك عنها وازدريت بها 
قبل الممات‏,‏ ولم تحفل بموجود 
 
لبيك يا شاعرا ضن الزمان به 
علي النهي والقوافي والأناشيد 
تجري السلاسة في أثناء منطقه 
تحت الفصاحة جري الماء في العود 
 
في كل بيت له ماء يرف به 
يغار من ذكره ماء العناقيد 
لو حنطوك بشعر أنت قائله 
غنيت عن نفحات المسك والعود‏!‏ 
 
ولقد كان حافظ تلميذا للبارودي يجالسه ويؤانسه ويحفظ له ويروي عنه‏,‏ وقد رسم له هذه الصورة الرائعة التي نري فيها البارودي في أيامه الأخيرة شيخا جليلا نفض عن كاهله غبار المعارك‏,‏ التي خاضها‏,‏ والتجارب التي مر بها‏,‏ وعاد من منفاه وقد كف بصره‏,‏ وانصرف للشعر وتخلي عن الدنيا حتي احتل مكانه في الخالدين‏.‏ فإذا كانت هذه هي صورة البارودي كما رآه حافظ‏,‏ وكما تراه النخبة المثقفة والجمهور العريض‏,‏ فبوسعنا أن نبدأ منها حديثنا عن البارودي‏,‏ ونتجاهل ما يقوله عنه المنكرون وهم كما ذكرت قلة قليلة‏.‏ 
‏ 
***‏ 
لكنني أعلم من ناحية أن القيمة الأدبية لا تعرف بالتصويت عليها‏,‏ ولا تقررها الأغلبية التي تنحاز أحيانا للأفذاذ المبدعين‏,‏ وقد تنحاز أيضا للأفسال المدعين‏,‏ وما علينا إلا أن نجيل النظر الآن في ساحاتنا الأدبية والفنية لنري كم تضم هذه الساحات من هؤلاء وهؤلاء‏.‏ 
 
وأعلم من ناحية أخري أن الأحداث المزلزلة التي شهدتها بلادنا وشهدها العالم في النصف الأخير من القرن الماضي صنعت مناخا من اليأس‏,‏ واللامبالاة‏,‏ والاجتراء علي القيمة‏,‏ والشك في كل شيء‏,‏ وأضعفت لدي الأجيال الجديدة شعورها بالانتماء‏,‏ وأثارت فيها نزعة مريضة تجعلها مستعدة لتجريح نفسها‏,‏ وتصديق قالة السوء في تاريخها‏,‏ وإنكار رموزها والحط مما أنجزوه‏.‏ 
 
هذا المناخ الذي نعيش فيه يفرض علينا ألا نتجاهل ما يقوله المنكرون‏,‏ ولو كانوا أفرادا قلائل‏,‏ وكان كلامهم ضعيفا أو متهافتا‏.‏ بل علينا أن نتصدي له ونبدأ منه‏,‏ لا لندافع عن شاعر أو عن كاتب ونسكت‏,‏ وإنما لنخرج من سلبيتنا تجاه أنفسنا‏,‏ ونراجع تراثنا كله‏,‏ ونقرأه قراءة مسئولة نعرف بها ما يجب أن نعتز به ونواصل العمل فيه‏,‏ وما يجب أن نصححه أو نتخلي عنه في هذا التراث الذي أصبح بعضهم يقرؤه نيابة عنا‏,‏ ويصدر لنا قراءته التي لا تخلو أحيانا من غرض شخصي‏,‏ ولا تفتقر في الوقت نفسه لفنون من الطلاء تخدع المحرومين السذج الراغبين في الظهور والمتكسبين بالمخالفة‏,‏ فتجد بينهم من يتبناها‏,‏ ويردد ما فيها دون مراجعة أو تفكير‏.‏ 
‏ 
***‏ 
ما الذي يقوله المنكرون في شعر البارودي؟ والسؤال عما قاله فيه الشاعر السوري أدونيس بالذات في كتابه صدمة الحداثة الذي أشرت إليه من قبل‏,‏ وناقشت ما جاء فيه عن الطهطاوي بشيء من التفصيل‏.‏ 
 
في هذا الكتاب يتبني أدونيس مبادئ الحداثة الأوروبية‏,‏ ويحاكم النهضة العربية الحديثة بمقتضاها‏,‏ وفي مقدمة هذه المبادئ الانفصال عن التراث القومي‏,‏ وتحقيق القطيعة معه‏,‏ والانتماء للعالم لا للوطن‏,‏ وللمستقبل لا للماضي‏,‏ والبداية من جديد في كل شيء‏,‏ في الأدب‏,‏ والفن‏,‏ والسياسة‏,‏ والاقتصاد‏,‏ والاجتماع‏,‏ والدين‏,‏ والأخلاق‏.‏ فقد ارتبطت الحداثة الأوروبية بالأحداث الكبري في التاريخ الأوروبي الحديث‏,‏ وأهم هذه الأحداث الحرب العالمية الأولي ومقدماتها ونتائجها التي فصلت أوروبا القرن العشرين عن أوروبا القرون السابقة‏,‏ فاهتز بعنف في الوعي الأوروبي الحديث معني السلطة بأشكالها السياسية‏,‏ والثقافية‏,‏ والدينية‏,‏ وظهرت المدارس الأدبية والفنية التي حطمت الأشكال الموروثة‏,‏ وخرجت علي كل القواعد‏,‏ واتخذت من الإباحة مبدأ جماليا تدين به‏,‏ فكل شيء مباح‏!.‏ 
 
كيف يمكن لهذه الحداثة الأوروبية التي قامت علي مبدأ القطيعة مع التراث أن تتفق مع النهضة العربية التي قامت علي المبدأ النقيض‏,‏ وهو العودة للاتصال بالتراث‏,‏ التراث العربي القديم الذي انفصلنا عنه في عصور الانحطاط‏,‏ والتراث الأوروبي الحديث الذي لم نعرفه من قبل؟‏.‏ 
 
من الطبيعي أن يصطدم المبدآن‏,‏ وأن يقف دعاة الحداثة علي الطريقة الأوروبية موقف المعارضة والانكار من كل ما تحقق في النهضة العربية الحديثة‏,‏ ومن كل ما يتصل بها‏.‏ كل ما أصبح محل اتفاق بيننا يقول فيه هؤلاء السادة وأولهم أدونيس كلاما مختلفا‏,‏ ظانين أنهم يصبحون بهذا الكلام المختلف أكثر تقدما واستنارة‏,‏ والأمر ليس كذلك علي الإطلاق‏,‏ والفرق بيننا وبينهم أننا نربط الحداثة الأوروبية بالواقع الأوروبي‏,‏ ونربط النهضة العربية بالواقع العربي‏,‏ فلا نملك إلا أن نفهم الحداثة الأوروبية من ناحية‏,‏ ونقبل من ناحية أخري ما حققته النهضة العربية التي كانت محكومة بالواقع وشروطه‏.‏ 
 
أما هم فيفصلون بين الحداثة الأوروبية والواقع الذي أنتجها‏,‏ ثم يقارنون بينها وبين النهضة العربية‏,‏ فيرون الأولي أكثر حداثة لأنها تنتمي للقرن العشرين‏,‏ علي حين تنتمي النهضة العربية التي بدأناها متأخرين لقرون سابقة‏,‏ وبدلا من أن يدعو هؤلاء السادة بلادهم لتغذ الخطي وتلحق بالمتقدمين يتركونها ممزقة منهكة تقدم رجلا وتؤخر أخري ويلتحقون هم بأوروبا‏!.‏ 
‏ 
***‏ 
نحن نقول إن ما تحقق علي أيدي رفاعة الطهطاوي‏,‏ وخير الدين التونسي‏,‏ وبطرس البستاني‏,‏ وجمال الدين الأفغاني‏,‏ ومحمد عبده‏,‏ ومحمود سامي البارودي‏,‏ وأديب إسحق‏,‏ وشبلي شميل‏,‏ وقاسم أمين وغيرهم كان نهضة بالقياس لما كانت عليه بلادنا في العصور السابقة‏,‏ وأدونيس يقول‏:‏ لا‏!‏ لأن هؤلاء انصرفوا لإحياء التراث القديم الذي كان تعبيرا عن ظروف وحاجات لم تعد موجودة‏.‏ 
 
ونقول إنهم ذهبوا أيضا إلي أوروبا‏,‏ ونقلوا إلي بلادهم ما استطاعوا نقله من علم الأوروبيين‏,‏ وفكرهم وأدبهم الحديث‏.‏ 
 
وأدونيس يقول‏:‏ لا‏!‏ لأنهم لم يقطعوا ما بينهم وبين ثقافتهم التقليدية‏,‏ وظلوا مرتبطين بها مشدودين إليها‏,‏ وكل ما صنعوه أنهم حاولوا التوفيق بينها وبين الثقافة الأوروبية الحديثة‏!.‏ 
 
والنتيجة التي ينتهي إليها أدونيس هي أن النهضة لم تتحقق في العصر الذي نسميه عصر النهضة‏,‏ ويزيد علي ذلك فيقول إن العصور المملوكية العثمانية التي نسيمها نحن عصور انحطاط أو عصور ظلام لم تكن كذلك‏,‏ ففي هذه العصور ظهر عدد من المفكرين منهم ابن خلدون‏,‏ وابن منظور‏,‏ وابن بطوطة‏,‏ وإذا كان الشعر قد تراجع في هذه العصور فهو تراجع كمي لكننا نجد فيها حركة شعرية يعتبرها أدونيس حركة مهمة تطورت فيها لغة القصيدة كما يقول‏,‏ وعكست عالم المدينة وحساسيتها‏,‏ وأصبحت مشاكلة للعصر‏,‏ في الوقت الذي تجاهل فيه من نسميهم شعراء النهضة‏,‏ وفي مقدمتهم البارودي‏,‏ هذه التطورات الأساسية‏,‏ وعادوا إلي الأشكال القديمة يقلدونها ويحاولون إحياءها‏.‏ وإحياء القديم لا يتفق في رأي أدونيس مع مفهوم النهضة‏,‏ لأن الظروف الجديدة تحتاج لأشكال جديدة تطابقها‏.‏ 
 
البارودي إذن لا يمثل النهضة‏,‏ والدور التاريخي البارز الذي أداه لم يكن في الشعر كما يري الشاعر السوري بل في السياسة‏,‏ والوطنية‏,‏ فإحياء التراث القديم يلبي حاجة الجمهور لتذكر ماضيه الذهبي‏,‏ والاعتزاز به والاعتماد عليه في مقاومة الغزو الأجنبي‏.‏ 
 
من هنا يضع أدونيس البارودي ضمن شعراء العصور التي نسميها عصور الانحطاط‏,‏ ومعظمهم من المجهولين أنصاف الشعراء وأرباعهم أمثال إبراهيم الأكرمي‏,‏ ومحمد العرضي‏,‏ والكيواني‏,‏ وعمر اليافي‏,‏ وفرنسيس المراش‏,‏ وعلي أبو النصر‏,‏ وخليل الخوري‏,‏ وسواهم ممن حشرهم في الجزء الثالث من مختاراته التي قدمها بعنوان ديوان الشعر العربي‏.‏ 
 
ومن المدهش أن يجد هذا التصنيف من يقبله في مصر ويعممه علي المصريين وينفق عليه من أمواله كما فعلت الهيئة العامة لقصور الثقافة التي أصدرت هذه المختارات في طبعة شعبية وزعتها علي عامة القراء دون أن تزودها حتي بكلمة تعترض فيها علي هذا التصنيف الظالم‏,‏ أو تتحفظ عليه علي الأقل‏!‏ 
 
ولماذا اندهش والاساءة التي وجهها المصريون مباشرة للبارودي لا تقل كثيرا عن الاساءة التي وجهوها له بطريق غير مباشر؟ ألم يبيعوا قصره لسائق ميكروباس جعل عاليه سافله في يوم وليلة؟ بل لقد شارك في هذه الجريمة بعض ذويه‏!‏ 
 
البارودي إذن لم يضف جديدا للشعر‏,‏ واكتفي بتقليد القدماء‏,‏ كما أن الطهطاوي لم يضف جديدا للموقف التوفيقي الذي وقفه الفلاسفة العرب القدامي‏,‏ وأكدوا فيه الوحدة بين الدين والفلسفة‏.‏ ومايقال عن البارودي يقال عن مطران‏,‏ والرصافي‏,‏ ومايقال عن الطهطاوي يقال عن جمال الدين الأفغاني‏,‏ ومحمد عبده‏,‏ والنهضة إذن لم تتحقق‏,‏ ولم تبدأ حتي في القرن التاسع عشر الذي ظهر فيه هؤلاء‏,‏ فمتي بدأت النهضة إذن؟ 
‏ 
***‏ 
يقول أدونيس إن الجميع متفقون علي أن العصور المظلمة تبدأ من سقوط بغداد في أيدي التتار في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي لكنهم مختلفون حول تاريخ انتهائها‏,‏ هل انتهت بدخول بونابرت مصر في آخر القرن الثامن عشر؟ أم انتهت في أواخر القرن التاسع عشر أم بإعلان الدستور العثماني سنة‏1908‏ ؟ أم مع بداية الحرب العالمية الأولي سنة‏1914‏ ؟ وبما أنه يؤكد في كتابه أن العلماء والشعراء والمفكرين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر كالطهطاوي والبارودي لم يصنعوا نهضة‏,‏ فالنهضة إذن لم تبدأ بدخول بونابرت مصر‏,‏ فهل تكون التواريخ الباقية أصح في نظره؟ يبدو أن الأمر كذلك‏,‏ ففي السنوات الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر إلي نهاية الحرب العالمية الأولي سقطت معظم البلاد العربية في أيدي المستعمرين الأوروبين الإنجليز والفرنسيين‏,‏ والإيطاليين‏,‏ ونشطت الحركات الوطنية والدستورية‏,‏ وانهارت الخلافة العثمانية‏,‏ وتدفق آلاف المهاجرين اللبنانيين والسوريين علي العالم الجديد‏,‏ ونشأت في المهجر الشمالي والمهجر الجنوبي حركات شعرية قوية‏.‏ وبدأ الكتاب والشعراء العرب محاولاتهم الأولي في الرواية والمسرح والقصة‏.‏ 
 
ومن المؤكد أن حركة النهضة العربية اتسعت واشتد ساعدها في تلك السنوات‏,‏ ودخلت أقطارا لم تدخلها من قبل‏.‏ لكننا نعلم أن مصر‏,‏ وهي أكبر قطر عربي‏,‏ انتزعت من العثمانيين استقلالها الفعلي وأنشأت دولتها الوطنية الحديثة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر‏,‏ وأن أول برلمان في المنطقة انعقد في أيام الخديو إسماعيل‏,‏ وأن دار الأوبرا المصرية أنشئت في ذلك الوقت‏,‏ وظهرت الصحافة الوطنية‏,‏ وتشكلت الأحزاب السياسية الأولي‏,‏ وأنشئت المدارس العليا للطب والهندسة والحقوق‏,‏ وترجمت العلوم الحديثة للغة العربية‏,‏ وأخذ المصريون يتحدثون عن الوطن‏,‏ والدستور‏,‏ والحقوق الطبيعية ويطالبون حكامهم بالديمقراطية‏,‏ ويعيدون نشر التراث العربي القديم‏..‏ كيف لايكون هذا العصر عصر نهضة؟ إن لم تكن النهضة قد اكتملت فيه فقد بدأت علي الأقل‏.‏ 
 
وباستطاعتنا أن نتحدث عن بدايات متعددة للنهضة عرفتها الأقطار العربية التي اختلفت ظروفها فسمحت في مصر بما لم تسمح به في بلاد أخري إلا في وقت متأخر‏,‏ أما أن ننفي البداية المصرية لنثبت البدايات الأخري فخفة لاتقبل في دراسة جادة‏,‏ وكلام شخصي تنقصه الموضوعية والشعور بالمسئولية‏.‏ 
‏ 
***‏ 
والذي نقوله عن كلام أدونيس في عصر النهضة نقوله عن كلامه في عصر الانحطاط الذي زعم أنه لم يكن عصر انحطاط‏,‏ لأن ابن خلدون وابن منظور‏,‏ وابن بطوطة ظهروا في ذلك العصر الذي يعترف بأن الشعر تراجع فيه‏,‏ لكنه تراجع كمي وليس كيفيا‏,‏ فقد ظهرت في ذلك العصر حركة يصفها بأنها مهمة‏,‏ تطورت فيها لغة القصيدة وعكست عالم المدينة كما يقول‏.‏ 
 
وهذا كلام مرسل سائب يحتاج إلي ضبط وتحديد‏,‏ لأن المفكرين الثلاثة الذين ذكرهم ظهروا في قرن واحد هو القرن الرابع عشر الذي تلته أربعة قرون لم يظهر فيها اسم كبير لا في الشعر ولا في النثر‏,‏ بل تراجع كل شيء‏,‏ وفسدت اللغة‏,‏ واختلطت الفصحي بالعامية‏,‏ والعلم بالخرافة‏,‏ وحفلت قصائد الشعراء بالألعاب اللغوية السخيفة‏,‏ والمحسنات التافهة ولم تنج حتي من أخطاء النحو والعروض‏.‏ 
 
وأدونيس يزعم أن تراجع الشعر في ذلك العصر كان كميا فحسب‏,‏ وهذا غير صحيح‏,‏ فالشعراء أو الشعارير بالأحري في ذلك العصر كانوا يعدون بالعشرات والمئات‏,‏ وماعلينا إلا أن نعود لبعض الموسوعات التي أرخت لأعلام ذلك العصر‏,‏ ومنها خلاصة الأثر الذي ترجم فيه صاحبه محمد أمين المحبي لألف ومائتين وتسعة وثمانين من أدباء وشعراء وعلماء القرن الحادي عشر الهجري ـ السابع عشر الميلادي‏,‏ وسلك الدرر الذي ترجم فيه صاحبه محمد خليل المرادي لمن عاشوا في القرن الثاني عشر الهجري ـ الثامن عشر الميلادي ـ أقول ماعلينا إلا أن نعود لهذه الموسوعات لنري أن الشعراء الذين ظهروا في ذلك العصر كانوا كثيرين جدا‏,‏ لكنهم لم يكونوا شعراء‏.‏ فأذا كان المقصود بالتراجع الكمي أن الجيد في شعر هذا العصر قليل فنحن موافقون‏,‏ والعصر الذي نتحدث عنه‏,‏ وهو الذي يبدأ من القرن الخامس عشر وينتهي في أوائل القرن التاسع عشر‏,‏ كان عصر انحطاط بإجماع الآراء‏.‏ 
 
كيف كان الخروج من هذا الانحطاط ممكنا بغير الطرق التي اتبعها رواد النهضة في القرنين الماضيين؟ 
 
لقد انقطعنا طوال أربعة قرون عن تراثنا القومي وعن وعينا بأنفسنا وبالعالم‏,‏ فهل كان بوسعنا أن ننهض من جديد دون حركة إحياء نصحح فيها لغتنا ونستعيد علاقتنا بالذخائر التي تركها لنا شعراؤنا وكتابنا القدماء؟ 
 
ألم يكن إحياء التراث اليوناني اللاتيني أساسا في النهضة الأوروبية‏,‏ فلماذا لا يكون أساسا في نهضتنا؟ 
 
وهل كان البارودي أو غيره من شعراء النهضة وكتابها ومفكريها مجرد مقلدين؟ 
 
لاشك أنهم لجأوا في البداية للتقليد‏,‏ لكنهم مالبثوا أن تمكنوا من لغتهم‏,‏ واستقلوا بتجاربهم‏,‏ وأصبحوا قادرين علي أن يقولوا مايشاءون‏,‏ في الحدود التي يظلون فيها امتدادا لأسلافهم ويظل شعرهم استمرارا للشعر العربي‏.‏ 
هذه مقدمة أبدأ بها حديثي عن البارودي‏,‏ وأستكمله في الأسبوع القادم‏.

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا