ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

أحمد عبد المعطي حجازي - مصر

في ذكري حافظ وشوقي 2
‏حول النهضة والانحطاط‏!‏

الذين علموا فلاسفة اليونان وأنبياء بني إسرائيل تحولوا إلي رقيق أرض
الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر يخطئ في النحو‏!‏
ما الذي يجمع بين النهضة المصرية والنهضة الأوروبية؟

أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر

الشاعر يخطئ بشرط أن يكون الخطأ أفضل من الصواب‏..‏كانت السنوات الثلاث التي قضاها الفرنسيون في مصر من‏1798‏ إلي‏1801‏ حدا فاصلا في تاريخها خرجت به من عصر ودخلت عصرا آخر‏.‏

في أواخر القرن السادس قبل الميلاد سقطت مصر في يد قمبيز وأصبحت ولاية فارسية‏.‏ ثم دخلها الإسكندر المقدوني لتصبح مستعمرة يونانية‏.‏ ثم انتزعها الرومان من اليونان‏.‏ ثم آلت إلي بيزنطة‏.‏ ثم استولي عليها العرب المسلمون‏,‏ ليرثها منهم الأكراد‏,‏ ثم المماليك‏,‏ ثم الأتراك العثمانيون‏.‏

ثلاثة وعشرون قرنا أو أكثر فقدت فيها مصر استقلالها‏,‏ أي فقدت كل ما يقوم عليه الاستقلال وكل ما ينتج عنه‏:‏ السلطة الوطنية‏,‏ والإدارة الوطنية‏,‏ والجيش الوطني‏,‏ والثقافة الوطنية‏.‏ فخلال هذا التاريخ الطويل لم يكن من حق المصريين أن يملكوا الأرض التي يزرعونها‏,‏ أو يشاركوا في حكم بلادهم بأي صورة من الصور‏,‏ ولم يكن من حقهم أن يحملوا السلاح‏.‏ وإذن فليس من حقهم أن يعملوا لأنفسهم‏,‏ أو يحموا مصالحهم‏,‏ أو يحافظوا علي ثقافتهم‏.‏

هكذا تحولت مصر‏,‏ وهي أول جماعة وطنية موحدة وأول دولة مركزية تظهر في التاريخ وتظل قائمة مزدهرة ثلاثة آلاف عام‏,‏ تحولت إلي مستعمرة مستباحة منتهكة مفتوحة للأجانب‏.‏ وتحول أهلها الذين تتلمذ عليهم فلاسفة اليونان وأنبياء بني إسرائيل إلي رقيق أرض مسخرين لا حق لهم ولا إرادة‏.‏

كيف نسمي هذا العصر الذي فقدت فيه مصر كل شروط الحياة الإنسانية‏,‏ بل فقدت فيه روحها فلم ينبغ فيها شاعر أو كاتب أو فنان‏.‏ ولم يظهر فيها زعيم وطني يخرجها من هذا الليل إلبهيم المتطاول المتواصل الذي ظلت تتخبط فيه حتي أواخر القرن الثامن عشر؟

ليس لهذا العصر إلا اسم واحد لا يجادل فيه إلا مراوغ لجوج‏.‏ إنه عصر الانحطاط الذي أغري القوي الأوروبية الطامعة بالاستيلاء علي مصر‏.‏ وقد حاول الإنجليز وسبقهم الفرنسيون فكان وجودهم فيها خاتمة عصر وفاتحة عصر جديد‏.‏

حين دخل الفرنسيون مصر لم يثبت لهم المماليك‏,‏ ولم يجرؤ علي مواجهتهم الأتراك‏,‏ وإنما تصدي لهم المصريون البسطاء الذين بهرهم علم الفرنسيين العجيب ونظامهم المحكم‏.‏ لكن تفوق أعدائهم استفزهم‏,‏ وأيقظ فيهم فضائلهم الخامدة‏,‏ فثاروا علي هؤلاء الأعداء المتفوقين دون أن ينكروا تفوقهم‏,‏ فعل الخصم النبيل‏.‏ وكأنما طهرتهم الثورة من عبوديتهم المزمنة‏,‏ وتذكروا مجدهم القديم‏,‏ واستردوا وعيهم بكرامتهم الوطنية وجدارتهم الإنسانية وهم يساقون إلي ساحات الإعدام ويواجهون بنادق الفرنسيين ومدافعهم عراة الصدور‏.‏

هكذا رحل الفرنسيون عن مصر التي لم يعد بوسع المماليك الفارين والأتراك المهزومين القاعدين أن يستردوا مكانهم فيها‏,‏ فقد عرفت طريقها إلي المقاومة‏,‏ وأصبحت مستعدة للدخول في عصر جديد‏.‏

***‏
في العام الخامس من القرن التاسع عشر التف شيوخ الأزهر وأعيان البلاد حول ضابط ألباني ولد في العام الذي ولد فيه نابليون بونابرت‏1769,‏ في البلاد التي ولد فيها الإسكندر‏,‏ وجاء مع بعض المتطوعين الألبان إلي مصر ليشارك في إخراج الفرنسيين منها‏,‏ فبدا متعاطفا مع المصريين قادرا علي تسلم السلطة وإقرار الأمن وفرض النظام علي الجميع‏.‏ وهذا هو محمد علي الذي استطاع المصريون بقيادته وأبنائه من بعده أن يستعيدوا استقلالهم الضائع‏,‏ وأن يشاركوا في إدارة بلادهم‏,‏ ويحملوا السلاح ليقاوموا به الإنجليز بعد أن قاوموا الفرنسيين‏,‏ ويحاربوا الأتراك ويلحقوا بهم الهزيمة ويطاردوهم إلي آسيا الصغري‏,‏ ويتصلوا بالحضارة الأوروبية الحديثة ويترجموا من علومها وآدابها ويقتبسوا من فنونها وأساليبها في الحكم والإدارة والاقتصاد والاجتماع‏.‏ لقد حرموا الرق‏,‏ وأنشأوا أول برلمان في تاريخ المنطقة‏,‏ ووضعوا أول دستور‏,‏ وبنوا دار الأوبرا‏,‏ ودار الكتب‏,‏ ومتحف الآثار‏,‏ ومدرسة الهندسة‏,‏ والحقوق‏,‏ والطب‏,‏ ودار العلوم‏.‏ في الوقت الذي كانوا يستعيدون فيه صلتهم بالتراث العربي القديم ويطبعون روائعه في الشعر والنثر والفلسفة والدين‏,‏ وينكبون علي قراءتها وتدريسها والرجوع إليها في قصائدهم ومقالاتهم وخطبهم التي بعثت في اللغة العربية حياة جديدة‏.‏

كيف نسمي هذا العصر الجديد؟ وكيف نقيمه ونحكم عليه؟
إن لم يكن هذا العصر عصر نهضة بالقياس إلي العصر الذي سبقه فماذا يكون؟ وما الفرق بينه وبين عصر النهضة الأوروبية؟

الأوروبيون اتصلوا بالعرب الذين فتحوا إسبانيا وصقلية وسيطروا علي شواطئ البحر المتوسط وأقاموا فيها حضارة متقدمة فرضت نفسها علي أوروبا وكانت عنصرا فعالا من العناصر التي ساعدتها علي الخروج من ظلمات العصور الوسطي والدخول في عصر النهضة‏.‏ والمصريون وسواهم من العرب اتصلوا بالأوروبيين وتأثروا بحضارتهم التي ازدهرت في العصور الحديثة واستعانوا بها علي تحقيق نهضتهم‏.‏

ولقد ارتبطت النهضة الأوروبية باكتشاف الأوروبيين العالم الجديد‏.‏ وكذلك ارتبطت النهضة المصرية العربية عامة بحركة انفتاح علي العالم ورغبة قوية في إعادة اكتشافه‏.‏ فقد توغل المصريون في إفريقيا‏,‏ وفتحوا الجزيرة العربية‏,‏ ودخلوا اليونان‏,‏ واستولوا علي بلاد الشام‏,‏ وحاربوا مع الأتراك‏,‏ وحاربوهم‏,‏ وذهبوا أبعد وأبعد فحاربوا الروس علي شواطئ البحر الأسود‏,‏ وحاربوا مع الفرنسيين في المكسيك‏!‏

وكما فعل المصريون فعل الشوام وبعض المغاربة الذين تنقلوا في أنحاء أوروبا‏,‏ وهاجروا إلي الأمريكتين‏,‏ فكانت هذه الثروة التي نملكها الآن من أدب الرحلة‏:‏ تخليص الإبريز في تلخيص باريز للطهطاوي‏,‏ وأقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لخير الدين التونسي‏,‏ وكشف المخبأ عن فنون أوروبا لأحمد فارس الشدياق‏..‏ ثم كانت أعمال المهجريين وهي معروفة مشهورة‏.‏ كيف نفسر هذا الاندفاع العاصف لاكتشاف العالم واكتشاف الذات؟ هل هو علامة نهوض أم علامة انحطاط؟

ثم نختم هذه المقارنة بالحديث عن شرط آخر للنهضة هو إحياء التراث القديم‏,‏ وهذا ما تحقق في النهضة الأوروبية التي بدأت بإحياء تراث اليونان والرومان‏.‏ والواقع أن اللغة اللاتينية كانت لا تزال لغة كتابة حتي بدايات القرن السادس عشر‏.‏ وإذا كان دانتي قد سبق إلي الكتابة بالإيطالية وهي لهجة لاتينية دارجة فقد كان أنصار اللاتينية الفصحي ينظرون إليه بترفع شديد ويعتبرونه شاعرا سوقيا لا يقرأه إلا الخبازون والإسكافيون‏.‏ أما في فرنسا فقد كان بوالو ينصح شعراء عصره بتقليد القدماء الإغريق والرومان وينصحهم بألا يستخدموا الأسماء الأوروبية الشائعة بل الأسماء اليونانية التي يقول عنها إنها خلقت للشعر مثل ألكسندر‏,‏ وهيكتور‏,‏ ويوليسيس‏,‏ وأخيل‏!‏

وهكذا صنع المصريون في القرن التاسع عشر‏,‏ فقد عادوا للشعر القديم‏,‏ وأعادوا طبع المعلقات‏,‏ وديوان الحماسة‏,‏ وديوان المتنبي‏,‏ ولزوميات أبي العلاء‏,‏ وأغاني الأصفهاني‏,‏ ومؤلفات الجرجاني‏,‏ ومقدمة ابن خلدون‏..‏ ثم لم يكتفوا بإحياء تراثهم العربي‏,‏ وإنما أخذوا يهتمون أيضا بتراثهم الفرعوني الذي كان الأوروبيون المبهورون بعظمته عاكفين علي كشف أسراره‏.‏

لقد كانت النهضة التي فجرتها مقاومة المصريين للاستعمار الأوروبي والهيمنة التركية في حاجة إلي وعي وطني لا تكبحه العواطف الدينية التي كانت السلطات الأجنبية المستبدة تستخدمها لمنع المصريين من الاعتزاز بتاريخهم القديم وإرغامهم علي الامتثال للأجانب الذين يحكمون مصر بحجة أنهم مسلمون‏.‏ نستطيع إذن أن نفهم الأسباب التي دفعت سعيد باشا الذي كان يفخر بأنه مصري لإنشاء متحف الآثار‏,‏ وأملت علي الخديو إسماعيل أن يختار للأوبرا التي كلف فيردي بتلحينها موضوعا فرعونيا يغني فيه أبطال الأوبرا لمصر‏,‏ ويتحدثون عن أرضها المقدسة التي اجتاحها الهمج المتوحشون‏:‏

فإلي الأمام يا جنود مصر
والموت للغزاة‏!‏

***‏
لماذا قمت بهذه السياحة الطويلة في تاريخ مصر وتاريخ العالم ولم أصل بعد إلي موضوعي وهو شعر حافظ وشوقي؟ لأن شعر حافظ وشوقي هو شعر النهضة الذي لا نستطيع أن نتحدث عنه أو نحكم عليه إلا إذا وضعناه في سياقه ومكانه من هذه النهضة وتمثلنا الشروط التي تحكمت فيه والمطالب التي فرضت نفسها عليه‏.‏

وما أسهل أن يقع أحدنا علي قصيدة أو عدة قصائد للبارودي أو شوقي فلا يري فيها ما يميزها عن الشعر القديم‏,‏ أو يجدها أقل مستوي‏,‏ أو أنها تحاكي شعر القدماء وتنسج علي منوالهم‏,‏ فلا يقصر حكمه علي ما قرأ‏,‏ بل يعممه علي شعر الشاعر‏,‏ ثم علي غيره من الشعراء‏,‏ ثم علي النهضة المصرية كلها‏.‏

وأنت تبحث عن المعايير التي استخدمت في إطلاق هذه الأحكام أو المقدمات التي استندت إليها فلا تجد ما يقنعك بصوابها أو بأنها اجتهاد لا تشترط فيه الإصابة وإنما يكفي الإخلاص سواء أصابت أو أخطأت‏.‏

لهذا حرصت علي أن أزود القارئ بما يستطيع أن يواجه به هذه التعميمات التي قد تخدعه مستغلة شعوره بالقنوط وحاجته العميقة لمصارحة نفسه ومراجعة تاريخه والاعتراف بما فيه من نقائص وسقطات‏.‏

ومن المؤكد أننا في أشد الحاجة لمصارحة أنفسنا بعيوبنا ونقائصنا حتي نراها ونعالجها‏.‏ لكن دون مبالغات جائرة تدفع لليأس وتصرف عن العمل‏.‏ ثم إن أحدا لم يقل إن معرفتنا للظروف والشروط التي تحققت فيها النهضة تمنعنا من نقدها ونقد شعرها والتمييز فيه بين الجيد والرديء‏.‏ لكن الحكم عليها دون اعتبار لهذه الظروف وهذه الشروط لا يمكن أن يكون صحيحا أو عادلا‏.‏ نحن لا نستطيع أن نقدر إنجازات الطهطاوي إلا إذا عرفنا ما كان يقوله الشرقاوي الذي رحل والطهطاوي صبي في الثانية عشرة من عمره‏.‏ ولا نستطيع أن نقدر شعر البارودي إلا إذا قدرنا المسافة الفاصلة بينه وبين الخشاب‏,‏ والدرويش‏,‏ وعلي الليثي وسواهم من الشعراء الذين ظهروا قبله أو عاصروه‏.‏

ولقد رأينا أدونيس في المقالة السابقة ينكر النهضة وينكر ما تحقق فيها‏,‏ لأنها في رأيه لم تكن نقلة من وضع سابق إلي وضع متقدم‏,‏ ولأنه لا يصح أن يكون في مفهوم النهضة ما يشير إلي التقليد والإحياء‏!‏

والحقيقة أن أدونيس ينفرد أو يكاد ينفرد بهذا الإنكار‏.‏ والإجماع يكاد ينعقد ـ مع أني لا أحب الإجماع‏!‏ ـ علي أن العصر الذي نتحدث عنه كان بالقياس للعصر الذي سبقه نهضة حقيقية‏.‏ ويكفي أن نذكر عناوين بعض الدراسات والمقالات التي تحدثت في هذا الموضوع ومنها بناة النهضة العربية الحديثة لجورجي زيدان‏,‏ ورواد النهضة الأدبية الحديثة لخليل مطران‏,‏ وزعماء الإصلاح في العصر الحديث لأحمد أمين‏,‏ والفكر العربي في عصر النهضة لألبرت حوراني‏,‏ وسلسلة قضايا وحوارات النهضة العربية التي أشرف عليها محمد كامل الخطيب‏,‏ والرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة للدكتورة نازك سابا يارد‏.‏ وغيرها‏,‏ وغيرها‏.‏

والمسألة لا تحتمل الجدل‏,‏ ولا تسمح بالاعتماد علي التقديرات والتفضيلات الشخصية‏.‏ وما علينا إلا أن ننظر فيما خلفه لنا القرن الثامن عشر لندرك أن ما تحقق في القرنين الأخيرين لم يكن مجرد نقلة‏,‏ وإنما كان قفزة عالية واسعة‏.‏

في أواخر القرن الثامن عشر زار مصر الرحالة الفرنسي فولني وحدثنا عن هذه الزيارة في كتابه رحلة إلي مصر وسوريا بين عامي‏1783‏ و‏1785‏ فماذا قال عن مصر؟ قال الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر الولايات العثمانية‏,‏ منتشر في كل الطبقات وفي كل المجالات الأدبية والفنية حتي في الصنائع والحرف اليدوية في أبسط أشكالها‏.‏ ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة‏,‏ وإذا وجد فهو شخص أجنبي‏!‏

والحقيقة أن فولني لم يبالغ في شيء‏.‏ وباستطاعتنا أن نتأكد من ذلك حين ننظر فيما تركه لنا المصريون الذين كانوا علي قيد الحياة في السنوات التي زار فيها فولني مصر‏,‏ ومنهم الشيخ عبدالله الشرقاوي الذي كان في أواخر القرن الثامن عشر شيخا للأزهر الذي انحصر علم المصريين فيه‏.‏ ومعني هذا أن الشيخ الشرقاوي كان أكبر علماء مصر في وقته ومن هنا عمامته التي اشتهرت بضخامتها‏.‏ فكيف كان يفكر هذا العالم الجليل وماذا كان يقول؟

يقول الشيخ الشرقاوي ـ في رسالة كتبها بعنوان تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين ـ إن أعمار الفراعنة كانت تمتد مئات السنين‏,‏ وإن أقصرهم عمرا عاش مائتي سنة‏,‏ وأطولهم عمرا عاش ستمائة سنة‏,‏ وإن فرعون موسي كان قصيرا طوله ستة أشبار‏,‏ وطول لحيته سبعة‏.‏ وقيل كان طوله ذراعا واحدا‏,‏ وأن هذا الفرعون بقي علي عرش مصر خمسة قرون‏!!‏

أين هذا الهراء مما كتبه الطهطاوي عن حضارة مصر الفرعونية وعلومها وفنونها وقوانينها وسياستها ومدنها وآثارها‏,‏ في كتابه مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية‏.‏ ولنلتفت هنا أولا للربط بين الألباب المصرية والآداب العصرية‏,‏ بين ثقافة العصر وعقول المصريين‏.‏ والطهطاوي لا يربط هنا بين العقل المصري والعصر الحديث فحسب‏,‏ بل يربط أيضا بينه وبين الحضارة الأوروبية التي نقل عنها ما قدمه لنا عن حضارة أجداده القدماء‏.‏

الفرق بين الطهطاوي والشرقاوي فرق بين العلم والخرافة‏,‏ بين النهضة والانحطاط‏.‏ وهو لا يحسب بالزمن المحدود الذي يفصل بين التاريخ الذي كتب فيه الشرقاوي رسالته ـ السنوات الأولي من القرن التاسع عشر ـ والتاريخ الذي كتب فيه الطهطاوي كتابه ـ‏1869,‏ وإنما يحسب بالقرون‏.‏

والشيخ الشرقاوي لم يكن يجهل الحضارة الفرعونية وحدها‏,‏ بل كان يجهل اللغة العربية ذاتها‏,‏ وكان يقع في أخطاء نحوية تجعلنا نشك في قدرته ـ وهو شيخ الأزهر ـ علي قراءة النصوص الدينية وفهمها علي وجهها الصحيح‏.‏

والشرقاوي لم يكن وحيد عصره في معرفته التاريخية الخرافية وأخطائه اللغوية والنحوية‏,‏ وإنما هو شاهد فاضح علي عصر مظلم انحطت فيه اللغة وفسد العقل وانحطت الكتابة حتي وصلت إلي الحضيض‏.‏

إسماعيل الخشاب الذي يضعه المؤرخون في مقدمة شعراء القرن الثامن عشر‏,‏ ويقول عنه الجبرتي إنه يتيمة الدهر وبقية نجباء العصر هذا الشاعر يفوته أن يحذف حرف العلة في الفعل المجزوم بلم‏,‏ وذلك في قوله‏:‏

نشوان لم يحتسي‏(!)‏ صرفا مشعشعة
لكنه بالذي في ثغره ثمل

ولقد كنا نغفر له خطأه لو أنه وقع بالرغم من هذا الخطأ علي عبارة مثيرة أو صورة فريدة أو قافية محكمة‏,‏ فالمتنبي نفسه لم يكن معصوما من الخطأ اللغوي‏,‏ وحتي الجاهليون‏.‏ ولقد كان الفرزدق يقع في الخطأ فينبهه بعض اللغويين فيجيبهم‏:‏ علينا أن نقول‏,‏ وعليكم أن تتأولوا‏!‏ يعني أن الشاعر الحق الذي يملك ناصية اللغة يستطيع أن يحدث فيها ما لم يكن يجوز فيصبح جائزا‏,‏ وعلي اللغويين أن يجتهدوا في البحث عما يبرر خطأ الشاعر ويجعله صوابا أو أفضل من الصواب كما كان العقاد يقول باعتداد‏.‏ لكن الخشاب وسواه من شعراء عصر الانحطاط لم يكن من حقهم أن يخطئوا‏,‏ لأن الخطأ امتياز خاص لا يتمتع به إلا الشعراء الكبار‏!‏

(نقلاً عن الأهرام)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا