من المعروف أن ترجمة الشعر هي أصعب أنواع الترجمات على
الإطلاق, ولكن هل هناك فرق بين ترجمة القصيدة الموزونة
عمودية كانت أو حرة وبين ترجمة قصيدة النثر؟ قد تكون
الإجابة التي تقفز لذهن من ليس مترجماً وليس شاعراً هي
النفي ولكن لأني الاثنان معاً وترجمت ما يزيد على مائتي
قصيدة ما بين الصينية والإنجليزية والعربية فإن إجابتي
التي أنا مؤمن بها هي الإثبات لا النفي.
إن مسمى النص نفسه يعلن عن طبيعته وطبيعة ترجمته. فالقصيدة
الموزونة تميزها قواعد وأصول وموسيقى تجعل الشاعر يستخدم
أساليب لغوية وبلاغية خاصة مثل التقديم والتأخير والرمز
والاستعارة وتكثيف المعنى في كلمة واحدة, وكل هذا يجعل
للشعر سمته التي تميزه بجلاء عن الكتابة النثرية.
وليس السبب في صعوبة ترجمة الشعر هو مجرد ترتيب الكلمات
على نحو خاص يميز الشعر عن النثر, فلكل لغة طبيعتها التي
تحتم على المترجم التفاعل معها, ومن ثم فالمترجم ليس
مضطراً لاستخدام نفس التقديم والتأخير عند ترجمته, كما أن
للمترجم الحرية في استخدام صيغة الجمع حتى وإن كانت الكلمة
الأصلية مفرداً أو العكس, وكثير من الرخص تكون للمترجم
الذي يترجم الشعر فلكل لغة روحها وجمالها والمترجم أدرى
بالكلمة المناسبة لهذه اللغة. أذكر في إحدى أمسيات الصالون
الشهري الذي أعقده في هونج كونج أني قرأت للحضور قصيدة
صينية للشاعرة الصينية الكبيرة جن مين وقرأت ترجمتي
العربية وتناقشنا في الترجمة ذاتها وكيفية ترجمتي لها.
وكنت قد أسميت القصيدة باسم "الجياد الساخطة", فسألني أحد
الحضور وكان إنجليزياً متزوجاً من صينية ومجيداً للغة
الصينية لماذا استخدمت صيغة الجمع في كلمة "الجياد" رغم أن
الكلمة الصينية لم تشر إلى صيغة الجمع تحديداً بل قد تفهم
على أنها مفرد, فأجبته بأن صيغة الجمع أقوى في اللغة
العربية من صيغة المفرد وتضيف للصورة عمقاً وأثراً أبعد,
فأن تتخيل جياداً ساخطة له أثر أقوى بلا شك من تخيل مجرد
جواد واحد ساخط. هذا ما أقصده بأن للمترجم الحرية في
الابتعاد قليلاً عن النص الأصلي حسب متطلبات اللغة التي
يترجم إليها.
من هنا أرى أن الصعوبة في ترجمة الشعر تكون بسبب علاقة
الكلمات بعضها ببعض وإعادة توزيع أماكنها في البيت الشعري
والعلاقات المتغايرة التي تنشأ من التجديد في طرق
استخدامها بشكل يُحًًدِث اختلافاً عن الكتابة النثرية
المعتاد عليها وعلاقة ذلك كله بحس وذائقة وثقافة أجيال
متراكمة في عقل المتلقي ووجدانه. من أهم أسباب صعوبة ترجمة
الشعر كذلك هو ما أشرت إليه سابقاً بتكثيف المعنى في كلمة
واحدة وهذه الصعوبة تكون أوضح ما تكون عند الترجمة من لغة
قديمة إلى لغة عصرية, ولا أقول قصيدة قديمة بل أقول لغة
قديمة ذات إرث حضاري عريق يجعل عمر الكلمة ذاتها من عمر
هذه الحضارة ومن ثم تكون للكلمة من الأثر في نفس المتلقي
ما تعجز عن نقله الكلمة المترجمة للمتلقي الأجنبي. في
صالون شهر إبريل من هذا العام وكنا نناقش قصيدة من قصائد
الشاعر الصيني لي باي المعروف أيضاً باسم لي بو وأيضاً
باسم لي تاي باي وهو شاعر عاش من 701 إلى 762 في أسرة
تانج, أثناء مناقشتنا للقصيدة انبرت إحدى الصينيات
الحاضرات وأثنت على الترجمة الإنجليزية باقتضاب ثم أخذت
تحللها كلمة كلمة وتشرح لنا كيف أن الكلمة الإنجليزية لا
تكفي لنقل المعاني التي تحويها الكلمة الصينية. على الرغم
من أن الترجمة صحيحة معجمياً ولكن الكلمة الصينية تحمل في
طياتها تاريخاً مديداً وحضارة عريقة وبحراً من المعاني
المتلاطمة الأمواج بين ضفتي الكلمة وإرثاً ثقافياً
واجتماعياً وافراً. هذا ما أراه واضحاً أيضاً في ترجمة
الشعر العربي إلى لغة معاصرة تكون أقل عمراً من اللغة
العربية شعرياً, حيث تحمل الكلمة العربية بين حروفها من
المعاني ما تنوء بحمله الكلمة المترجمة التي لا تشاركها
نفس التاريخ والعراقة, بل قد تظهر هذه الصعوبة أيضاً حتى
عند ترجمة الشعر من لغة قديمة إلى لغة أخرى قديمة فلكل لغة
ثقافتها وإرثها الخاص بها والذي يصعب أن تجد مثيلاً له في
لغة أخرى.
أما قصيدة النثر وكما يوحي اسمها فهي نوع أدبي إبداعي يقف
في أسلوبه ما بين الشعر والنثر ويحمل في دمه جينات
النوعين, فلا هو يتبنى كلية ً ما تعارفنا عليه من خصائص
كتابة الشعر من جمال اللفظ ورقيه وتكثيف المعنى وترتيب
الكلمات بشكل لا تجده إلا في الشعر, ولا هو يتبنى كلية ً
ما اعتدناه في الكتابة النثرية من استرسال الكلمات والأسطر
في اطراد ومباشرية دون الحاجة للرمز أو الإشارة, فيأتي
النص في أسلوبه وشكله نثراً شعرياً أو شعراً منثوراً, ويقف
على شعرة تفصل ما بين المملكتين. في كلتا الحالتين فإن
ترجمة القصيدة النثرية تأتي مشابهة في طبيعتها لترجمة النص
النثري إلى حدٍّ كبير. وعلى الرغم من أن قصيدة النثر
يمكنها بالطبع استخدام كل الأساليب الشعرية من إعادة توزيع
الكلمات بشكل مغاير عن المألوف وتكثيف المعنى في كلمات أقل
واستخدام الرمز دون الإيضاح, ولكن غياب الموسيقى يجعل
القصيدة تبدو كمن تهيأ لدخول بيت فدخل بقدم وترك الأخرى
معلقة في الخارج! غياب الموسيقى يجعل كل هذه الأساليب
الشعرية الجميلة تبدو وكأن هناك شيئاً ينقصها لإكمال
جمالها, وتظل روح الموسيقى محلقة في سماء القصيدة كشبح
طريد!
من تجربتي
الخاصة في ترجمة الشعر أخلص إلى أن ترجمة قصيدة النثر أسهل
بلا شك من ترجمة القصيدة الموزونة المعاصرة التي تعطيها
موسيقاها وأساليبها البلاغية أثراً وسحراً تعجز الترجمة
مهما كانت جميلة وصحيحة عن نقله, ومع اختفاء هذه الموسيقى
والبلاغة اللغوية من قصيدة النثر لا يبقى في قصيدة النثر
سوى الصورة التي إن أحسن استخدامها وتوظيفها كانت القصيدة
جميلة. هذا الجمال لا يعتمد على اللغة ولا على الموسيقى بل
على الصورة وعند ترجمته قد يبدو النص المترجم أحياناً أجمل
من النص الأصلي الذي اختفت منه موسيقى الشعر وبلاغة اللغة
التي يصعب نقلهما عند الترجمة, ولم يبقَ سوى ما يسهل نقله
من لغة إلى لغة ألا وهو الصور والمعاني. هذه الصور الشعرية
هي أهم ما يميز جماليات القصيدة العصرية بعد أن تخلت عن
الموسيقى بشكل كبير, ولكن لهذا حديث آخر!