عن الشاعر | راسلنا | صوت الشعر | لقاءات | قراءات نقدية | قصة | مقالات أدبية | شعر |
د . سيد جودة – مصر / هونج كونج
موضوع رسالتي في الدكتوراه التي حصلت عليها من جامعة سيتي يونفرسيتي في هونج كونج كان “عودة الأشكال القديمة في الشعر المعاصر”. لا أقصد الشعر العربي المعاصر، بل الشعر العالمي المعاصر آخذا خمسة أمثلة لذلك وهي: الشعر العربي، الصيني، الإنجليزي، الفرنسي، والألماني، ولكل شعرية منها حالة خاصة تختلف عن غيرها وإن اتفقت في النتيجة التي توصلت إليها. الرسالة كانت طويلة واضطررت لحذف فصل عن علم العروض اليوناني واللاتيني وفصل آخر عن العروض العربي لأن المصطلحات المستخدمة تجعل من قراءة الرسالة مهمة عسيرة على أي باحث غير متخصص في علم العروض المقارن. لن أناقش موضوع الرسالة الآن، لكني أرحب بالنقاش مع أصحاب التخصص في أي وقت. شاركت في مؤتمر أكاديمي في ألمانيا في عام ٢٠١٥ بمحاضرة عن موضوع رسالتي لكن تحدثت عن الشعر العربي فقط نظرا لقصر الوقت المتاح لكل مشارك. كانت المحاضرة ناجحة حتى أن الحاضرين صفقوا لي مرتين مرة قبل أن أنهي المحاضرة ومرة بعد انتهاء المحاضرة. تفاعل المشاركين معي بعد المحاضرة أكد أن المحاضرة كانت ذات قيمة، ونال الطرح الفكري الذي قدمته فيها قبول الحاضرين، وهذا ما أكده أيضا المنظمون للمؤتمر باستثناء أستاذة للأدب العربي لم يعجبها طرحي نظرًا لأنها من أنصار الحداثة الأدونيسية، فكانت أول كلمة قالتها بعد أن انتهيت من محاضرتي هي أن رؤيتي غير متفق عليها. لا بأس طبعا أن يكون عليها خلاف. فلا يهم أن تتفق معي أو تختلف، لكن ما يهم هو مناقشتك للأدلة التي أطرحها والنتائج التي أتوصل إليها. لا يهم أن تتفق معي في الرأي، لكن حاورني كمتخصص في الموضوع الذي أناقشه. بعد انتهاء المحاضرين الآخرين وفي فترة الراحة تلطفت معها من مبدأ الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، فأهديتها نسخة من ديوان شعري الجديد في ذلك الوقت معتذرا لها بأن نسخ روايتي قد نفذت لعلمي أن مجال بحثها يتعلق بالرواية العربية لا بالشعر العربي. سألتني عن أسماء الشعراء الذين أراهم ما زالوا يكتبون، أو عادوا ليكتبوا شعرًا موزونًا. قلت لها: إن القائمة طويلة ولكن سأعطيكِ بعض الأمثلة فقط فهناك شعراء من عدة أجيال مختلفة مثل علي العلوي، أحمو الحسن الأحمدي، أحمد بلحاج آية وارهام من المغرب، يوسف رزوقة من تونس، ياسر عثمان وأحمد بخيت وأحمد بلبولة من مصر، نمر سعدي وسامح كعوش وأيمن اللبدي ومحمد عريقات من فلسطين، منير محمد خلف وبهيجة مصري إدلبي من سوريا، سامي العامري من العراق وغيرهم من الأجيال السابقة عليهم مثل فاروق جويدة وأحمد عبدالمعطي حجازي. ذكرت لها غيضًا من فيض فهناك الكثير والكثير من الشعراء الحقيقيين الذين يكتبون شعرًا موزونا من أجيال مختلفة لم أذكرهم لها مثل محمد بنيس من المغرب، المنصف الوهايبي من تونس، فؤاد طمان من مصر، المتوكل طه وتميم البرغوثي من فلسطين، محمد علي شمس الدين من لبنان، وغيرهم من الأجيال السابقة عليهم مثل سعدي يوسف والراحلان فاروق شوشة ومحمد عفيفي مطر، وبالطبع محمود درويش وغيرهم وغيرهم والقائمة لا تنتهي. أدونيس نفسه عاد ليكتب شعرًا موزوناً. النظرة التي رأيتها على وجهها حين ذكرت لها بعض تلك الأسماء أكدت لي يقينًا أنها لم تقرأ لهؤلاء الشعراء حرفًا، وأنها حتى لم تسمع بأسمائهم. صمتتْ ولم تحرْ جوابًا، لكني استشعرت فيها غضبًا داخليا مكتومًا، غير أن ثقافتها المحدودة في الشعر لم تمكنها من مناقشتي فلاذتْ بالصمت. هذا الصمت المشحون بالغضب من تلك المستشرقة ذكرني بمن قضى عمره كي يجعلك تنسى دينك وديدنك، وفجاة وجدك تتلو آيات الذكر الحكيم ! ذاك كان لسان حالها كما أحسسته.بعد أن عدت إلى هونج كونج طلبت مني الجامعة الألمانية أن أرسل لها هذا الفصل من المحاضرة التي ألقيتها كي تنشره ضمن المحاضرات الأخرى التي ألقيت في المؤتمر. ولأن هذا الفصل كان جزءًا من رسالتي فقد اختصرته وأرسلته لهم مجاملةً لهم فأنا لا يعنيني كثيرًا أن ينشروه أم لا. جاءني ردهم مؤخرًا يعتذرون عن النشر لأن الفصل لم يقدم الشعر العربي الكلاسيكي وتاريخه بشكل صحيح، وخاصة الشعر العربي الحديث، ولأني لم أستشهد بباحثين أكاديميين ذوي شأن، علمًا بأني استشهدت بكتاب العروض لابن جنِّي وكتب العروض الحديثة للدكاترة فوزي سعد عيسى وغازي يموت ومحمود علي السمان، واستشهدت بسلمى خضراء الجيوسى وفصلها المنشور في كتاب الأدب العربي الحديث المنشور عن جامعة كامبريدج واستشهدت ببعض المستشرقين الأكفاء مثل بول جونسون، بيير كاشيا، ر.س. أوسل، روجر ألان، ساسون سومخ، ولم أذكر شيئا يتعلق بالأدب الكلاسيكي أو الحديث إلا ما كان متفقا عليه باستثناء رأيي الأكاديمي الذي سقته في النهاية كنتيجة للمقال وهذا طبيعي. من خلال قراءتي لتعليق "هيئة المحكِّمين" علمت مباشرة مَنْ وراء هذا الكلام، فكتبت ردًا شرحت لمنظمي المؤتمر مدى جهل محكميهم بالشعر العربي، بل تحديتهم أن يناقشوني في موضوع محاضرتي إن كانوا مؤهلين لذلك، فمن الواضح أنهم لا يفقهون شيئًا في عروض الشعر العربي ولن يستطيعوا مناقشتي لا فيه ولا في عروض اللغات الرومانسية والجرمانية نفسها. أكتب بهذه الثقة لأني دارسٌ لهذه العروض ومن قبلها دارسٌ للعروض اليوناني واللاتيني، هذا إلى جانب عروض الشعر الصيني بالطبع. كتبت لمنظمي المؤتمر: قائلا إنني بصفتي متخصصًا في علم العروض المقارن فإنني أرى بوضوح أين تقع مشكلتهم، وأرى مدى جهلهم بالشعر العربي تاريخًا ولغةً وعروضًا. حين يكون المحكِّمون جاهلين بالفرق بين تفعيلة وأخرى، أو حتى باسم بحر القصيدة التي أناقشها، ويكون قرارهم مبنيًّا فقط على أحقاد شخصية وخلافات شخصية لأني حللت البناء الإيقاعي لقصيدتين لأحمد عبد المعطي حجازي ولم أفعل هذا مع شعر أدونيس، حين يكون المحكِّمُ جاهلا بأدواته تكون مهزلة مضحكة، ولكنه ضحكٌ كالبكا. تذكرت ذلك الغضب الدفين الذي رأيته على وجه تلك المستشرقة التي كانت تظن أن أوزان الشعر العربي انتهت وأهيل عليها التراب. لا يا أستاذة الجامعة، أفيقي من أوهامك واقرئي ماذا قال أنسي الحاج في آخر حوارين له قبل وفاته. أوزان الشعر العربي ما زالت حية يكتب عليها الشعراء الكبار والشعراء الشباب ولن تنتهي أبدًا ما دام هناك شعراءٌ حقيقيون. والحوار مستمر مع من لديه أدوات الحوار والنقاش، لا مع من يردد كلمات عن الحداثة لا يعرف أصلها من فصلها، ويهرف بما لا يعرف. د. سيد جودة أستاذ الترجمة والأدب المقارن في جامعة خواتشياو الصينية وقبل هذا، والأهم من هذا، شاعر…
|