Closed Gate
عن الشاعر راسلنا صوت الشعر لقاءات قراءات نقدية قصة  مقالات أدبية شعر

رحلة في قلب مقدونيا

 

سيد جودة - هونج كونج - 9 سبتمبر 2009

 

نبذة عن المهرجان:

يُعَدُّ مهرجان ستروجا من أعرق مهرجانات الشعر في أورُبّا حيث بدأ عام 1962 بقراءات لشعراء مقدونيين على شرف الأخوين الكاتبين قنسطنطين ميلادينوف و ديميتار ميلادينوف، اللذين وُلِدَا في ستروجا بداية القرن التاسع عشر. يُعدّ قنسطنطين ميلادينوف مؤسس الشعر المقدوني الحديث. كل عام يُفْتتح المهرجان رسمياً بقراءة قصيدته "حنينٌ إلى الجنوب"، التي أصبحت رمزاً للمهرجان، والتي كتبها إبّان سنوات دراسته في موسكو.

          بدأت جائزة "الأخوان ميلادينوف" تُمنح لأفضل ديوان شعر يُنشر في جمهورية مقدونيا في الفترة ما بين مهرجانين منذ عام 1963 حين بدأ شعراء من كل أنحاء يوغسلافيا يشاركون في المهرجان. تحول مهرجان ستروجا للشعر إلى مهرجان دولي عام 1966، وصارت هناك جائزة دولية للشعر تسمى "الإكليل الذهبي" تمنح لشاعر عالمي على قيد الحياة تقديراً لجهوده وإنجازاته الشعرية. أقام مهرجان ستروجا العالمي للشعر تعاوناً وثيقاً مع اليونسكو في عام 2003، ومعاً أطلقا جائزة جديدة تسمى "جسور ستروجا" لأفضل أول ديوان شعر لشاعر شاب من كل أنحاء العالم.

          على الرغم من كل الصعوبات التي واجهت المهرجان مثل سقوط يوغسلافيا، الحرب في البوسنة، أزمة كوسوفو، الصراعات العِرْقية والسياسية في مقدونيا، المشاكل الإرهابية بعد هجوم 11 سبتمبر، والحظر السياسي والاقتصادي المفروض على المنطقة، إلا أن مهرجان ستروجا العالمي للشعر ظل على نجاحاته وأصبح من أهم المهرجانات الشعرية في العالم اليوم.

يُعدّ حفل الافتتاح المسمى "قراءات الميريديان" والذي يقام في "بيت الشعر"، وحفل الختام المسمى "جسور ستروجا" والذي يقام على جسر "دريم"، أي جسر الحلم، أكثر القراءات شعبية ً، حيث يحضرهما الشعب المقدوني المحب للشعر بأعداد غفيرة للترحيب بالشعراء والاستماع لقراءاتهم. كما ينظم المهرجان أمسيات يمزج فيها الشعر بالصورة والموسيقى تسمى "أمسيات بلا توقف"، تبدأ في منتصف الليل ولا ساعة محددة لانتهائها. هذا إلى جانب تنظيم ندوة أدبية لمناقشة موضوع أدبي قبل الافتتاح بيوم واحد. موضوع هذا العام كان عن العلاقة بين الشعر والموسيقى. هذا وقد استضاف مهرجان ستروجا العالمي للشعر على مر تاريخه حوالي أربعة آلاف شاعر ومترجم وكاتب وناقد من خمس وتسعين دولة.

ينشر المهرجان كل عام سلسلة من دواوين الشعراء الأجانب مترجمة للغة المقدونية، إلى جانب كتاب يضم مختارات من الشعر المقدوني المعاصر، والذي يدور حول موضوع واحد، مترجماً للغة الإنجليزية. كما تنشر سلسلة "بلياديس"، أي "الثريَّا"، وهي المجموعة النجمية التي سُمِّيتْ بأسماء بنات أطلس السبع، اللائي حولتهن الآلهة إلى نجوم كما جاء في الأساطير الإغريقية، تنشر هذه السلسلة سبعة دواوين كل عام لأشهر شعراء العالم. كما أسس المهرجان مكتبة الشعر الدولية والتي تضم كتباً لكل الشعراء المشاركين، ويحتوي الإرشيف الشعري على كتب ومخطوطات وصور وأفلام الشعراء والأمسيات الشعرية والتي تكون متاحة لكل باحث أو محب للشعر. لهذا يطلب المهرجان من كل المشاركين إهداء المكتبة بعضاً من كتبهم. من أشهر منشورات المهرجان هو نشرها لكتب تضم مختارات شعرية معاصرة لبلد مختلف كل عام. بدأت هذه السلسلة عام 1971 ونشرت مختارات شعرية معاصرة لكل من إيطاليا، الاتحاد السوفيتي، بولندا، شيلي، فنلندا، الجزائر، فلسطين، ألمانيا، أمريكا، المجر، اليونان، النمسا، فنزويلا، مصر، الصين، أستراليا، السويد، البلجيك، بريطانيا، سويسرا، الدنمارك، ألبانيا، كوريا، أسبانيا، بلغاريا، روسيا، البرتغال، تونس، الهند، الكاريبيان، تركيا، أوكرانيا، والنرويج! ليس هذا فقط بل ينشر المهرجان أيضاً كتاباً ضخماً يضم قصائد وسيراً ذاتية لكل الشعراء المشاركين خلال العام مع ترجمة القصائد باللغة المقدونية والإنجليزية أو الفرنسية.

فاز بجائزة "الإكليل الذهبي" لهذا العام الشاعر السلوفاني توماز شالامون، كما فاز الشاعر السنغالي الشاب عثمان سار ساروس بجائزة "جسور ستروجا"، وفازت بجائزة "الأخوان ميلادينوف" الشاعرة المقدونية فيسنا أسيفسكا. من بين الحاصلين على هذه الجائزة السنوية بابلو نيرودا 1972، أوجين جييفيك 1976، تيم هيوز 1994، أدونيس 1997، شيموس هيني 2001، محمود درويش 2007 وغيرهم من الشعراء.

مدير المهرجان هو السيد دانيلو كوسفسكي ورئيس اللجنة المنظمة هو السيد سلاف جيوجيو ديموسكي، وتضم اللجنة عدداً من الشعراء والنقاد هم برانكو سفتكوسكي، زيمي هايريديني، رازمي كومباروفسكي، ليافدريم إلمازي، وسكرتيرة المهرجان هي ياسمينة توسفسكا.

 

الرحلة والمهرجان:

كانت الرحلة الأطول التي أسافرها في حياتي حين سافرت يوم 18 أغسطس لمسافة 9289 كم على مدى ثلاث عشرة ساعة من هونج كونج لزيورخ. بعدها طرت من زيورخ لفيينا، ثم من فيينا لسكوبْيـِهْ عاصمة مقدونيا، بدعوة من مهرجان ستروجا العالمي للشعر للمشاركة في دورته الثامنة والأربعين. وصلت سكوبْيـِهْ الخامسة عصراً وكان الجو معتدلاً. المدينة تبدو هادئة، غير مزدحمة حيث أن عدد سكان مقدونيا لا يتجاوز المليونين. علمت من سائقٍ في المطار، من أصل ألباني، أن حوالي ربع سكان مقدونيا مسلمون من الألبان إلى جانب قلة من الأتراك، ويعيشون بشكل خاص في ستروجا. أخبرني أنني سأشاهد الكثير من المساجد في ستروجا. أخذني موظف المهرجان من المطار إلى استراحة تبعد عن المدينة مسافة خمس عشرة دقيقة قيادةً بالسيارة. أخبرني أن هناك حافلةً ستأخذني الساعة العاشرة لمدينة ستروجا، حيث يقام مهرجان الشعر، وبأن هناك فتاة ً تدعى ماريا ستأتي الساعة الثامنة لتصحبني في جولة بالمدينة حتى موعد الرحيل لستروجا. كانت الساعة قد شارفت على السادسة مساءً. ذهبت لمحل بقالة صغير على مقربة واشتريت حليباً طازجاً وحلوى شرقية شبيهة بالقطائف. البائعة استطاعت بالكاد أن تنطق سعر ما اشتريت  بالإنجليزية. كانت شقراء وذات ملامح غربية ولكني شعرت أنها شرقية الروح. هذا ما أحسه في الشعب المقدوني بشكل عام.

طرقات على الباب. أخبرني الطارق أن هناك فتاة تنتظرني بأسفل. كانت الثامنة مساءً. نزلت فرأيت فتاة في العشرينيات من عمرها أخبرتني بأن ماريا لم تستطع الحضور لعمل آخر تقوم به، وبأنها ستنوب عنها في اصطحابي في جولة في المدينة. كان اسمها مقدونياً فصعب عليّ حفظه. كانت لبقة في الحديث. أخبرتني إن كنت أودّ احتساء قدح من القهوة فلم أمانع. مشينا عشر دقائق حتى وصلنا لساحة انتشرت بها المطاعم والكافيهات. أحسست أني في كافيه في مصر. أخبرتني بأنها مترجمة، وبأنها تعشق الترجمة، ولا تتخيل يوماً يمرّ عليها دون أن تترجم شيئاً. قالت لي بأن هناك أكثر من ألفي مترجم يعملون ليل نهار في الترجمة للمهرجان كل عام، ولترجمة قوانين الاتحاد الأوربي إلى اللغة المقدونية، ما يجعلهم يعملون على قدم وساق. عرفت أنها من الصرب، وتخصصت في اللغة الصربية في الجامعة. أخبرتني أن سكوبْيـِهْ تختلف تماماً عن ستروجا، فعلى حين أن الأخيرة طابعها شرقي إلا أن العاصمة تأخذ طابعاً غربياً أكثر. سألتها عن الحساسية السياسية بين مقدونيا واليونان حول اسم دولة مقدونيا. أخبرتني أنها زارت اليونان في عطلة نهاية الإسبوع مع أختها، ورغم أنها حاولت أن تخفي عن نادل المطعم جنسيتها المقدونية، لكنه عرف وقال لها: "ليس عليك أن تخفي جنسيتك المقدونية، فنحن هنا لا تهمنا الخلافات السياسية. أنتِ هنا للسياحة ولإنفاق مالك فمرحباً بك. هذا ما يهمنا!"

عدنا للاستراحة في تمام العاشرة لنجد حافلةً صغيرة في انتظارنا، بها خمسة شعراء وصلوا تواً. استقلينا الحافلة وبدأت رحلتنا لستروجا. كانت شوارع سكوبْيـِهْ تذكرني بشوارع مصر الجديدة في القاهرة. ما أشدّ الشبه بين المدينتين! وصلنا ستروجا بعد ثلاث ساعات من القيادة بين الجبال. استطعت النوم معظم هذه الساعات الثلاث. لم أتحدث مع أحد إلا بعد وصولنا، فتعرفت على من كان معي في العربة. كانت هناك شاعرة من النمسا اسمها "أنيا أوتلر" وزوجها، شاعران من فرنسا أحدهما من أصل تايواني اسمه "موروس يونج" وهو رئيس مجلس شعراء العالم، وشاعر من السويد. نزلنا في فندق يسمى "دريم" أي الحلم. كانت غرفتي رقم 100. شعرت بالتفاؤل بهذا الرقم.

تجمع الشعراء في العاشرة صباح اليوم التالي (الخميس 20 أغسطس) في حديقة بالقرب من الفندق لغرس شجرة الشعر باسم الشاعر الفائز بجائزة المهرجان لهذا العام – تقليد يتبعه المهرجان كل عام. ألقى الشاعر توماز شالامون، الفائز بالجائزة هذا العام، كلمة تحدث فيها عن أبيه وكيف أنه كان يعشق الزراعة، وأنه لو كان معنا لكان فخوراً للغاية بما نفعل.

في المساء كان حفل الافتتاح المسمّى "قراءات الميريديان" الذي حضره رئيس الجمهورية الأسبق و وزيرة الثقافة. بدأ الحفل برقصات شعبية في ساحة "بيت الشعر" الذي يجاور نهر "دريم". قدم الحفل ممثلٌ  وممثلةٌ من مقدونيا: هو لقراءة الشعر المقدوني، وهي لقراءة الترجمة الإنجليزية. إلقاؤهما باللغتين كان متعة للسامعين. بعد أن ألقيا قصيدة "حنين إلى الجنوب" للشاعر قنسطنطين ميلادينوف توجهنا جميعاً لداخل "بيت الشعر". بعد كلمة الافتتاح من مدير المهرجان ووزيرة الثقافة، كان هناك عزف على البيانو من العازف المقدوني العالمي سايمون تربشسكي استمر لنصف ساعة ثم صاحبه عزفٌ على الكمان. كان العزف عالمياً بحقٍّ حتى أنني تمنيت لو لمْ ينتهِ! استمرت القراءات الشعرية لأكثر من ساعة. كانت من بين الشعراء الملقين الشاعرة السورية مرام المصري التي ألقت قصيدة بعنوان "قتلتُ أبي" فأحسنت إلقاءها.

صديقي الشاعر المقدوني ترايان بتروفسكي، الذي ترجم لي ديواناً من الشعر العام الماضي، أخبرني أنه يريد أن يأخذني صباح اليوم التالي ليريني قريته "أربينو" التي تبعد 30 كم عن ستروجا. اتفقنا على أن أنتظره في العاشرة صباحاً مع الشاعر المنغولي مِندويو وسكرتيرته الآنسة موجي. جاء بسيارته صباح الجمعة (21 أغسطس) مع زوجته السيدة فيركا وانطلقنا جميعاً من الفندق. وصلنا القرية بعد حوالي نصف ساعة. كانت قرية صغيرة هادئة. ذُهِلْتُ حين أخبرني أن سكان القرية لا يتعدون الثلاثين ساكناً حيث أن الكثير من سكان مقدونيا يقطنون بالخارج. كانت القرية على جبل ولذا كان المشهد من أعلى جميلاً، يطل على سلسلة جبال خضراء ومراعٍ شاسعة. اللون الأخضر حولنا يدعو للبهجة. جلسنا في مقصورة في الحديقة ذكرتني بمثيلاتها في الصين. أعدت السيدة فيركا بعض أطباق الجبن الأبيض والدجاج والأكلات الخفيفة والنبيذ. بعد قليل انضم إلينا صديقنا الشاعر المقدوني برانكو سفتكوسكي مع زوجته. بعد تناولنا الطعام مشينا على الأقدام لزيارة منزل الأخ الأصغر لترايان بتروفسكي. أخبرني ترايان أنه بيت العائلة الذي وُلِدَ فيه. فوجئتُ بأنه قد حوَّل البيت إلى متحف احتفظ فيه بكل الأدوات الزراعية التي كان أبوه وجده يستخدمانها، حتى أنه وضع على كل أداة ملصقاً صغيراً باسمها. صور العائلة كانت تزين الجدران. فكرة تدل على عمق ارتباط هذا الشعب بأرضه وتاريخه. ها هو شاعرٌ كان سفيراً لبلده يعود ليعيش في قريته الصغيرة بعيداً عن العاصمة، يعيش حيث وُلدَ وترعرع. أخبرني أن الحدائق المحيطة بالمنزل ملكٌ لهم. في طريق عودتنا اقتطف أخوه بعض أغصان الفاكهة وقدمها لنا. أكلنا في الطريق ما طاب لنا من فاكهة البرقوق والمشمش. مازحتُ السيدة فيركا قائلاً: إننا في الجنة، نسير والفاكهة من حولنا دانية قطوفها نأكل منها ما نشاء!

انطلقنا بالسيارة قاصدين قمة الجبل التي تبلغ 1700 مترٍ فوق سطح البحر. في الطريق شكّ ترايان بتروفسكي في أن إطار السيارة بحاجة للملء ففضل أن يعود لملئه بدلاً من المغامرة. طلب من جاره السيد بانشا المساعدة فأعاد ملء الإطار بالهواء ودعانا لشرب الشاي. كان صياداً يربي في حديقة منزله الدجاج والحمام وكلاب الصيد والخراف. داخل حديقته وحول سور بيته زرع الياسمين والقرنفل وعباد الشمس. كان رجلاً لطيفاً أراني صور ما اصطاده من ثعالب وغزلان وصقور وأسماك عملاقة. زين الحوائط بثعلب وصقرين و قرون غزلان وعدة بنادق صيد. التقطنا صوراً تذكارية وأكملنا رحلتنا لقمة الجبل. أخبرني ترايان بتروفسكي بأن الجيش اليوغسلافي كان يعسكر فوق هذه الجبال إبّان الحرب العالمية الثانية. كانت الأشجار شاهقة وكثيفة، وتوفر مخبأً آمناً لمن يريد الاختباء بينها. قلت هذا له فوافقني، وأضاف بأن تيتو كان يعسكر مع الجيش ويحارب معهم جنباً لجنب. لهذا كان محبوباً، وظل هكذا بعد أن أصبح رئيساً للبلاد.

          عرج بنا في زيارة لمزارع صديق له هو السيد روسّيه الذي قابلنا بابتسامةٍ قلما فارقت وجهه. أعدت زوجته الشابة بعض الجبن والحليب والخبز الساخن لنا. رأيت في غرفة، كانت بمثابة المخزن، العديد من صفائح الجبن. أخبرني السيد روسّيه أنهم يعدّون الجبن ويطهون الخبز بأنفهسم. قلت له بأن الحياة فوق الجبل، واستنشاق هذا الهواء النقي، وتناول مثل هذا الطعام الصحي، يضمن صحة أهل الجبل. أضفت بأنه يستطيع التغلب على عشرة رجالٍ من رجال المدينة. ضحك ولم يعقب. حين صافحت زوجته كانت يدها قوية وخشنة من قطع جذوع الشجر بالفأس لإعداد الحطب حيث أنهم يوقدون النار كل ليلة لإبعاد الذئاب. أخبرني ترايان بتروفسكي بأنّ روسّيه لديه ما يقرب من ثلاثمائة ماعز وخروف ترعى الآن بعيداً. أضاف بأن روسّيه يعيد القطيع كل مساء ليحميه من الذئاب المتربصة، والتي تدخل في معركة شرسة هي والدببة ضد كلاب السيد روسّيه. عرض السيد روسّيه عليّ المبيت لأشاهد بنفسي. أعجبتني الفكرة وأردت أن أبقى لكن ترايان بتروفسكي أخبرني بأن هناك أصبوحة شعرية في الغداة. ربما خشي عليّ من حدوث مكروه لي. بالقرب من المنزل كانت هناك عين ماء جارية قالوا لي بأن هذه العين آتية من بحيرة أوخريد. تذوقتها فإذْ بها عذبة باردة. رأيت زجاجات مياه مغروسة في الطين في مجرى المياه. لمست إحداها فإذْ بها مثلجة كأنها أخرجت توّاً من الثلاجة. تعجبت لهذا خاصة أننا كنا في شهر أغسطس! قبل انصرافنا أهداني السيد روسّيه قرون غزال صغير اصطاده بنفسه. سعدت بالهدية كطفل صغير. واصلنا صعود الجبل بالسيارة. في أعلى قمة الجبل حيث يوجد نصبٌ تذكاريٌّ للجنود شاهدنا قطيع الماعز بعيداً، وكان هناك كلبان ضخمان لحمايته. اقترب أحدهما منا لرؤيته السابقة لترايان بتروفسكي. ربتُ عليه برفق وحذر. كان كلباً ضخماً ومخيفاً ولا عجب أن يقاتل الذئاب والدببة كل ليلة. في طريق عودتنا توقفنا عدة مرات لقطف بعض فاكهة العليق والتوت والمشمش.

          تجمعنا صباح السبت (22 أغسطس) في ردهة الفندق قبل التوجه لمكان الأصبوحة الشعرية. كانت القراءة في ساحة بين البيوت، وقريبة من النهر تسمى "طاحونة الشعر". قرأ ترايان بتروفسكي مقدمة للدواوين المترجمة من الشعر المقدوني للغة الإنجليزية وعددها عشرة دواوين ، وكذلك للدواوين المترجمة إلى اللغة المقدونية وعددها ثلاثة دواوين ، منها ديوان لمرام المصري التي قرأت القصيدة التي ألقتها بالأمس. توجهنا بعدها بالحافلة إلى دير "أور لادي" أو "سيدتنا" في كاليشتا، لقراءة شعرية قرأت فيها الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس قصيدة بعنوان "امرأة من خيال" فأجادت هي الأخرى. بعد القراءة عدنا للفندق للغداء والراحة. تجمعنا عصراً للتوجه إلى القصر الرئاسي لمقابلة السيد جورج إيفانوف، رئيس الجمهورية، الذي استقبلنا في حديقة القصر وصافحنا شاعراً شاعراً. عندما جاء دوري وقدمت له نفسي بأني شاعرٌ من مصر ارتسمت علامات الإعجاب على وجهه، وقال لي بأن تخصصه الدراسي هو التاريخ السياسي، وبأنه كتب كتاباً في هذا الموضوع، فصل منه كان عن التاريخ السياسي في مصر. أهديته روايتي الإنجليزية "كان يا ما كان في القاهرة". أشار إلى قصره الرئاسي وقال لي بأن تيتو كان يسكنه وأن عبدالناصر كان دائماً ما يزوره في ذلك القصر. أخبرني بأن محمد علي كان مقدونياً فقلت له بأنه ألباني الأصل، فرد قائلاً بأن محمد علي وُلِدَ على الجبال بين مقدونيا وألبانيا. كان رجلاً بسيطاً، لطيفاً، مثقفاً، متحدثاً دون تكلف. علمت فيما بعد أنه كان باحثاً أكاديمياً قبل أن يتحول للسياسة ويصبح رئيساً للجمهورية.

          في المساء توجهنا لكاتدرائية القديسة صوفيا في مدينة أوخريد الأثرية ، وهي كاتدرائية تعود للقرن الحادي عشر. تصاوير جصية تعود للقرون الوسطى ما زالت على جدران وأسقف الكاتدرائية. كانت أمسية شعرية للشاعر توماز شالامون حضرها رئيس الجمهورية الحالي ورئيس الجمهورية الأسبق.

          توجهنا صباح الأحد (23 أغسطس) في رحلة بحرية عبر بحيرة أوخريد، والتي تعدّ أكبر بحيرة في أورُبّا، لزيارة دير الراهب ناؤم. يقع الدير على مرتفع صخريٍّ يطل على الجنوب الشرقي لبحيرة أوخريد قرب الحدود مع ألبانيا، ويقع عند اتصال بحيرة أوخريد بنهر "دريم"، الذي يتفرع منها حيث ينابيع مياهه الصافية. أما بحيرة أوخريد فقد صفا ماؤها، و وضح قاعها، واختلط اللون الأزرق بالأخضر في تناغم بديع ممتع للعين. صفاء الماء يعكس الأشياء عليها كأنها مرآة لامعة! توجد في الدير تصاوير جصية على الجدران والأسقف تعود إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر. تصاوير أخرى كانت تعود إلى العصر البيزنطي. هذا الدير تعرض لحريق هائل في الليلة الثانية والثالثة من شهر فبراير 1875، واحترق جانبٌ كبيرٌ من منشآت الدير. لم تكتشف أعمالُ الحفر بعد الحرب العالمية الثانية سوى أساس الكنيسة وبعض جدرانها. أما متى تم تدمير الكنيسة فهذا ليس معلوماً إلا أنه حدث قبل حكم الأتراك. أثناء حكم العثمانيين في القرن السادس عشر تم بناء الكنيسة الحالية على الأساس القديم على مرحلتين. عند زيارتي دير آرك إنجيل الذي بناه الراهب ناؤم، ودُفِنَ فيه قبيل وفاته عام 910، دخلت الحجرة التي دُفِنَ فيها. كان التابوت على يسار الباب، وقد اصطف الزائرون للاستماع إلى دقات قلب الراهب الذي ما زال ينبض! حين حان دوري وانحنيت واضعاً أذني على التابوت مصغياً علّي أسمع شيئاً، إذ بي أسمع فعلاً دقات قلب حيٍّ ينبض بوضوح! كتمت بإصبعي أذني الأخرى وأصغيت ثانيةً وكان صوت دقات القلب واضحاً بل ويدق عالياً في أذني! خرجت مذهولاً من الحجرة ولكني أفقت من ذهولي على صوت الشاعرة الهندية "روكميني بايا نير" قائلة ً بأنّ ما سمعناه هو صوت دقات قلوبنا نحن ترتد من خشب التابوت لآذاننا!

          بعد زيارة الدير توجهنا إلى مطعم قريب مجاورٍ لمنبع نهر "دريم". غصون الأشجار تميل على سطح المياه فتلامسها كأنها قبلة عاشق لمعشوقه. نقاء المياه يعكس الأغصان حتى أن الأغصان وانعكاسها على المياه تتمازجان بشكل يصعب على الرائي تحديد أين الحد الفاصل بين الأصل والصورة!

          عدنا بالقارب إلى ستروجا استعداداً لحفل الختام المسمّى "جسور ستروجا" الذي سيذيعه تليفزيون مقدونيا على الهواء مباشرة. سيقام الحفل على جسر "دريم" الذي يطل على النهر. عندما حان موعد حفل الختام كان المشهد بديعاً. المسرح قد نُصِبَ على الجسر الذي أُغلق من الجانبين، شلالات مياه تندفع من أسفل الجسر لتصب في النهر، أضواء المسرح تتلألأ في ليل ستروجا وتنعكس على مياه النهر، أطفال يعومون في النهر لاعبين، حشدٌ هائلٌ من سكان ستروجا قد اصطفوا على الجانبين لتحية الشعراء والاستماع لإلقائهم. الليلة ستروجا تحولت لعروسٍ جميلةٍ تزفّ إلى الشعر، وما الشعراء سوى شهود على هذا العُرْس. بدأ الحفل في الثامنة والنصف واستمر لقرابة الساعتين. كان من بين الملقين الشاعر المغربي بنعيسى بوحمالة الذي قرأ قصيدة مهداةً لصديقنا الشاعر البلجيكي جيرمان دروجنبرودت. قبل قراءتي ألقيت التحية على هذا الجمهور العاشق للشعر، وألقيت قصيدتي "الشيء" بالإنجليزية والعربية واختتم مقدم البرنامج الحفل بقراءة الترجمة المقدونية.

          سافرنا صباح الاثنين (24 أغسطس) إلى العاصمة سكوبْيهْ استعداداً لمغادرة مقدونيا. بعد وصولنا ذهبت للتجول في المدينة مع بنعيسى بوحمالة وجيرمان دروجنبرودت. اقترح جيرمان علينا زيارة سوق عتيق يسمّى "بِت بازار". قلت لهما بأن الشوارع تذكرني بشوارع مدينة نصر في القاهرة. وافقني بنعيسى. عند وصولنا للسوق الذي كان يشبه إلى حدِّ كبير خان الخليلي رأيت مطعمين أحدهما اسمه "مطعم الأقصر" والآخر "وجبات القاهرة السريعة"! صِحْتُ: "ألمْ أقلْ لكما إنني أشعر أنني في القاهرة؟!"

          ذهبنا ضحى الثلاثاء (25 أغسطس) إلى روضة "ماتكا" في جبل "سوفا" الذي يبعد عن المدينة حوالي 17 كم لقراءة شعرية تبدأ في الثانية عشرة ظهراً في دير الراهب أندريه. ألقى محافظ المدينة كلمة رحب فيها بالشعراء الضيوف. ثم بدأت القراءات الشعرية. ما أجمل قراءة الشعر في روضة، في قلب جبال شاهقة، تطل على بحيرة "ماتكا" التي تشبه الجوهرة في نقاء مياهها! شاركت بقراءة قصيدتين هما "موجة" و"تحت صليب سبارتكوس". ثم كان موعد المغادرة إلى المطار مع شاعر من الأورجواي هو "خورجيه بالما". ودعت هذه الروضة، وهذه المدينة، وهذه البلد التي كانت مثالاً رائعاً في تنظيمها للمهرجان، وفي ضيافتها، وفي طيبة أهلها الذين شعرت معهم أنني أعرفهم من زمن. غادرت مقدونيا وفي قلبي شيءٌ منها –  بل أشياء!

 

حنين إلى الجنوب

شعر: قنسطنطين ميلادينوف - مقدونيا

ترجمة: سيد جودة – مصر / هونج كونج

 

لو لديّ جناحان كالنسرِ

كنتُ علوتُ وطرتُ

لشطآننا ، لأقاليمنا

لأرى اسْطنْبولْ ، لأرى كُوكُوشْ

والشروقُ أشاهدهُ. هل كئيبٌ هناكَ

كمثل الشروق هنا ؟

**

لو ستشرقُ خافتةً

لو هناكَ تقابلني الشمسُ مثلَ هنا

سأعدُّ لنفسي مزيدَ السفرْ

هرباً لشواطئَ أخرى

عليها شروقٌ يرحب بي ساطعاً

وسماءٌ مطرَّزةٌ بالنجومْ

**

ظلماتٌ هنا ، ظلماتٌ تغلفني

وضبابٌ بلون السوادِ غطاءٌ على الأرضِ

بردٌ هنا ، وثلوجٌ ، رمادٌ

أعاصيرُ ، ريحٌ معربدةٌ

وضبابٌ بكل مكانٍ ، هنا الأرض ثلجٌ

هواجسُ في الصدر باردةٌ مظلمةْ.

**

لا ، أنا لا أطيق البقاء هنا ، لا

ولا أستطيع لهذا الصقيع النظرْ

أعطْ أجنحة ً لي لألبسها

سأطير بها لشواطئنا

وسأذهب ثانيةً لأماكننا

سأعودُ لأوخْرِدْ ، أعودُ سْتروجا

**

هناك الشروق يدفِّئُ روحي

الغروبُ ينيرُ أعالي الشجرْ

وهناك الهدايا بلا عددٍ

الطبيعة تبسطها بسخاءٍ

لتنظرْ إليها – البحيرةُ صافيةٌ تتمدد بيضاءَ

تصبح بالريح زرقاءَ داكنةً

للسهول ارنُ أو للجبالِ

الجمالُ الإلهيُّ حيث تمدّ البصرْ.

**

أعزفُ الناي حتى انتشائي هناكَ

فآهٍ ! دعِ الشمسَ تغربُ ، دعنى أموتْ !

 

 

 

قلب مقدونيا

سيد جودة – مصر / هونج كونج

 

في قلب مقدونيا

صحا التاريخُ يدعوني

لأمضي في رحاب العابرينَ

وفي تصوّف زاهدينَ

رأيتُ ما قد كان يوماً في السهولِ

على الجبالِ

رأيت ليل الساهرينَ على ضفاف "دريمَ"

فيهِ يستحم الشعرُ صفواً

يمنح الدنيا دقائقَ من شعاع الخالدينَ

بحيرةُ الأُخْرِدْ ترقرقَ ماؤها

كالسلسبيل عذوبةً

فيها تبدت لي كلوبترا بكامل حسنها

فعرفتها من قَصّة الشَعْرِ التي صاحتْ:

أنا فرعونةٌ

من كحل عينيها الذي غنى:

أنا مصرية ٌ

وحفيدةُ الإسكندرِ –  التاريخُ يصحو

في عيونك يا "ستروجا"

يملأ الدنيا عبيرَ الياسمينِ

فياسمينكِ قُبلة الأيام فوق جبين مقدونيا

به عبقُ السنينَ

وفيه حلمُ العاشقينَ

أيذكر الليلُ النبيذَ؟

أم النبيذُ الياسمينَ؟

هو الظلامُ ينامُ في عينَي كلوبترا

ليصحو في محياها نهارٌ

سائلٌ عن نجمةٍ كانت تناجي الساهرينَ

على ضياء جمالها.

 

مقدونيا!

هل من هنا مرتْ جيوش اسكندرٍ

أم من هناكَ؟

وكان في أيدي الجنود مشاعل الرؤيا

لتلتهم الظلامَ – الإسكندرية ُعلمتنا

كيف أن حضارتين ينام في حضنيهما

كونٌ بلا رأسٍ

فترسم وجهَه الأحلى

وتجعل قلبه يشدو سلاماً.

فليغنِّ الحزنُ أغنية ً

ويرحلْ عن قلوب العاشقين هنيهة ً

دعنا نعيشُ الحبَّ

إنّا ظامئونَ إلى الحياةِ

هنا الحياةُ بسيطةٌ وجميلةٌ

في قلب مقدونيا

صحا التاريخُ يدعوني

لأحيا في ظلال الخالدينْ!

 

27/8/2009

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

إلى دار ندوة

عودة إلى موقع ندوة

ضع إعلانك هنا