دائماً نتساءل في بلادنا هل انتهى دور الشعر؟ هل يحتضر الشعر؟
يأتي هذا التساؤل لما نراه من قلة إقبال الجماهير على حضور
الأمسيات الشعرية حتى أن بعض الأمسيات لا يحضرها أحدٌ على
الإطلاق! ما رأيته في ستروجا من إقبال جماهيري كبير يجعلني
أوقن أن قلة جمهور الشعر في بلادنا ليس مرده أن شعوبنا ينقصها
رهافة في الشعور وإحساس بالجمال، بل المشكلة ربما تكمن في
ابتعاد الشعراء العرب عن قضايا شعوبهم، وعدم رقيّ ما يكتبونه
شعراً. من الطبيعي إذن ألا يحضر الجمهور ليستمع لشيءٍ لا يشعر
به، ولا يعبر عنه، ولا يجمعه به رابطٌ وثيقٌ. لن أذكر أن
الأزمة الاقتصادية جعلت الناس تهتم بما يسدّ جوعها أكثر مما
يشبع احتياجاتها الروحانية. مقدونيا دولة ليست أغنى من كثيرٍ
من البلاد العربية. مع هذا فها هي تواظب على تنظيم مهرجان
عالمي للشعر منذ 48 عاماً، مهرجان يحضره شعراء من مختلف الدول.
هذا العام حضر أكثر من 84 شاعراً أجنبياً وشارك أكثر من 20
شاعراً مقدونياً. تنظيم مهرجان بهذا الحجم وهذا العدد من
الشعراء ليس بالأمر الهين ويحتاج لخبرة كبيرة في التنظيم، وإن
انتهى المهرجان بدون كثير من الشكاوى فهذا نجاحٌ كبيرٌ له!.
ما رأيته من دقةٍ واحترافية في التنظيم، حتى أن كل الشعراء
قرأوا تقريباً، لهو دليلٌ على مدى نجاحهم في إدارة المهرجان
بحنكة وخبرة. كثيرٌ من الأشياء التي يجب أن نتعلمها في بلادنا
منهم. ليس عيباً أن نتعلم، بل العيب أن نكابر ونظن أننا الأفضل
في كل شيء، والحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. إذن فما هي الدروس
التي يجب أن نتعلمها؟
أول شيء هو الانضباط في المراسلات الأولى، بحيث يكون هناك
تواصل دائم وسريع. حين يرسل الشاعر يسأل عن شيء، يأتيه الرد
المناسب في نفس اليوم أو في اليوم التالي على أكثر تقدير. على
عكس ما يحدث في بلادنا حين تدعى لمهرجان في بلد عربي تكون
المراسلات بطيئة وغير دقيقة وربما لا يأتي أي رد على ما تطرحه
من أسئلة، وكأن لا حياة لمن تنادي! هذه المراسلات الأولى تعطى
انطباعاً صحيحاً عن الدقة التي سيتم بها تنظيم المهرجان، وما
إذا كان سيكون مهرجاناً ناجحاً أم لا. فالإداريون المسئولون عن
تفعيل وتنفيذ أمور متفق عليها مسبقاً، الذين لا يعبأون حتى
بالرد السريع والتواصل المستمر مع الشاعر الضيف، من المؤكد أن
إدارتهم للمهرجان سيكون مصيرها الفشل الذريع! قبل زيارتي
لمقدونيا كنت موقناً أنه سيكون مهرجاناً ناجحاً للغاية، ولو
كان غير هذا لكانت مفاجأة كبيرة لي. فالمراسلات الأولى توحى
بمدى الدقة والانضباط والخبرة التي يملكها من هم وراء
المهرجان، وأيضاً دليلٌ على مدى احترامهم لضيوفهم الشعراء.
شيءٌ للأسف نفتقده في بلادنا.
الشيء الثاني الذي يجب أن نتعلمه هو التزام الشعراء بالنظام
الذي وضعه منظمو المهرجان. فالشعراء المشاركون في ستروجا تعدوا
المائة، ومع ذلك فقد قرأوا جميعاً. كيف؟ لأن كل شاعر التزم
بالمدة المحددة له، فقرأ قصيدة واحدة غير طويلة. وقصيدة واحدة
تكفي، لأنها تقرأ بلغتين على الأقل إن لم تكن بثلاث لغات. في
بلادنا يصعد الشاعر على المسرح للإلقاء وكأنه قد وصل لكرسي
الحكم فلا يريد أن يتنازل عنه أبداً! يطيل ويطيل حتى يكاد
المستمعون أن يلفظوه ويطلبوا منه أن يتوقف. الأمسية في بلادنا
إن استمرت لساعتين فهي لا تكفي لعشرة شعراء. ما رأيته هنا هو
أن أمسية لمدة ساعتين تكفي لقراءة ثلاثين شاعراً بل وأكثر! هذا
ما حدث في حفل الختام. فالهدف من المهرجان هو التقاء الشعراء
من كافة أنحاء العالم، وليس مجرد الصعود على المسرح لبضع دقائق
تطول أو تقصر.
الشيء الثالث الذي يجب أن ننتبه إليه هو أن الدولة كلها حكومة
وشعباً كانت وراء المهرجان. هذا ما رأيناه بوضوح. في بلادنا لو
حضر وزير الثقافة حفل الافتتاح والختام فهذا قمة الكرم والشرف.
في مقدونيا ليس فقط وزيرة الثقافة ومحافظ المدينة ورئيس
الجمهورية الأسبق من حضروا، بل أن رئيس الجمهورية نفسه حضر
أمسية من الأمسيات، واستقبلنا جميعاً في قصره الرئاسي، ورحب
بنا شاعراً شاعراً وتحدث معنا بكل تلقائية وطبيعية بدون رسميات
تجعلك تنسى أنه رئيس الجمهورية. تحدث معي في العلاقة التاريخية
الوثيقية بين مقدونيا ومصر منذ الإسكندر الأكبر مروراً بأسر
البطالمة حتى كليوباترا ملكة مصر. أخبرني أنه كتب كتاباً عن
التاريخ السياسي وكان فصلاً من هذا الكتاب عن التاريخ السياسي
لمصر. أدهشني حين قال لي بأن محمد علي من مقدونيا، فعارضته
قائلاً بأنه من أصل ألباني لا مقدوني، فقال لي بأنه وُلِدَ على
الجبال التي تفصل مقدونيا وألبانيا الآن. أشار إلى القصر الذي
يسكنه وقال بأن "تيتو" كان يسكنه وأن عبد الناصر كان دائماً ما
يزوره في هذا القصر. أهديته نسخة من روايتي الإنجليزية "كان يا
ما كان في القاهرة" فسألني عن فحواها وأخذ يحدثني عن مصر
حديثاً ينم عن ثقافة واسعة وحب كبير لمصر. هل يمكن أن يحدث هذا
في بلادنا العربية عند تنظيم مهرجان للشعر؟ أترك الإجابة لكم.
الشيء الرابع الذي انتبهت إليه هو أنه في حفل الختام كان معظم
الجمهور من الشعب المقدوني البسيط وليس من الشعراء. في بلادنا
كلمة "الجمهور" أصبحت تعني الشعراء أنفسهم يستمعون لبعضهم
البعض، ويصفقون لبعضهم البعض. في حفل الختام الذي استمر لقرابة
الساعتين وأقيم على جسر "دريم" أي "جسر الحلم" كان الجمهور
الذي توزع على جانبي النهر من مختلف الأعمار. رأيت أمهات يقفن
ممسكات بأطفالهن الصغار، رأيت شباباً وشاباتٍ، رأيت مسنين
ومسناتٍ. كان عددهم أضعاف أضعاف عدد الشعراء الحاضرين فما كان
مني سوى أن قدمت لهم التحية على هذا قبل قراءتي. متى نرى هذا
في بلادنا مرة أخرى؟ متى تعود كلمة "جمهور الشعر" لتعنى
الجمهور الحقيقي للشعر لا مجرد الشعراء أنفسهم؟!
الشيء الخامس هو الرحلات السياحية التي تنظمها إدارة المهرجان،
فالمهرجان ليس فقط لقراءة الشعر ولكي نكون حبيسي الفندق طيلة
أيام المهرجان، أو أن يكون كل شاعرٍ حراً يفعل بنفسه وبوقته ما
يشاء. إن من أهداف المهرجان أيضاً هو أن نرى البلد ومعالمها
التاريخية والسياحية. لا يمكن القول بأن عدم وجود الإمكانات
المادية الكافية يحول دون هذا. فها هي بلد لا تنعم بثراء بعض
بلادنا، لكنها تدرك أهمية الدور الثقافي ليس فقط في التواصل مع
الشعوب الأخرى، بل أيضاً في تنشيط حركتها السياحية التي بدورها
ستدعم اقتصادها.
أشياء كثيرة أعجبتني في مقدونيا: بساطة شعبها وطيبته، سحر
طبيعتها وصفاء بحيراتها، عشقهم للشعر والفنون. لكن حديثي عن
هذا يحتاج لمقالٍ آخر.