عن الشاعر | راسلنا | صوت الشعر | لقاءات | قراءات نقدية | قصة | مقالات أدبية | شعر |
سيد جودة – مصر / هونج كونج
ظهرت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ثقافة جديدة غير تلك التي كانت سائدة قبلهما. هذه الثقافة الجديدة كانت رد فعل لما مر به العالم من أهوال وكوارث ورفضاً لكل ما كان سائداً. ظهرت السوريالية في الفن التشكيلي بعد الحرب العالمية الأولى ، وظهر مسرح العبث والرواية العبثية بعد الحرب العالمية الثانية ، وبدأت نظرية ما بعد الحداثة تتشكل في النقد الأدبي في مطلع الستينيات، وتداخلت الفنون فيما بينها بشكل ذابت فيه الحدود الفاصلة بين كل فن وآخر ومن ثمّ بهتت الملامح الأساسية التي كانت تميز كل فن عن سواه. صار الروائي يكتب الرواية بأسلوب الشعر والشاعر يكتب الشعر بأسلوب النثر ولم يعد الفنان التشكيلي يستخدم الفرشاة والألوان فقط بل كل ما يحتاجه من مواد تساعد على إظهار فكرته أكثر. وكما هو المعتاد مع كل جديد يلفظه الجمهور في البداية ويستنكره غالبية النقاد وشيئاً فشيئاً يأخذ هذا الأسلوب الجديد طريقه لرضا نسبة كبيرة من الجمهور والنقاد معاً إما عن قناعة خالصة وإما مجاراة للموجة السائدة هرباً من أن تلحق بهم تهمة الجمود والتخلف والرجعية وما إلى ذلك. ويستمر الصراع بين القديم والجديد، ويستمر الخلاف في شكل هذا الجديد وكيف يجب أن يكون، ومن هو المؤهل لتجربة هذا الشكل الجديد. هذه الثقافة الجديدة التي لم تعد جديدة أسميها بثقافة الأشباه حيث لا يوجد فيها شيء ثابتٌ واضح المعالم يمكن أن نسميه باسمه الذي تعارفنا عليه من قبل، بل أصبح كل شيءٍ شبيهاً بشيءٍ آخر ومسخاً لسواه. أصبحنا نخشى تسمية قصيدة الشعر بقصيدة شعر وصرنا نسميها نصاً لأننا ما عدنا على ثقة تامة من نوع العمل الذي بين أيدينا: هل هو شعر؟ هل هو نثر؟ هل هو بين بين؟ وإن كان الأخير فماذا نسميه؟ قصيدة نثر؟ أم الشعر المنثور؟ أم النثر الشعري؟ تماماً حين نريد أن نصف جنساً ثالثاً فنقع في حيرةٍ ، خاصة في لغتنا العربية التي لا تقبل ضياع الملامح وذوبان الحدود فميزت بين المذكر والمؤنث في الضمائر والأفعال والصفات والأسماء. وإن لم تتضح معالمه قلنا عنه "رجلاً مخنثاً" أو "امرأة ً مُسْتَرْجِلة ً"! وحين اختلطت علينا الأمور والتبست المفاهيم حيال نص ما أسميناه "قصيدة النثر"! لست ضد قصيدة النثر كشكل من أشكال الإبداع ولكنني ضد أن ينظر لها كامتداد طبيعي لقصيدة التفعيلة وعلى أنها برهان الحداثة وما سواها يدور في فلك التقليدية لثلاثة أسباب: السبب الأول هو أن قصيدة النثر تعاني الآن من نمطية وتقليدية وتكرار وتشابه في اللغة والصور وأصبحت تعاني من نفس ما كانت تهاجم به قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية وما اتخذته مبرراً لحتمية وجودها، حتى أنه من الصعب معرفة كاتب النص لتشابه أسلوب الكتابة وتشابه المعجم اللغوي لكل منهم عكس شعراء القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة حيث يوجد كثيرٌ منهم لهم بصمة شعرية خاصة بهم ويمكننا معرفة الشاعر من قراءة قصيدته فقط. السبب الثاني هو أن قصيدة النثر العربية تبدو وكأنها قصيدة مترجمة للغة العربية من الإنجليزية أو الفرنسية. يتضح هذا في عجزها عن نقل الروح العربية ، ونتج عن هذا عدم إحساس القارئ العربي بها وعدم تجاوبه معها فحدثت هوة كبيرة بين الشعراء والجمهور. ما زال الجمهور يحنّ لقراءة الشعر الموزون وينفعل به ويشعر أن هذا الشعر الموزون هو الشعر الذي يعبّر عنه حقاً فكراً وشعوراً. ولا يمكن أن نتهم هذه الجماهير المتذوقة للفن الراقي بالجهل لأنها لم تتطلع على أحدث النظريات النقدية ولم تقرأ الشعر بلغة أجنبية، فها نحن قد قرأنا الشعر الأجنبي بلغاته ورأينا أن قصيدة النثر في كثير من نماذجها ليست إلا قصيدة مترجمة إلى اللغة العربية إما عن اللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية بشكل عام، بل يمكننا أحياناً تتبع المصدر الأصلي بسهولة مع بعض القصائد والذي يبدو فيها بجلاءٍ تأثر الكاتب أو الكاتبة بذاك الشاعر أو تلك الشاعرة من الغرب. السبب الثالث هو أن قصيدة النثر تخلت عن الوزن ولكن في محاولاتها لم تأتِ بما لم تأتِ به قصيدة التفعيلة، فكل ما كتب في قصيدة النثر يمكن كتابته بنفس المستوى اللغوي والفني بل أفضل في ظل الوزن. ولكن رغبة ً في الإتيان بالجديد أخذت قصيدة النثر تستقطب في لغتها كل ما هو غريب بغرض التجديد حتى وإن كان غريباً على مجتمعنا وثقافتنا ولغتنا ولا يعبر عن روحنا. هذه المحاولات كانت مفجعة في أحايين كثيرة، فليس المطلوب هو مجرد الاختلاف للتجديد بل المطلوب هو التجديد للأفضل في ظل المتغيرات التي يمر بها عالمنا ومجتمعنا مع احتفاظنا ببصمتنا الثقافية الخاصة بنا والتي تميز تراثنا عن تراث سوانا. الكارثة هي أن نستقبح الجمال ونستحسن القبح، أن نمل روائح الزهور الطيبة وتصبح الروائح المنفرة هي الروائح المطلوبة طلباً للتغيير فقط. هذا ما أراه يحدث الآن حين يتعامل الكثيرون مع قصيدة النثر كأنها برهان على تطور الشاعر وحداثته، لا على أنها مجرد شكل من أشكال الإبداع. وباستثناء قلة من الشعراء الذين كتبوا نصوصاً نثرية جميلة نجد أن الدعوة لقصيدة النثر لم تتعد حيّز التنظير عند الكثيرين دون النجاح في الإتيان بنماذج حقيقية لما يتناولونه نظرياً. أتمنى لو نتعلم من الشعراء الصينيين المعاصرين وكيف استطاعوا أن يأخذوا من الغرب ما يناسبهم دون التفريط في ثقافتهم وتراثهم. نجد الشاعر الصيني الواحد يكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر دون أن يعدّ الأخيرة هي الأحدث والأكثر تطوراً بل يعدها شكلاً من أشكال الإبداع ليس إلا. غير أن الحديث عن قصيدة النثر الصينية وتاريخها وعلاقتها بالتراث الصيني والفروق بينها وبين قصيدة النثر العربية شكلاً ومضموناً يستوجب بحثاً خاصاً نكتب عنه قريباً إن شاء الله.
|