يجلس بين
الملل والرتابة ، وبين الشوق والحنين ، يبحث في جدران المنفى عن
جدران بيته القديم ، فلا يجد سوى الصمت والالم والمرارة ، كان ينكر
صلته بالنظم والقوافي الا انه كان يبكي شعرا عذبا ، ومن اقواله وهو
يكابد السهد والسهر الطويل :
من قال
ان الماء هو الماء، وان الهواء هو الهواء ، من قال ان التراب هو
التراب وان التفاح هو التفاح ، فتفاح بلدي احلى الانواع .
يتذكر
الايام الخوالي ودفء الاسرة وحرارة اللقاءات ويذكر حتى المجانين في
مدينته : المجنون شئ والهبيل شئ اخر ، كان ( جمعة ) بائع الخضار
يحبني ، ويرتاح لصحبتي ، وكان يشايع عليا في الخفاء ، غير انه كان
يُرمى بالجنون .
خرج الى
العالم الارحب لعله يجد له مستقرا ويجد له عملا في الفنادق او في
خطوط الطيران او في السفارات ، في السفن او في الموانيء والمطارات
، لقد كان يحب البهرجة والسفر غير انه وجد نفسه يتنقل في المقاهي
والمطاعم والبارات يغسل الصحون وينظف الطاولات .
في ليل
الغربة ينتابه بين الفينة والفينة شعور غريب ، يخيل اليه انه جائع
او يشتهي شايا او سيجارة او خمرا او حبة منومة ثم يكتشف الحقيقة
بانه لا يريد سوى امراة ووطن او وطنا وامرأة .
لم تعد
الصداقات العابرة تبهره معتقدا بان احلى الصداقات تولد في
المستشفيات والسجون واقواها ما كانت منذ الطفولة ، مضى على تغربه
ربع قرن من الزمان ، كبر بما فيه الكفاية ولم يشأ ان يقاتل ليسترد
الوطن المسلوب ، فالسالبون اهله والظالمون اهله وكان يقول رحم الله
ايام الاستعمار .
وفي سؤال
عن ما هو الوطن ؟ اجاب : الوطن هو الغنى والاصدقاء والامان فالوطن
ليس التراب .
يذكر كيف
كان يتمنى ان تكون له دراجة يذهب بها كل يوم الى الحديقة ومعه ورقة
وقلم وكتاب ، ليبتعد عن العمارات السكنية والاوساخ ، انه يعشق
الحدائق .
يريد ان
يكتب شعرا عن مدينته ، ليس عنده وطن وليس عنده اصدقاء ، يعشق
الفنادق الكبرى ، تقتله حركة الالوان فيها ، بلغ الاربعين ، غزا
الشيب مفرقه ، لم يعرف حلاوة الزفاف ويجهل رائحة الحناء وبريق خاتم
الخطوبة ، لايعرف ان الاطفال يمرضون ، وان المراة تنتابها حالات
خاصة اثناء الدورة الشهرية ، انه لم يتزوج بعد ، ويعجب كيف يتزوج
الناس واين يجدون زوجاتهم .
كفر بكل
الفلسفات وبكل الفلاسفة وصار لا يحب من يتعصب لدين او مذهب او من
يروج لحزب او جماعة وصار يميل الى المتمردين فقط .
كان اذا
سمع صوت طبل او مزمار واناس يرقصون يتكئ على حرمانه وينظر اليهم من
النافذة بنهم ويتعجب : كيف يزف العريس ؟ وكيف تتحلق حول العروس
مئات النساء ، كيف جمع العروسان كل هذا العدد من الاقارب ومن اين
أتى بالاقارب ؟
قلت له
ماذا تقرأ غير الجرائد والمجلات ، فنصحني ان لا أقرأ الكتب الثقيلة
والتاريخية والدينية ، وطلب مني ان اقرأ دواوين الشعر التي كتبتها
النساء كي ترق النفس واتعلم كيف اكون طيبا وكلفني ان ابلغ هذه
النصيحة للاخرين من كل الجنسيات .
كل المدن
لها عشاق من ابنائها ومن غير ابنائها ولكل مدينة نكهة ولكل نكهة
لذة ولكل لذة رعشة ، رأيته بام عيني وهوينتفض وهو يذكر الكوفة
والبصرة ويذكر حرارة الجو ويمسح عرقه البارد الذي بدا حول انفه
كقطرات ندى او كحبات البلور .
وقبل ان
ينهي غناءه وقبل ان ينفض مجلس البوح يمم شطر الوطن فحنّ كالراهب
وشكا وأنّ له وبكى ثم سلمني قارورة من تراب .
معادلات
: حياة – امرأة ووطن =عذاب
عذاب +
فقر + خوف = موت
مات من
مات وانا بانتظارك تمتد بي الاعمار وسكت كل مافي الليل البهيم ،
الا الحب الذي في داخلي فانه مازال يضحك ويبكي ويغني ، ويظل الغناء
للمدينة مستمرا .
aabbcde@msn.com