مأساة غزة ،
والشعب الفلسطيني كله ،
هي بالتأكيد أخطر قضية
تقف امام شعوبنا العربية
في تاريخهم المعاصر .. مئات الضحايا والكثير من
الأبرياء يقتلون بلا تمييز . الاف الجرحى وبعضهم
حالات ميئوس منها. وهذا يفرض اعادة تفكير هادئة
وعقلانية علينا جميعا .. رغم ان الجراح التي تنزف
لا تترك مكانا للتعقل أحيانا ، ولكنه مصيرنا
وعلينا ان نكون ، في هذه الايام من طينة خاصة تزين
الأمور ولا تطلق شعارات فقط .
الحصار الشديد وفقدان مقومات
الحياة الانسانية الأساسية ،بظل شبه صمت دولي وصمت
رسمي عربي ضجيجه يمزق طبلة الأذن ، وهو قائم وممتد
منذ الاحتلال الاسرائيلي للقطاع والضفة الغربية
.. ولا أعني فقط منذ بدء المواجهة الحالية ..
الشعوب العربية محاصرة من أنظمتها
وتحركها مراقب وممنوع ، وأنظمتها توظف كل القوى
الأمنية وبعض القوى الدينية البترودولارية ضد
التظاهر للتعبير
عن الغضب فقط (فتوى المفتي السعودي )
<
مناظر البيوت المهدمة والأطفال
القتلى والجرحى لا تبقي للانسان ، فلسطينيا كان ،
أو ذو حس انساني سليم ، من خيارات الا الانفجار
غضبا واطلاق صراخ التضامن والألم .. والسؤال
المقلق ، هل قرر العالم كله ، بما فيه أنظمة عربية
، التخلص من الفلسطينيين بمحرقة غزة ؟؟ .. وهل يظن
الصامتون ان أيديهم ستظل بلا حروق ؟!
ما هو هدف العدوان الاسرائيلي
الحقيقي ؟
حتى في الشارع اليهودي يثور
التساؤل ما هو هدف الحملة ؟ الى أين تريدون أن
تصلوا ؟
هل هي معركة انتخابات اسرائيلية
على دماء الشعب الفلسطيني ؟
عن أي تهدئة سيجري الحديث بعد سقوط
الاف القتلى والجرحى وتدمير كل البنى التحتية
لقطاع غزة ؟
هل يظن صناع القرار في اسرائيل ،
ان الدم الفلسطيني المراق سيضمن أمن الداخل
الاسرائيلي ؟
وهل يظنون ان موافقة حماس على
تهدئة جديدة صار قادرا على ضمان استراحة اسرائيلية
من المشكلة المركزية والأكثر أهمية حتى من اقامة
دولة فلسطينية ، من سيدفع ثمن الدم الفلسطيني
المراق؟
لم يعد يكفي القول ان حماس ارتكبت
خطأ سياسيا ، أو رفضت تجديد التهدئة .. هذه لم تعد
مبررات لذبح شعب محاصر ويفتقد لمقومات الحياة
الاساسية .
لا يمكن وضع شعب داخل حصار قاتل ،
مهما كانت التبريرات ، والادعاء انه رفض التهدئة
ويطلق نيرانه على البلدات الاسرائيلية .. الحل كان
واضحا في الأفق.. افتحوا نافذة صغيرة ليتجدد
الهواء لسكان قطاع غزة . الحصار وتحويل القطاع الى
سجن عملاق ، يشل حركة حياة المواطنين ، حتى
البدائية منها ، لدى كل مجتمع بشري، هي
جريمة لا تقل عن أي حرب ابادة يعرفها التاريخ
البشري.
من الخطأ القاتل في هذه اللحظات
طرح أي موقف آخر يتعلق بالخلاف الفلسطيني فلسطيني
.. وقد اتخذت السلطة الفلسطينية الموقف
السليم .. وكل من يبالغ مع أو ضد هذا الموقف لا
يخدم الهدف الأسمى المطروح الأن ، وقف شلالات الدم
الفلسطيني واعطاء سكان قطاع غزة الحق الأولي لكل
انسان .. حرية التنفس والتحرر من الحصار.
التبريرات التي قدمتها مصر ، على
لسان الرئيس مبارك ، أضحت في ظل الموت البطيء
للفلسطينيين داخل الحصار ، وخاصة مع بدء المواجهة
العسكرية ، عذر أقبح من ذنب.. حقا السلطة
الفلسطينية هي المسؤولة رسميا عن بوابة رفح ..
وقامت حماس بالانقلاب .. وغيرت معادلات ، هناك رفض
واسع لها ، ولكن الحديث لم يعد عن نزاع بين فصائل
، مؤلم ومرفوض من الشعب الفلسطيني كله ، الحديث عن
بشر لهم حق ضمان الحياة الأولي ، وهذا الحق فوق أي
اتفاق او صيغة اتفاق.. لا يمكن شل حياة مليون
انسان تحت أي صيغة كانت . لا يمكن منع الاف الطلاب
من تحصيلهم الجامعي ، منع الاحتياجات الأولية من
غذاء وأدوية وطاقة وعمل .. هذا يقع في باب القتل
غير المباشر الممارس يوميا.. واغلاق معبر رفح ،
مثل غيره من المعابر هي المشاركة بالقتل بأشكال
ليس شرطا ان الرصاص هو أداتها.
بصراحة أقول ، لم أكن من مؤيدي
وصول حماس الى السلطة ، لأسباب لن أخوض في مضمونها
الآن ، وليس هذا الوقت ملائما لها .. أرى بحماس
فصيل مقاومة وطني هام ، وصولها للسلطة غير معادلات
كثيرة ليست لصالحها. وفتح الطريق امام المعتدين
للعديد من أشكال تجفيف المجتمع الفلسطيني داخل
القطاع ، من متطلبات الحياة الأولية.. وليس
بالضرورة اللجوء للحل العسكري ، الحل العسكري هو
تجاوز لكل الخطوط الحمراء ، ولم يعد ضد حماس فقط ،
بل ضد كل فلسطيني وبغض النظر عن موقفه وموقعه
ورؤيته السياسية .. وتبريرا مرفوضا لا يمكن قبولة
لإستمرار الاحتلال الاسرائيلي بالتلاعب بالمطلب
الفلسطيني الأساسي والمشروع ، انهاء
الاحتلال والحصار للضفة الغربية وغزة واعطاء الشعب
الفلسطيني حقة غير القابل للجدل ببناء دولته
الوطنية ، حسب قوانين الشرعية الدولية كحالة
يقبلها الفلسطينيون كخطوة لا بديل لها في
المعادلات الدولية والمنطقية المقررة.
اسرائيل تتصرف " كفرفور دمه مغفور
" في ظل حماية لا تقل همجية توفرها الادارة
الأمريكية. هناك عقلانيون يهود يرون الصورة
ببشاعتها الكاملة ، ورفعوا صوتهم الهام لنا في
مظاهرة الآلاف في تل أبيب . السؤال، هل في
النظام الاسرائيلي من يفكر خطوتين للأمام ؟ وهل
الظن ان العجز العربي ، والدعم الأمريكي سيبقى هو
المعيار الأخلاقي لحماقة وتعصب حكام اسرائيل ؟
حقا المعادلات التي تحكم سياسة
الشرق الأوسط مضحكة بمأساويتها وغرابتها ...
ما بعد غزة ؟
صيغة السؤال هامة هنا .. فهي تطرح
تغيير لا بد منه .. وهذا التغيير
كما اراه باستعجال .. لن يكون لصالح الموقف العربي
أو الفلسطيني بالتحديد ، اذا لم
تتدخل قوة دولية عاقلة ومقررة ( هل يوجد مثل هذا
الحيوان ؟ ) وتقر صيغة تعطي
للفلسطينيين ، نسبيا .. ما يمكن ان يعتبر تسوية في
الظروف القاهرة السائدة في الساحة
الفلسطينية ، والظروف المتخاذلة السائدة عربيا
..
وشبه تجاهل من المجموعة الدولية ، كما يبدو صونا
لعلاقاتها مع الولايات المتحدة .
وطبعا ليس قبل ان تقتنع حماس
وفتح بضرورة الوصول الفوري لتسوية سياسية وسلطوية
تعيد الشرعية الفلسطينية الرسمية
والمشتركة لجميع الفصائل ،على قطاع غزة . عبر وضع
خطوط حمراء ممنوع تجاوزها في اللعبة السياسية
الفلسطينية. وأعتقد ان هذه التجربة الدموية يجب ان
تجعل الفلسطينيين يطورون أدواتهم وألياتهم
السياسية والنضالية ، وقرارهم الوطني بطريقة جديدة
تأخذ بالحساب الواقع العربي والواقع الدولي
والواقع الفلسطيني في ظل هذه التركيبة المعضلية.
ولم يعد من تبريرات لتأجيل الوصول الى تسوية
فلسطينية داخلية أولا وفورا ، ولم يعد المطروح من
الرابح ومن الخاسر سياسيا من تسوية بين الفصائل ،
لأن الدم الفلسطيني المراق هو الخسارة الأعظم من
أي ربح سياسي لفصيل على حساب فصيل آخر.
المهدد مصيره ليست
حماس ، حماس باقية وستتجاوز الضربة
وتعيد بناء مؤسساتها وتنظيمها.. ولو بثمن لا
اريد التفكير به لأنه رهيب!!
المهدد مصيره هو الشعب الفلسطيني
... هل يبقى
مشرذما بين الفصائل ، أم يقيم دولة
تحتكم للنظام الانتخابي الدمقراطي ولحكم القانون
؟
اذا وجد وهما ان الدعم سيجيء من
قوى لها مصالح اقليمية معادية لاسرائيل ، هذا يقرب
الواهمين من الانتحار .
عربيا
..
نحن في زمن السقوط العربي .. سقوط
بكل المستويات . الشيء الوحيد الذي يتصاعد
في عالمنا العربي هو عدد السكان .
. والفقر
والأمية
، التخلف الصناعي والتكنلوجي ،
التخلف التعليمي والعلمي ، تخلف
الخدمات للمواطن ، تخلف الضمانات الاجتماعية ،تخلف
الخدمات المختلفة ، تخلف التأمينات
الصحية ، تخلف مجمل البنى التحتية .. وتخلف
مستوى المواطن نفسه . وكله يقود
الى عالم عربي ضعيف المكانة الدولية .. وبالتالي
ثرثرة بلا طحن.
لا ، لسنا سعداء بهذا الواقع .. بل
يملأنا الخجل والألم منه ...
لا أعرف
اذا كانت أقوالي توصل المعنى الذي
اريده .. اذا كان القارئ ينتظر مني كلمات "عليهم
"
الحماسية فسوف يصاب بالكآبة
والخذلان .. لا سادتي لا ابحث عن كلمات وشعارات
وطنية
بلا مضمون حين أرى شعبي يذبح وأعرف
ان مصيرا أكثر سوادا في مواجهته مع الأيام
القادمة . لا اشك بعزم شبابنا على
مقاومة المعتدي الغاشم والمتوحش.. ولكن بعد
انتهاء المعارك ، وستنتهي ، وبدون
الحديث عن الجراح الباقية في نفوسنا وأجسادنا
...ما
هو الانجاز الذي سيتحقق ؟
سيقولون عني
انهزامي.. وسمعت أسوأ من ذلك ..ان
ما يجري في غزة مجزرة لا تقود الى أي انجاز
..
وتوقع تدخل القوى قادرة على ايقاف
المجزرة هو أشبه بانتظار جودو...من مسرحية صموئيل
بيكيت العبثية المشهورة
.
لا اعرف أي شرق أوسط سيء سنعيش فيه
بعد مجازر غزة
.. ولا أستبعد ان نعود لأيام القتل
بلا
تمييز عبر التفجيرات الانتحارية ..
ما أراه دموع ودم ومستقبل أسود للجميع
.
الشرق الأوسط بعد مذابح غزة سيكون
ساحة دموية.. لن يعرف الهدوء
لسنوات طويلة قادمة ... وجميع شعوب
الشرق الأوسط ، "المنتصرين والمهزومين" سيدفعون
الثمن
..
ان لم توجد تسوية فورية للقضية الفلسطينية يقبل
بها الجانب الفلسطيني ، وتضمن له حياة حرة ، بدون
قهر وبدون فقر وبدون استمرار التشرد والضياع .
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي
فلسطيني -الناصرة
nabiloudeh@gmail.com