حرية الرأي والصحافة المستقلة، كلمات يرددها الاعلاميون العرب وغيرهم، كلما
اوقف كاتب او صحافي، او تعرضت مطبوعة لانتقادات حكومية او شعبية، والسؤال: هل
يوجد فعلاً رأي حر ونزية؟ وهل جميع ما تعرض له الصحافة محايد وشفاف، ولا تسيره
اغراض شخصية وحسابات خاصة؟
في يوم 30 سبتمبر 2005، نشرت 'جولاندز بوستن' الجريدة الاوسع انتشاراً في
الدنمارك، 12 رسماً كاريكاتورياً مسيئاً، تعرض لشخص الرسول (ص) واعتبرت ان هذا
التصرف مفيد في قياس مساحة الحرية المسموح بها في الاعلام الدنماركي، وللتذكير
الجريدة صدرت لاول مرة سنة 1871، ومعروفة بانها صاحبة خط ليبرالي ومستقلة
تماماً، اي انها لا تخضع لاعتبارات سياسية، اقتصادية او دينية، وولدت المشكلة
عندما واجه مؤلف دنماركي، صعوبة في الحصول على رسوم توضيحية للرسول (ص)، وهو
اراد استخدامها في اصدار كتاب للأطفال يقرأ شخصيته الكريمة (ص)، وبعدها خصصت
'جولاندز بوستن' مواداً صحافية لمناقشة القضية، واستنتجت ان غياب الرسوم سببه
الرقابة، وان غير المسلمين ليسوا مجبرين على الالتزام بالتعاليم الاسلامية، وفي
تجربة لاختبار مستوى الرقابة المفروضة على الامور الاسلامية، طلبت الجريدة
الدنماركية من رسامين محليين، رسم تصورهم الشخصي لشكل الرسول(ص)،
والنتيجة ان 12 رساماً ارسلوا اعمالهم للجريدة، ونشرتها الاخيرة في سبتمبر2005.
الرسوم في البداية اثارت جدلاً محليـاً في الدنمارك، ولم تتناولها الصحافة في
الدول الاخرى، الا في حالات نادرة، وبعد ثلاثة اشهر تقريباً، او بالضبط في يوم
8 يناير 2006، ظهرت مقالة في جريدة 'ذي نيويورك تايمـز' بقلم دان بيلفسكي، تكلم
فيها عن حالة استنكار وغضب عالمي احدثتها الرســـوم، ومشاركة غيـر متوقعة
للدنمارك، في الصدام الثقافي بين الاسلام والغرب، وبإستثناء كتابات بيلفسكي،
بقيت القضية مهملة، غالباً، في اخبار الاعلام الدولي، رغم ان حملات المقاطعة
ومسيرات الاحتجاج كانت منتشرة في العالمين العربي والاسلامي، وسجلت شخصيات
اسلامية في الدنمارك، احتجاجها في ملف من 43 صفحة، ضم الرسوم الاثني عشر
المنشورة، ورسوم اضافية ملفقة ومقتبسة منها لم تنشرها الجريدة، والثانية
تحديداً روجت لافكار جارحة ضد الدين الاسلامي وحركت غضب الشارع.، وفي نوفمبر
2005، سافر وفد اسلامي رفيع من الدنمارك الى الشرق الأوسط،، بغرض بناء موقف
اسلامي موحد في قضية الرسوم المسيئة، ووصف الوفد على هامش اجتماع منظمة
المؤتمـــر الاســـلامي في المملكة العربية السعـــودية، بكامل اعضائها
الـ'57'، الملف الاربعيني للرسوم، ناسباً كل مافيه الى 'جولاندز بوستن' بما
فيها الرسوم الملفقة التي لم تنشر اصلاً، والكلام الاخير قاله دانيال هاودن
واخرون، في النسخة الإلكترونية لجريدة الاندبندنت البريطانية يوم 8 نوفمبر
2006. ثم عادت الرسوم الى السطح في 1 فبراير 2006، بعد نشرها مـــرة ثـانية في
جرائد اوربية تضامناً مع 'جولاندز بوست'، وقبل مـــرور 48 ساعـــة على مطالبة
منظمة الموتمر الاسلامي والجامعة العربية في 29 يناير 2006، بان تصدر الامم
المتحدة قراراً امميا يحذر التهجم على المعتقدات الدينية، وقد يقال بان تصرف
الاعلام الاوربي حاول تعطيل القرار او اجهاضه.
ظاهرياً، قيام الصحافة الاوربية باعادة النشر، قد يدخله الغربيون في دائرة
التأكيد على حرية التعبير والرأي، الا انه يدس في العمق معناً اكبر، او بعبارة
ادق، النشر في مطبوعات تتبع دول مختلفة، يشير الى رغبة في تكريس المثال الطاريء
والباسه ثوب النموذج، والنظر اليه كحق صحافي مقدس يستحق الحماية، ولكي نعرف ان
حرية الرأي ليس لها مقاس ثابت، حتى عند الغربيين، وان احتمال تأثرها بالثقافة
المحلية لأي دولة وارد جداً، سأورد تغطية جريدتي 'لاموند' الفرنسية و 'ذي
نيويورك تايمز' الامريكية للمسألة، وهما الاوسع انتشاراً ومقروئية في
الدولتين.
المدرسة الصحافية الفرنسية و اختها الامريكية، متفاوتة في ممارساتها الصحافية
وخصوصياتها الثقافية، و كذلك فهمها لمكانة المقدس وغير المقدس، والمدرسة
الفرنسية تميل الى الاسلوب الأدبي، وتضع الرأي حول الخبر في مرتبة اعلى
من النقل التقريري المقيد بالحقائق وحدها، او هكذا كتب بيير البرت في: فرنسا
وصحافتها المطبوعة (1997) والصحافي الفرنسي يري، حسب البرت، ان تكوين الرأي حول
الحدث، واعطاء القاري تصورات محددة عنه، يسبق النقل المجرد، ما يعني ان الفصل
بين الرأي والخبر في الصحافة الفرنسية مفقود، ولا يجرؤ اي سياسي فرنسي ان يطرح
رأي توني بلير في موضوع الفصل، والصحافة الفرنسية صحافة موقف اكثر منها صحافة
رصد، وذكر فيليب غونت وديفيد برتشارد(1990) انها اهتمت طوال تاريخها، بالمنهج
الأدبي الكلاسيكي، الأناقة الفكـــرية والمنطـــــق الوطني، على حساب التفسير
الموجز للحقائق، وكان الصحافيون في فرنسا حتى القرن التاسع عشر الميلادي،
يرفضون فكرة المراسل او المحرر الصحافي، والعلة مثلما اشار كلود بيلنغز وزملاؤه
(1975) ان الانظمة السياسية القديمة في فرنسا، كانت تسيطر على الاخبار، وتمرر
اختيارتها لللصحافة، والثانية تقوم بتحليلها والتعليق عليها، وفي مقارنة بين
المدرسة الصحافية الانغلوامـــريكية والاوربيـــة، لاحــظ مايكل رايس
وجيمس كوني (1982) بان الفارق الاساسي بين المدرستين، يبرز في ان المـــدرسة
الانغلوامريكية، والمقصود امريكا وانجلترا، لاتخلط الخبر بالرأي، بينما المدرسة
الاوربية تفعل في معظم الاحوال، وانه في فرنسا ودول اوروبية اخرى، ينتظر القراء
من الصحافي نشر رؤيته الخاصة وتقييمه لما يجري.
ايضاً الموقف الفرنسي من الدين يختلف تماماً عن الموقف الامريكي، وذكرت جوسلين
سيزاري(2005) انه في ايام المملكة الفرنسية الكاثوليكية، جظرت فرنسا نشر
الكتابات المنتقدة للكنيسة، وتغير الوضع بعد الثورة الفرنسية سنة 1789،عندما
حيد الدين وتمت علمنة فرنسا، والدستور الفرنسي يكفل حرية الاعتقاد مالم تتعارض
مع حرية الصحافة، ويجوز ان نعتبر الجمهورية الفرنسية، دولة تقف في الجهة
المقابلة للدين، والعلمانية الفرنسية لها اخفاقات مؤثرة امام الدين السياسي،
وربما لامست الرسوم المسيئة موضوعاً حساساً في الذاكرة السياسية والثقافية
للفرنسيين.
في المقابل، الولايات المتحدة واستناداً لما نشره ويليام بينيت (1998) ملتزمة
في افكارها الاجتماعية والثقافية والسياسية بالقيم البروتستانية وقواعد الاخلاق
خصوصاً في الموضوعات الدينية، ووصف ريتشارد ماكبراين(1987) المجتمع الامريكـــي
المعاصر، بانه مجتمع ديني، وان القيم الدينية المشتركة، مثل الايمان بالله،
والسلوك الصالح نحو الاخرين، يظهر في كل الممارسات المجتمعية، ويمثل جزءاً
راسخاً في الثقافة الوطنية، واسلوب الحياة الامريكي.
بعودة الى جريدة'لاموند' الفرنسية وجد غاي هوسترت (1973) انها ومنذ تأسيسها سنة
1944، انحازت الى الاتحاد السوفيتي، او تحديداً الافكار الشيوعية، وفي سبعينات
القرن العشرين، اعلنت حبها الجارف للصين او ما يسمونه بالانجليزية'سينافايل'،
وعمومـــاً اتهمت 'لاموند' دائماً بانهـــا يسارية، ومتحاملة على الولايات
المتحدة، وقرأت ان جهاز الاستخبارات السوفيتي المنحل'كي جي بي' وظف هذه النقطة
لصالحه، وجند بعض الصحافيين في جريدة'لاموند' و وكالة 'فرانس برس' والوكالة
مصدر رئيسي لاخبار الجريدة.
الشاهد، جريدة لاموند الفرنسية، نشرت سنة 2006، 40 مادة صحافية عن الرسوم، بما
في ذلك رسمين من المنشـــــورة في' جولاندز بوستن' ورسمـــاً ثالثاً خاصاً بها
على صدر صفحتها الأولى، وملفاً مكتملاً لرسوم الجــريدة الدنمــــاركية في
موقعها الإلكتــرونـي، و جـــــريدة ذي نيــــويورك تايمـــز الامريكية نشرت 21
مادة، واكتفت بشرح الرسوم ولم تعرضها، والمفيد ان اذكر بان صحافة التابلويد
البريطانية، المعروفة بارتفاع هامش الحرية فيها كـ 'ذي صن' و 'ذي ديلي ميل' لم
تنشر الصور، و 'لاموند' ومعها غالبية الصحافة الفرنسيـــة، اعتبــــرت ان
الاعتـــراض على النشر، يشكل انتهاكاً لحق الانسان في التعبير الحر وغير
المشروط، ويكرس دليلاً على ان المجتمعات العربية والاسلامية محرومة من الحرية
والديموقراطية، و استضافت جريدة'لاموند' كتاب و رسامي كاريكاتير من دول
متفــــرقة، بما في ذلك قرائها في العالمين العربي والاسلامي، ونشرت قائمة
باسماء الصحف الاوربية التي عرضت الرسوم، في محاولة لخدمة موقفها المعارض
لعدم النشر، وتبرير عقيدتها الصحافية، وفي حدود الرؤية العلمانية للمطبوعة، اما
قراءة ذي نيويورك تايمز للرسوم، فقد رأت انها تختصر المشاعر العدائية ضد
المهاجرين العرب والمسلمين في الدنمارك، وتقدم لوجهة نظر اليمين المتطرف، الذي
لا يتجاوز تمثيله في البرلمان الدنماركي نسبة الـ '13 في المئة' وشرحت
بان القضية تظهر وجود صراع حضاري بين الديموقراطيات الغربية العلمانية
والمجتمعات الاسلامية، التي تراها الأولى رجعية ورافضة للتغيير، و ركزت في
اخبارها عن اعتراضات الشارع العربي والاسلامي ضد الرسوم المسيئة، على تأكيد
الحضورالارهابي في شخصية المسلم والعربي، واسترجعت تهديدات وتصفيات طالت شخصيات
غربية او محسوبة على الغرب، بسبب انتقادها للاسلام، واقرت بان الرسوم
الدنماركية خارجة وغير مقبولة، وذي نيويورك تايمز نشرت ان جريدة يومية في
ايران، اقامت مسابقة لاحسن رسم كاريكاتوي يتكلم عن 'الهولوكوست' او ' المحرقة
اليهودية'، وكلاً يغني على ليلاه...!
يذكر ان جريدة'جولاندز بوست' نفسها سبق وان رفضت نشر رسوم كاريكاتورية
تتعرض للمسيحية لانها خافت من ردة الفعل في اوساط المسيحيين.
اجمالاَ، فُهمـــت ردة الفعل المحتقنة ضد الرسوم المسيئة في اوربا، من
زاوية انها تحدي للصحافة وحرية الرأي، وفي الولايات المتحدة وبريطانيا وصفت
بالمحاولة الغبية والمغرورة التي لا تحترم اخلاقيات الصحافة.
يقول بيير ليغـــــراند(2003) ان الصحافة عندما تعيد تقديم الاشياء، تضع
الدراما الاجتماعية والسياسية والثقافية، في سياق غير متكافيء، يتفوق فه
المسؤول عن التقديم، على الشيء المعاد تقديمه. والمعنى ان الصحافيين يختارون
المحتوى والمصادر المناسبة لمواقفهم، وانهم اصحاب الكلمة الاخيرة فيما يقدم،
وطبعاً كل هجوم على حرية الرأي، يوفر فرصة مثالية لاعطاء الدروس
والمواعظ، حول الصحافة واولوياتها، والفرصة توفرت في قضية الرسوم المسيئة....