ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

محمود درويش - فلسطين

درويش لاعب النرد
د‏.‏ صلاح فضل - مصر

كان محمود درويش‏,‏ مثل عظماء الشعر في كل العصور‏,‏ طفلا سماويا مدهشا‏,‏ يحتفل بالحياة‏,‏ ويغني لها‏,‏ ثم يلعب مع الموت‏,‏ ويطيل رفقته‏,‏ شهد وهو في السابعة من عمره اجتياح قريته‏,‏ وتشرد أهله‏,‏ فشب يرضع من ثديين أحدهما يمنحه لبان العروبة وغذاء الروح‏,‏ والثاني ثدي ذئبة ضارية امتص منه بمرارة قطرات العهود القديمة والحديثة‏,‏ وخلاصة الثقافة الإنسانية الشاردة‏,‏ غير أن التحدي قد دفعه إلي إطلاق أول رصاصة شعرية في حروب المقاومة الضروس‏.‏

كان قد اهتدي بحسه المتوفز إلي أسلوب اللمس بالشعر الذي برع فيه نموذجه الأول نزار قباني‏,‏ لكنه لم يلبث أن واجه تيارات الحداثة والتجريد‏,‏ ولم يستطع أن يظل بعيدا عنها فتحول عن بدايته الأولي ورفض أن ينشد مرة أخري سجل أنا عربي مضحيا بشغف الجماهير بها وهاتفا بهم‏:‏ ارحمونا من هذا الحب‏,‏ وانتظروا منا أنضج أشكال الشعر‏,‏ كانت ثورة التجريد التي اكتسحت الفنون التشكيلية قد امتدت حرائقها إلي التعبير الشعري‏,‏ لكن الشفرة السرية الفلسطينية كانت كفيلة بحفظ إشعاع التواصل الجمالي بينه وبين جمهوره ممتدا‏,‏ فحقق المعادلة المستحلية من مسيرته ومصيره في آخر قصيدة نشرها قبل أن يمتثل لحضرة الغياب ويخونه قلبه للمرة الثانية والأخيرة وهو يهمس له‏:‏ من أنا لأخيب ظن العدم‏,‏ والقصيدة قطعة نادرة في فلسفة البساطة‏,‏ وشعرية الذات التي تحتضن الكون بهشاشة مثيرة‏,‏ إذ تكشف أدق أسراره ببراءة خطيرة‏,‏ يستهلها بقوله‏:‏

من أنا لأقول لكم‏/‏ ماذا أقول لكم؟
وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه‏/‏ فأصبح وجها
ولا قصبا ثقبته الرياح فأصبح وفأصبح نايا
أنا لاعب النرد أربح حينا وأخسر حينا
أنا مثلكم‏/‏ أو أقل قليلا

حيث يقف الشاعر الذي يمتزج بصوت القصيدة دون مساحات فاصلة علي الطرف المقابل لأحد تقاليد الشعر في وضع قناع النبوة منذ أبي الطيب حتي جبران‏,‏ إلي أن تتجلي في صوت شاعر مصر الدرامي الفذ صلاح عبدالصبور في ديوانه الشهير أقول لكم ليعلن إنسانية الشعر الخالصة‏,‏ بل ومجانيته التي يدين فيها للمصادفة البحتة‏,‏ فما هو إلا لاعب نرد يربح جولة ويخسر أخري‏,‏ وما هو مثلنا أو أقل قليلا

بطاقة الختام‏:‏
ولكي يقوم بتشعير هذا الموقف يعود إلي سيرته الأولي في تقديم نفسه ومراجعة هويته‏,‏ مبرزا هوانه في يد الأقدار‏,‏ وهو كلما أمعن في التواضع المعرفي والرقة الشعورية ارتفع إلي آفاق عليا في مدارج العظمة قائلا‏:‏

ولدت إلي جانب البئر‏/‏ والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات
ولدت بلا زفة ولا قابلة‏/‏ وسميت باسمي مصادفة
وانتميت إلي عائلة‏/‏ مصادفة
وورثت ملامحها والصفات‏/‏ وأمراضها‏:‏
أولا‏:‏ خللا في شرايينها‏/‏ وضغط دم مرتفع
ثانيا‏:‏ خجلا في مخاطبة الأم والأب‏/‏ والجدة ـ الشجرة
ثالثا‏:‏ أملا في الشفاء من الإنفلونزا‏/‏ بفنجان بابونج ساخن
رابعا‏:‏ كسلا في الحديث عن الظبي والقبرة‏..‏
كانت مصادفة أن أكون ذكرا‏/‏ ومصادفة أن أري قمرا
شاحبا مثل ليمونة يتحرش بالفتيات
ولم أجتهد‏/‏ كي أجد‏/‏ شامة في أشد مواضع جسمي سرية

فها هي بطاقة هوية أخيرة‏,‏ تغلق مع البطاقة التي دخل بها دنيا الشعر دائرة العودة المكثفة للأسلوب الحسي لتشعير دلالات الحياة ومكاشفة معناها بطريقة سردية حميمة‏,‏ يرتقي فيها إلي مستوي بلاغي آسر لا يتأبي علي النقل إلي كل لغات العالم دون أن يفقد جوهره في تمثيل نبض الروح الإنساني الصادق‏.‏

الوحي اجتهاد‏:‏
تتشكل القصيدة الوداعية من خمسة مقاطع مطولة‏,‏ يبدأ الشاعر كلا منها بلازمة من أنا لأقول لكم‏/‏ ما أقول لكم‏,‏ ويطرح عددا كبيرا من المواقف الحياتية‏,‏ والذكريات والتأملات علي حافة السؤال‏,‏ في مجموعة من الدورات المتعالقة في بنية مرنة‏,‏ ولأن المقام لا يسمح لنا باستبطانها نكتفي بالإشارة إلي سؤال الشعر الذي كان هاجسه الأول إذ يقول‏:‏

إن القصيدة رمية نرد‏/‏ علي رقعة من ظلام
تشع‏,‏ وقد لا تشع‏/‏ فيهوي الكلام‏/‏ كريش علي الرمل
لا دور لي في القصيدة‏/‏ غير امتثالي لإيقاعها
حركات الأحاسيس‏/‏ حسا يعدل حسا
وحدسا ينزل معني‏/‏ وغيبوبة في صدي الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت‏/‏ من أناي إلي غيرها
واعتمادي علي نفسي‏/‏ وحنيني إلي النبع
لا دور لي في القصيدة إلا‏/‏ إذا انقطع الوحي
والوحي حظ المهارة إذ تجتهد‏.‏

الحس والحدس‏..‏ غيبوبة الأصداء‏,‏ وجهد المهارة التي كانت تسمي الوحي هي فواعل الشعر عند درويش‏,‏ وهي التي جعلته يعود لمنابعه وبراءته الفطرية‏,‏ فيتمثل مثل كبار المبدعين لنشوة الإيقاع العميق‏,‏ حيث ينبثق الشعر الصافي بهندسة مدهشة فينقل صورة النفس إلي الغير ويضاعف ضوء الحياة ويقهر الموت وهو يخاطبه برقة مذهلة‏:‏ من أنا لأخيب ظن العدم‏.

 

نقلاً عن الأهرام 18/08/2008

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا