درويش لاعب النرد د. صلاح فضل - مصر كان محمود درويش, مثل عظماء الشعر في كل العصور, طفلا سماويا مدهشا, يحتفل بالحياة, ويغني لها, ثم يلعب مع الموت, ويطيل رفقته, شهد وهو في السابعة من عمره اجتياح قريته, وتشرد أهله, فشب يرضع من ثديين أحدهما يمنحه لبان العروبة وغذاء الروح, والثاني ثدي ذئبة ضارية امتص منه بمرارة قطرات العهود القديمة والحديثة, وخلاصة الثقافة الإنسانية الشاردة, غير أن التحدي قد دفعه إلي إطلاق أول رصاصة شعرية في حروب المقاومة الضروس. كان قد اهتدي بحسه المتوفز إلي أسلوب اللمس بالشعر الذي برع فيه نموذجه الأول نزار قباني, لكنه لم يلبث أن واجه تيارات الحداثة والتجريد, ولم يستطع أن يظل بعيدا عنها فتحول عن بدايته الأولي ورفض أن ينشد مرة أخري سجل أنا عربي مضحيا بشغف الجماهير بها وهاتفا بهم: ارحمونا من هذا الحب, وانتظروا منا أنضج أشكال الشعر, كانت ثورة التجريد التي اكتسحت الفنون التشكيلية قد امتدت حرائقها إلي التعبير الشعري, لكن الشفرة السرية الفلسطينية كانت كفيلة بحفظ إشعاع التواصل الجمالي بينه وبين جمهوره ممتدا, فحقق المعادلة المستحلية من مسيرته ومصيره في آخر قصيدة نشرها قبل أن يمتثل لحضرة الغياب ويخونه قلبه للمرة الثانية والأخيرة وهو يهمس له: من أنا لأخيب ظن العدم, والقصيدة قطعة نادرة في فلسفة البساطة, وشعرية الذات التي تحتضن الكون بهشاشة مثيرة, إذ تكشف أدق أسراره ببراءة خطيرة, يستهلها بقوله: من أنا لأقول لكم/ ماذا أقول لكم؟ وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه/ فأصبح وجها ولا قصبا ثقبته الرياح فأصبح وفأصبح نايا أنا لاعب النرد أربح حينا وأخسر حينا أنا مثلكم/ أو أقل قليلا حيث يقف الشاعر الذي يمتزج بصوت القصيدة دون مساحات فاصلة علي الطرف المقابل لأحد تقاليد الشعر في وضع قناع النبوة منذ أبي الطيب حتي جبران, إلي أن تتجلي في صوت شاعر مصر الدرامي الفذ صلاح عبدالصبور في ديوانه الشهير أقول لكم ليعلن إنسانية الشعر الخالصة, بل ومجانيته التي يدين فيها للمصادفة البحتة, فما هو إلا لاعب نرد يربح جولة ويخسر أخري, وما هو مثلنا أو أقل قليلا بطاقة الختام: ولكي يقوم بتشعير هذا الموقف يعود إلي سيرته الأولي في تقديم نفسه ومراجعة هويته, مبرزا هوانه في يد الأقدار, وهو كلما أمعن في التواضع المعرفي والرقة الشعورية ارتفع إلي آفاق عليا في مدارج العظمة قائلا: ولدت إلي جانب البئر/ والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات ولدت بلا زفة ولا قابلة/ وسميت باسمي مصادفة وانتميت إلي عائلة/ مصادفة وورثت ملامحها والصفات/ وأمراضها: أولا: خللا في شرايينها/ وضغط دم مرتفع ثانيا: خجلا في مخاطبة الأم والأب/ والجدة ـ الشجرة ثالثا: أملا في الشفاء من الإنفلونزا/ بفنجان بابونج ساخن رابعا: كسلا في الحديث عن الظبي والقبرة.. كانت مصادفة أن أكون ذكرا/ ومصادفة أن أري قمرا شاحبا مثل ليمونة يتحرش بالفتيات ولم أجتهد/ كي أجد/ شامة في أشد مواضع جسمي سرية فها هي بطاقة هوية أخيرة, تغلق مع البطاقة التي دخل بها دنيا الشعر دائرة العودة المكثفة للأسلوب الحسي لتشعير دلالات الحياة ومكاشفة معناها بطريقة سردية حميمة, يرتقي فيها إلي مستوي بلاغي آسر لا يتأبي علي النقل إلي كل لغات العالم دون أن يفقد جوهره في تمثيل نبض الروح الإنساني الصادق. الوحي اجتهاد: تتشكل القصيدة الوداعية من خمسة مقاطع مطولة, يبدأ الشاعر كلا منها بلازمة من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم, ويطرح عددا كبيرا من المواقف الحياتية, والذكريات والتأملات علي حافة السؤال, في مجموعة من الدورات المتعالقة في بنية مرنة, ولأن المقام لا يسمح لنا باستبطانها نكتفي بالإشارة إلي سؤال الشعر الذي كان هاجسه الأول إذ يقول: إن القصيدة رمية نرد/ علي رقعة من ظلام تشع, وقد لا تشع/ فيهوي الكلام/ كريش علي الرمل لا دور لي في القصيدة/ غير امتثالي لإيقاعها حركات الأحاسيس/ حسا يعدل حسا وحدسا ينزل معني/ وغيبوبة في صدي الكلمات وصورة نفسي التي انتقلت/ من أناي إلي غيرها واعتمادي علي نفسي/ وحنيني إلي النبع لا دور لي في القصيدة إلا/ إذا انقطع الوحي والوحي حظ المهارة إذ تجتهد. الحس والحدس.. غيبوبة الأصداء, وجهد المهارة التي كانت تسمي الوحي هي فواعل الشعر عند درويش, وهي التي جعلته يعود لمنابعه وبراءته الفطرية, فيتمثل مثل كبار المبدعين لنشوة الإيقاع العميق, حيث ينبثق الشعر الصافي بهندسة مدهشة فينقل صورة النفس إلي الغير ويضاعف ضوء الحياة ويقهر الموت وهو يخاطبه برقة مذهلة: من أنا لأخيب ظن العدم. نقلاً عن الأهرام 18/08/2008 |
|