محمود درويش .. لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي محمد يوسف جبارين (أبوسامح) - أم الفحم / فلسطين " من أنا لأقول لكم ما أقول لكم ؟ ... وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه .. فأصبح وجها .. ولا قصبا ثقبته الرياح فأصبح نايا ... أنا لاعب النرد ، أربح حيناً وأخسر حينا .. أنا مثلكم .. أو أقل قليلا ... " ، هو صوته الذي يملأ فضاء المكان ، تماما كما كان حاضرا دوما في فضاء وعي المكان ، الصمت الذي كله آذان يقظى ، ذواقة تتلهف بكل ما بها من رهافة الحس ، على نبرات صوته ، على كلماته ، على قصيدته ، على ابداعاته ، ليكون هو الحاضر في الآذان وفي العقول وفي القلوب ، فهو لسان هوية المكان ، وقد اختارته واختارها ، أن يكون لسانها ، وأن تكون بما هي هويته ، فاستحال هو الى هي مجسدة فيه هو ، في شعره ، فهي قصيدته ، وهو قصيدتها ، فقصيدته هي في هو في هي ، فهي هي ، فما هو ، هو هي . فلا الآه الوطن ، الحرية ، القصيدة وطن الحرية .. حرية الوطن .. وكان الكلمة .. الوطن يحدث عن نفسه ، الحرية تتحدث عن نفسها .. القصيدة انسان الوطن والحرية في الزمان والمكان ، أنت هنا ، من هنا ، الى هنا ، لتبقى القصيدة هنا الى هنا ، فهي هنا ، ولا يمكنها أن تكون غير هنا والى هنا ، وكل الذين كانوا هنا على شارع ، من شوارع الحياة في الوطن ، حيث كنت أنا ، في مقهى القصيد ، فهنا أمل يساوره قلق ، وقلق تساوره حرية ، وحرية يموج بها قلق ، وشروق على شفاه نهار ، ونهار يسأل عن شروق ، وميناء على أكف حلم ، وحلم يتورد به فكر ، وعودة تحدق في مفتاح قديم ، ومفتاح قديم يلح على عودة ، وبيارة برتقال بين دفات عقل ، وعقل يتماثل نسائم البحر ، وبر يئن من دبيب غريب ، ويجمجم كيف يفر الغريب ، وتاريخ يتفرس في بر فيغتم وبما يرى يضيق ، وهواء يسائل طفلا وادعا أن يراه بين طياته يطير ، وورود في خيال باسمات تطل من داخل القصيدة ، وآخر مثلي على حافة الانتظار ، فترى اليهم ، وصوته يتنزل عليهم ، فكأنهم يغتسلون به ، ويستولدون ذواتهم من جديد ، ترى ذلك في امارات وجوههم ، في تعابيرها ، في حركات ايديهم ، فحالهم مع كلماته ، كما المطر يتخلل التراب في عز الشتاء ، فكأنهم مبللين بمطر من كلماته ، بينا أنا أتماثله ، فكأنه أمامي . حين كان في مكان قريب من هنا ، يلقي قصيدته ، فآنذاك ، طرقني حس ، بأنه يودع فينا وديعته ، يوحي لنا بأنه أوشك أن يتم رسالته ، وبأنه يترك فينا قصيدته ، أتملى من هيئته وجملته ، وأنا ذاهل على حافة دمعة ، يتململ في داخلي أسى وبطيئا يتنامى ، ويستولد معه موجات ، من رفض يتهيأ ليعلن ، لا .. بل أنت باق ، وأمنية ودعاء جرفاني ، الى شواطىء هواجس ومخاوف ، ألجأته الى أن يقول لنا ما يقول ، فكأني بصرخة تدوي في أعماقي : لا .. لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي ، سالت دمعتي على خدي ، وما دعتني الى اعترض سيرها بمنديل يمتصها ، تقاطرت دموعي ، وما أدري لماذا كتابه " ذاكرة النسيان " ، قد تواترت صفحاته في ذهني ، فكأني وأصداء حصار بيروت تفور بي ، وفنجان القهوة ، أمامي ، أردد كلامه : " سأشرب القهوة الآن . سأمتلىء برائحة القهوة الآن ، لأتميز عن خروف ، على الأقل ، لأعيش يوما آخر ، أو محاطا برائحة القهوة . .. فتلك ارادتي : سأذيع رائحة القهوة ، لأمتلك فجري " ، وا متدت عيناي الى القهوة ، أتأملها بينا صوته " من أنا لأخيب ظن العدم ؟ ، من أنا ؟ من أنا ؟ " ، قد تعالى بنشيج صدري ، فوجدت نفسي أجهش في بكاء ، فكأني أنوب عن هويتي في بكائه ، كانت ذاكرة الوطن ، هي التي تستعبر الحسرة والدموع . وكان سؤاله " فمن أنا ..." ، يدوي في أعماقي ، وكأني أضمه بين رموش عيوني ، وأقول له : أنت الانسان ، وما كان للانسان في هذا الوجود ، الا أن يكون لاعب النرد ، فهو كذلك ، ولا يمكنه أن يكون غير ذلك ، فكونه انسان يقتضيه ..يحتم عليه أن يكون في صراع مع الأغيار ، فهو الصراع ، والزام ضرورة الانسان ، أن يكون الانسان هو الانسان ، وانسان الثورة أنت ، أن يصير بالثورة الى ما قامت له ، فهكذا أنت ، " فمن أنا..." ؟ هو أنت ، منذ أن كنت أنت ، أن تكون أنت هو أنت ، فهكذا كنت ، وفي حضرة الغياب ، كما اخترت أنت أن تكون أنت ، بقيت أنت هو أنت . فأنت محمود درويش ، الانسان الذي كان كما كان ، وما كان يمكنه، أن يكون ، الا كما كان . كنت أنت وما تريد ، وكانت الضرورة ، وكان الاحتمال ، فامكان ممكن ، ليس بالضرورة ، أن يجعل من الممكن هو عين ذاته الذي كان ذاك هو امكانه ، وانما يمكنه أن يكون الممكن في صيرورة ، دالة على بنيوية امكان أن يصير ، فظروف التشكل تتنافذ في الصيرورة ، فالانسان لاعب نرد ، يريد أن يصير الى ما يريد ، فامكانه أن يصير ، فأيان يرسو بامكان ، فليس بالضرورة على ممكن دل عليه امكانه ، فالاحتمال لا يعني الاستواء بكل مراد على ما يراد .. لاعب نرد .. هذا هو الانسان .. وهذا أنت ، انسان الثورة ، وما يريد ، ولا يمكنه الانسان ، بين فكره وظروفه أن يكون خارج الضرورة والاحتمال ، فلا مفر من الجدل بينه وبين الظروف ، ولا فكاك من صيرورة تصير ضمن الاحتمال ..لاعب نرد .. وليس ذاك اختيار ، وانما هي جملة الوجود . وما تلبثت طويلا ، انفتلت ، وسارعت الى الهاتف ، أتساءل أمام أذنيها ، أين هي ، فجاءني صوتها : يا هلا ، أين أنت ، قلت : عند حافة الواجب ، في فصل دموع ، وطال بي الانتظار ، فكيف أنت ، كيف حالك ، قالت : بدءا هرأتني الامتحانات ، لكن الحاجزين ،على الطريق بيومين ، طبعا لن يخطر ببالك بأنها هدتني ، وانما أوقدتني فاستحلت شررا ، فكأني بعنفوان وطن يتطهر من قيوده ، قلت : قطعا لم يخطر على بالي استكانة وهج الحرية في مواجهة طارئين ، عابرين .. لن يمروا الى ما أرادوا اليه أن يمروا ، قالت : حتما هم عابرون في كلام عابر ، فتلك حتمية أكد عليها شاعر الهوية درويش ، قلت : عيوننا على موعد بأن تنهمر معا دمعا على قبره ، فمتى تمام الوعد ، قالت : أنا هنا بين جريحة ، وأخرى تعسرت ولادتها على الحاجز ، حيث التحدي في مواجهة قوة يتخفى خوفها وراء ساديتها ، وسوف أتدبر أمري ، وما هي الا ساعة أو ساعتين ، وأكون دامعة العين قارئة القصيد ، لكنك لم تقل لي كيف وصلت ، قلت : على حصان ، هم يلعبون لعبتهم ونحن نلعب لعبتنا ، ثمة أمور في التاريخ تفيد ، في حل مؤقت لاشكالية قائمة في واقع . قالت : قطعا تقول مزاحا ، قلت : كان ذلك هو الحل ، بأن أكون هنا ، قالت : لكن الحاجز بقي مكانه ، قلت : على الأقل أخرجته من التأثير على اختياراتي ، قالت : لكنه يؤثر علي غيرك ، يخلخل مجرى الحياة ، قلت : تفكيك القدرة الاستعمارية .. فكفكة الاستعمار ، هذه هي وظيفة الأحرار ، قالت : تريد أن تقول بأن الحاجز قضية جزئية من قضية كلية ، فلا يجوز أن نختزل القضية الكبرى بجزئية منها ، فطرد الاستعمار هو الفعل الكلي ، الذي ينصهر فيه الكل ، فكأن الكل في واحد ، في خدمة القضية الكلية ، لا أن نتشرذم فنضعف ، ولا أن نتقاصر ، فنعتبر ازالة حاجز عن طريق ، بأكثر من الظن بأنه لربما يعود غدا ، فالازالة من زال يزول زوالا ، فلا موجودية لزائل ، ولا وجود له بعد زوال . قلت : انه الاستعمار الحاجز بيننا ، وبين آمالنا في الحرية ، ومخالب الشر ليست دماغه ، والمهم أن نصنع له دماغا على مزاجنا ، فلا يكون بعد ذلك حاجزا ، فعودة اللاجئين أولا ، فهكذا ننشغل بمسألة كبرى ونحلها ، فتتتالى بعدها حلول الصغرى ، انما الانشغال بالقضايا الكبرى ، يفرخ حلولا للقضايا الصغرى . قالت : الآك ايتها الحرية المطاردة في هذا السجن الكبير .. أما مر في خاطرك ، وأنت على صهوة الحصان ، بأن حصان ، من حصن وصان ، وبأنهم أرادوه حصنا ، بلا صان ، فتركوا الحصان وحيدا . قلت : أنا صاحب الحصن ، وأنا من صان ويصون ، وأنا حصن الحصن ، فأنا حصن وصان ..حصان ، ولأني لست غيري ، فأتميز بأني الحصان ، فكيف ذاتي تترك ذاتي ، أليس هو القائل : "على هذه الأرض ما يستحق الحياة .. على هذه الأرض سيدة الأرض .. أم البدايات .. أم النهايات .. كانت تسمى فلسطين ..صارت تسمى فلسطين .. سيدتي أستحق لأنك سيدتي .. أستحق الحياة " . قالت : اني أستحق الحياة ، واني أتقلى على نيران ثلاثية الاحتلال والألم والفتنة .. كوابيس هذه الثلاثية لا تفارقني .. تقض علي مضجعي ، فهات الدواء ، وردد معي قوله : " فيا وطن الأنبياء تكامل .. ويا وطن الزارعين تكامل .. ويا وطن الشهداء تكامل .. ويا وطن الضائعين تكامل " . وأضافت على عجل قولها ، فحتى نلتقي أستودعك قصائده . كانت الحركة في الشارع غير عادية ، الأقدام في هرولة ، وتكاد تعلن عن ميزة لها ، على السيارات التي تزحف بطيئا ، فكأنها الضفا ضع تزاحمت ، فكادت تلزم بعضها بعضا بسير أشبه بالوقوف ، كانت عيناي تدور في كل اتجاه ، فكل ما تراه يحدث عن نفسه ، بأنه مندرج في سياقات شاغل يجمع جملة الحركة ، في اتجاه تأهيل ، لظروف يتوفر في خلالها نجاح عمل ما ، وكان عقلي بين قراءة لما أرى ، وبين حيرة في استواء على الكيفية التي أنشغل بها ، في خلال وقت ، قضت ظروف شروق ، الا أن أنتظره ، حتى نلتقى فندمع دمع القصيد على قبر الحبيب . واني لكذلك داناني طفل ، وأخرجني من اطلالتي على موج الفكر المتلاطم في رأسي ، بقوله : هل تشتري ديوانا لمحمود درويش ، فالتفت اليه ، فاذا به يحمل رزمة من ديوان " أثر الفراشة " ، وعرفت بأنه يبحث بها عن رزقه ، أعطيت الطفل المبلغ الذي أراد ، فباشرني بما ظنه دليله الى سحب اعتراف مني بذكائه ، قال : هذا الكتاب أصبح لك ، فهو أثر فراشة هي أنا ، فتراني ساعات من نهاري أطوف كما الفراشة ، بحثا عن أثر أتركه ، يتصل به ضماني معاشي ، وأنت سوف تقرأ الكتاب وتزداد حبا لمحمود درويش ، وهذا أثر فراشة آخر ، واذا عملت بما أبقى لنا ، غدوت ثائرا ، لا يبخل بحياته على وطنه وأبناء وطنه ، وهذا أثر لا قبله ولا بعده من أثر ، فهو الأثر الذي أراده الشاعر ، فهو فكر الحرية ، وأنا الفراشة التي تحمل كتابه الى العقول ، كما الورقة أحمل كلماته ، وأمتاز على الورق ، بأني فراشة تحمل أوراقه ، الى من كتب من أجلهم . وأثنيت على الفتي بقولي له : أدهشتني ، ولم تقل لي الأسباب التي شكلت للشاعر اختياره هذا الاسم لديوانه ، فلم يحر جوابا ، قال : فأما هذا فتعرفه حين تفرغ من قراءة الديوان وفهمه ، ومن جانبي فأنا أحبه وأحب حبي له ، فهو وطني الذي ينشدني وأنشده . لقد لاحظ الفتي بشاشة راحت تعلو محياي ، وهو يحدثني ، فأتبع كلامه قوله : يبدو بأني أفضت سرورا في نفسك ، فأول ما وقعت عيناي عليك ، كان حالك من حال أوضاعنا ، والآن أرى بعض راحة تلوح ، بين موج عاصف في وجهك . وفجأة مر بجانبنا طاعن في السن يغني " فدائيون من حبق وحرية .. ومنذرون للجمرة .. على قرميد أغنية .. وشهوة شارع صاعد .. على أسطورة حرة ..هي الثورة .. هي الثورة .. " ، وما أبعد الصوت حتى قال الفتى : انها قصيدة محمود درويش ، فقلت : هات ما لديك منها ، فقال : " ... خنادقهم هواء البحر .. وظلهم يشق الصخر .. نشيدهم واحد : فاما النصر .. واما النصر .. ومنهم تولد الفكرة .. هي الثورة ..هي الثورة ... " ، وباشرت الفتي بسؤالي عن تعليمه وعن مدرسته ، فقال ، وقد خط الأسى حروفه في وجهه : أي تعليم وأي مدرسة ؟ !، قلت : ألا تحب محمود ، قال : بلى ، فقلت : الثورة تعني الحرية ، وتعني التعليم ، فجموحنا نحو الحرية ، يجب أن يتلازم مع مثله نحو العلم ، فثمة مدارس خاصة ، يمكنها أن تؤهل العقل وتضعه على عتبات الجامعة ، فقال وهو يتأوه : أمثالي كانوا أطفال الحجارة في الانتفاضة الأولى .. جنرالات الغضب ، وهذا أنا أمضيت ثلث عمري في غياهب السجن .. الاتهام التي به يمارس القمع علينا ، هي أننا نريد طردهم من أرضنا ، أنا قلت لهم وبندقية أحدهم تلامس رأسي ، فان لم نفعل ذلك فمن يفعله ، هل هناك من يتنازل عن وطنه لغريب ، هل تدري .. المعادلة صعبة ، لكنها هي لا غيرها ، نجعل من قوتهم عديمة الفائدة بازاء قوتنا ، فعندها سوف يتسولوننا ، لنسهل لهم دربهم الى الرحيل . وكان الفتى يفرغ همومه ، بينا عيناه تذهب في كل اتجاه ، واذا بها تتوقف ناحية جماعة بيديها باقات من ورود ، وقد دلت عليها ملامحها بأنها من بلاد بعيدة ، فما هو الا أن صافحني ، فسألته أن أعرف اسمه ، فقال : ثائر من البروة ، فأبيت أن يذهب حتى أفهم ، فقال : هو شاعر ثورتنا ، وثورتنا على نفسها لن تدمع ، كنا في داخله أيان يذهب ، بنا ولنا كتب ، فنحن هو في الحياة نصوغها كما أحبها لنا وكتب ، وباعدته خطاه عني ، واقترب من تلك الجماعة ، وراح يبادلها الحديث ويتجه معها جهة ، بدا واضحا بأنها مؤدية الى قبر شاعرنا الكبير . وانها لهنيهة حتى ناولتني فتاة منشورا ، ومضت في طريقها ، وما أن ضمت رموشي صفحته ، حتى تنبهت مشاعري ، لقد عرفت الآن ، بأن مهرجانا كبيرا سوف يقام ، وبأن الساحة الكبيرة المحاذية لقبره سوف يتم افتراشها بالورود ، وبطريقة فنية بحيت تسفر الكتابة بصفوف الورد ، عن لوحة فنية عملاقة تتجلى فيها صورته ، وقصيدة له ، وبأن قصائد له سوف تتم قراءتها في لغات مختلفة ، وسوف يلقيها محبوه الذين جاءوا من بقاع الأرض البعيدة . انتشلتني الكلمات من الضيق الذي ما انفكت ظروفي ترعد به في أرجائي ، وجابني زهو حلو، فكأني بهالة فرح تضمني ، وكدت أقفز في مكاني فرحا بابداع يعانق ابداعا ، وأهتف : بخ .. بخ ، فحنيني الى وفاء الوفاء بوفاء للوفاء ، أفاء عبقا من ورد غمر أنفاسي ، فكأني الجمال تناثرت قيوده ، فلم أعد أنا ذلك الذي كنته قبل أن نثرت هالة من الصدق مع النفس حقيقتها ، أمام نفسي ، وهي لحظة فارقة في العمر ، واذا برجع صدى يتردد بين أقطاري ، متسائلا ، لماذا لا نكون دوما أنفسنا ، عند كل علاقة لنا بقضيتنا ، لماذا لا يكون الجمال الحرف والمعنى لصورتنا ، لماذا لا نحطم قيوده ، لماذا يختنق بنا جمالنا في خلال علاقة بعضنا ببعض ، وكدت أدري لماذا جابتني مرارة أرست غصة في حلقي ، فلا هالة من عبق ولا من فرح ، بقيت لي ، مرت في نفسي كشهاب أضاء لي لحظات وتلاشى ، وعدت الى حالي ، اتساءل والهم يكربني ، والغم يمضني ..كيف يغرب همي .. كيف يرفض غمي ، فلا يجوز لي أن أظل أكتوي بنار تمزقي وفقط ، أعتصر شكاة نفسي لنفسي هما يزيد في همي ، ومرارة تجري لي كالقطران في حلقي ، وانما يجب أن أبقى متنبه الحس ، فاهما يقظا بعقلية ، يتلفت بها قلقي في كل اتجاه ، بحثا عن حقائق ظروفي ، محيطا واعيا بتمزقي ، أكتشف متغيراته وأميزها ، وأستدل على ما يجمعها ، فعساني أكتشف معادلة ، أنفي بها نفيا نبش أظفاره في ذاتي فمزقني ، ولم يزل يداوم على النبش في لحمي ، ليتمم نفيه لي فلا أكون ، يجب أن أتداركه بنفيه من وجودي ، فالعقل لا بد وأن يطفىء شأفة الجنون ، فلقد قال البحر من على سفح جبل الكرمل : " الشعب الفلسطيني البطل الذي استعصى على أعدائه استئصاله ، سيعرف كيف يضع حدا لجنون أبنائه " ، وذلك يقينه ، وتلك بشارته التي تطل من أعماق وعي يتكامل لي ، بأن معادلة الفكفكة أو التفكيك للنفي المتربص بقضيتنا ، بهويتنا ، بمصيرنا ، انما هي على مرمى عقل ، فالتبديل في الظروف ، نتاج الجدل بيني وبين محيطي ، ولا بد من الاحاطة الدائمة بكل متغيرات المحيط ، في كل آن ، فهي ضرورة بحثي عن معادلتي التي بها ، استرد هيبتي ، ومكانتي ، وفاعليتي ، فخرجت من وقوفي بهرولة ناحية ، أعرف بالسؤال أن أجد مكاني والصحف كلها أمامي ، وشاشة حاسوب أطل من خلالها على كافة المواقع التي تحمل هموم القضية ، وأيضا تلك الأخرى الموظفة في حز السكين في لحم المصير ، فمعرفة ضدي ، بعض معرفتي ضروراتي ، في عملية اعادة هيكلتي لذاتي ، كي أكون ما توجبه ادارة دفة المصير ، وانتهيت الى مكان جلست فيه ، وكنت على عجلة من أمري ، فلهفة على قراءة حركة الحوادث تتسارع بي ، واللقاء في حضرة الغياب ، يتقارب بي ، أنتقل من موقع الى آخر ، لا تستوقفني سوى أخبار جراحي وتمزقي ، فهكذا حال من لا وقت لديه ، فجراحه يأخذ منه كل وقته ، لا وقت لمشطور نصفين ، لغير خلاصه من انشطاره ، فأيان سعى شطر ترك وراءه شطره الثاني ، فهو شطره ، فلا يمكنه أن لا بدو شطرا ، فهو حبيس شطره الذي لا يوافقه و يرافقه ، فهو الهاجس الذي برغمه يلبسه ، ولو فر منه لا يتركه ولا يمكنه الا أن يكون معه ، فهو معه وليس معه ، وهو الى جانبه ولا يسانده ، نصفه الذي يعاند نصفه ، شطره الذي ينغص عليه عيشه ، وينكد عليه سيره ، فكل شطر بشطره يتعثر ، ولا شطر يحقق ذاته الا بما يصوغ لشطره فشله . وما سقطت عيناي على خبر فحواه ايغال في الدم البرىء ، حتى تدافعت في ذهني صور جراحاتي ، فكأني بالفضاء من حولي يضج بفاجعتي ، بذكري أيام كان فيها انشطا ري ، وتراءى لي فكأنه أمامي وهو يقول : " صحوت من الغيبوبة على علم بلون واحد يسحق علما بأربعة ألوان .. على أسرى بلباس عسكري يسوقون أسرى عراة ، فيا لنا من ضحايا في زي جلادين " . كانت لي ذات فأصبحت نصفين ، فلس هنا وطين هناك ، ذات بلا ذات ، فكيف أجمع ذاتي ، كيف أكون أنا هو أنا وقد أصبحت غيري ، ممزق أنا ، وبعضي يأكل بعضي ، غزة استقلت بذبح في رقبة الحرية ، بتمزيق في وحدة وجودي ، كيف لي أن أفهم حرية تسفح دمي ، تشطرني نصفين ، لأصبح شتاتا ، وبدأت أتلمس ذاتي ، فثمة تصدع أرعد في أرجائي ، وجفاف جاب ريقي ، جابني حس فظيع، ساءلت نفسي تساؤله ، " هل أنا + أنا = اثنين ؟ قلت : أنت وأنت أقل من واحد !. لا أخجل من هويتي ، فهي ما زالت قيد التأليف ، ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون ، أنت منذ الآن غيرك " . كان القلق يموج بي ، والحيرة تفتق ذهني ، وما بين همي و غمي ، اسمع وجيب قلبي ، جرت كلماته على لساني ، فكأني في دهشتي من حال يرين على أنفاسي ، أستدعي مرارة أيام الفاجعة بقوله : " هل كان علينا أن نسقط من علو شاهق ، ونرى دمنا على أيدينا ، لندرك أننا لسنا ملائكة ، كما كنا نظن " . وعي السقوط ، غير سقوط الوعي ، غير علو السقوط ، فساقط الى أعلى ، يقف بالمقلوب في أعلى فيرى الأسفل أعلى ، فلا بد من تبديل في علاقة عقله بوضعه ، لكي يدله بصره على ما لم يعيه ، في حاله المقلوب ، فانقلابه على انقلابه ، ضرورة وعي بوعي ساقط ، ليسقط الوعي الذي يبرر السقوط ، فلا بد من تأسيس منهج يتفكك به وعي تأهل به السقوط ، فانشقت به وحدة الذات ، ما يعني الكشف عن ثقافة أنتجت منهجا ، أي منطق تناول ، أفضى الى بعثرة دامية ، فاستحال اللامعقول الى معقول ، والمدنس الى مبرر ، والمقدس الى ممزق ، ثم فضح هذه الثقافة ، وذرايتها ، بثقافة تؤهل منطقا ، تتمنطق به وحدة الوجود ، بعد أن تكون ، قد استردت أنفاسها وتعافت ، وأراحتني من شقوق في ذاتي ، لم تزل تعصف بي ، وتنذر بديمومية تهافت لاوعي ، لا يزيد في غير استطالة في المسافة بيني وبين آمالي .. يجب أن أسبر أغوار تمزقي لكي أعرف كيف أمزقه ، فألاشيه ، فتمزقي ابتسامة على شفاه ضياعي ، فأو الظلام يمزقني ، أو شروق وحدتي وعناقي نهاري . وما انتهيت من اعتصاري همومي ، حتى أخرجني من وحدتي ، تصفيق لا تخفى حرارته ، فانفتلت من مكاني فاذا كل من هم في المقهى ، يلتفتون الي ، ويجأرون بصدقي ، ويسألونني : كيف .. قل لنا كيف ؟! ، وأدركت عندها بأني كنت أكلم نفسي بصوت عال ، على غير انتباه مني ، بأن ثمة سلوكية أخلاقية تستوجب كل من يرتاد المكان ، بأن ينهج نهج الحرية ، فهي له ، ولغيره ، فلا أن يسلبها من أحد ، تحت أي سبب ، فكل اختزل لحرية الآخر مرفوض بقانون المكان ، لكن هذا ما كان مني ، ولم أعرف ماذا أقول ، غير أني استسحمت رواد المكان ، وطلبت أن يسامحوني ، فنهض أحدهم وقال : هذا مقهى الحرية .. ملتقى محمود درويش ، نلتقى هنا على حب شاعرنا ، وغالبا ما تأخذنا قضية الحرية ، الى الحوار ، فهي حريتنا التي نريدها .. ونتحاور ، فلا عليك ، فهات رأيك ، فكيف يتلاشى هذا الظلام الذي يقعد لنا بين عيوننا ، ويحفر كسكين في خاصرتنا . قلت : انه الحب .. من يحب الوطن يحب أهله . . الوطنية حب الوطن ، وحب أبناء الوطن ، فاذا انزرع الحب في النفوس ، وكان حقيقيا ، تكاملنا .. الحب شرط التكامل ، فنفس تكامل لها حب الوطن ، تملك كل مؤهلات التكامل ، مع أبناء الحرية .. أبناء الوطن ، فقال أحدهم : فكيف نستخلص نفوسا من أحقادها ، فحقدها حاجز يفتت ، ولا يجمع ، فقلت من فوري : أعطني حبا أعطيك وحدة . ونهضت من مكاني ، وأنا أقول : أرجو أن تجدوا لي العذر ، فأنا على موعد مع دمعتي على قبر من تحبون ، ومشيت ، وأنا أحدث نفسي ، فما بالها لم تصلني بخبر منها ، فلعلها سبقتني اليه ، فهل أتصل بها أم أسبقها وأنتظرها ، فهي آتية ، وسألت ساعتي أن تنبئني بالوقت ، فاذا بقناعتي توسوس لي ، بأنها في انتظاري ، فالوقت جرى مجراه ، ولم أعره انتباها ، فهرولت ، وتراكضت أحيانا ، حتى أخبرتني عيناي بأنها ، لا بد هي ، أو تشبهها ، وما شارفت الرؤية وضوحا أراحني ، حتى تيقنت بأنها شروق ، تنظر طويلا صوب القدس ، ثم تحني قامتها ، على قبر محمود درويش ، وبين يديها باقة من الورود تضعها عليه ، ثم تتناول منديلا من ورق من جيب سترة ترتديها وتمسح دمعتها ، وما أن أصبحت بجانبها ، حتى رفعت رأسها ، فبدا لي بأن تساؤلا كبيرا تطفح به امارات وجهها ، ثم قالت والحسرة تكاد تشقها ، لماذا ؟! هل هذا ما ينقصنا ، أكثيرا علينا أن يظل بيننا ينشدنا العزيمة والأمل ، كان صوته دوما خلاصا لنا ، من دوامة اليأس والاحباط ، كانت كلماته تنتشلنا ، وتضعنا دوما على حافة الواجب وننهض . وما كادت تكمل كلامها ، حتى نشج صدرها ، وغلبتها دمعتها ، وأغرقها حزنها في بكاء ، فلم يمكنها الا أن تكون هي ، كما هي ، بكل نقاء الثورة في كيانها ، وما أمكني الا أن أكون نفسي ، فأرخيت لها ، تركتها لصدقها في حبها ، تفيض بما بها ، بلا كلمة مني ، بقيت صامتا ، بينا دمعتي تجري على خدي ، ومن دون أن أدري ، تنزل من حافة ذقني ، وتهبط على خدها ، فاذا هي تمتزج بدمعتها في مسيرة حب ، تجري على خدود الحب ، لتتندى من ذقن الحب ، بدموع الحب على الحبيب ، وانتبهت شروق لبوح الدموع ، وحنت رأسها الى أعلى ، ناحيتي ، بينا هي مكبة على قبره ، وتأملتني لحظة ، ثم باحت بقولها لي : ألا ترى الى الدموع كيف تجري موحدة في التعبير عن حبها ، أليست وحدة الدموع دليل حب راسخ في كوامن النفوس ، فحين تجد موكبا من دموع ، فاعرف بأن الحب يجرى مجراه ، ثم أدارت عينيها ناحية القبر ، وأسندت رأسها براحة يدها اليمنى ، بينا يدها اليسرى تربت على وجه القبر ، وما هي الا دقيقة أو تزيد من غيبة الكلام ، حتى راحت تقول : أواه .. أواه .. أيمكنك أن تشرح لي ، لماذا نحن بالذات دون غيرنا من الشعوب ،علينا أن نحزن .. دوما ، وذلك من أجل أن نكتشف بالحزن دربنا الى نجاتنا ، من هذا السيل الذي لا ينقطع من الأحزان ؟ ! ، لماذا أجبني ، أما كان يمكن أن يكون غير الذي كان ، وكائن ؟ ، أليست "نكون" التي تتبع "سوف" ، وتندرج على كل لسان ، انما تحتاج الى قدرة ؟ ، قلت : الجواب لدى محمود درويش فخذيه منه ، فماذا قال في مديح الظل العالي : "... سقط القناع ، لا أخوة لك يا أخي لا أصدقاء ، يا صديقي ، لا قلاع ..." ، " لولا هذه الدولة اللقيطة لم تكن بيروت ثكلى " ، ولك أنت الآن ، أن تستبدلي كلمة دولة بدول ، وكلمة بيروت بقطاع غزة ، بالضفة ، انه بعينه غدر الزمان كما قالت أمي ، فقالت شروق ، قد كان صوابا قوله ، " .. الاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان .. فاجعل كل متراس بلد .. لا أحد ، سقط القناع .. عربوا أطاعوا رومهم .. عرب وباعوا روحهم .. عرب وضاعوا .. سقط القناع ..." ، وأردفت تتساءل ، بوعي محيط بالسؤال وجوابه ، هل ثمة أدق من توصيفه لهرولة أعراب الى ما يفرغون به ، من كل معنى لكرامة ، فلا يعرفون منها سوى قشرة كلامية ، لا معنى بها يعني ما هو ، يتخايلون بها وينتفخون ، فالمدنس في داخل قشرة من المقدس ، فكأن الذين تراهم ، ولا صلة لهم بحرية مقدس من قبضة مدنس ، فلا حصن للحرية سواك ، ولا حرية لقطرة ماء بلاك ، فأنت هو من عناك حين قال : " الاك ... لا أحد " ، فهل أوفى من صدقه ، في تعريفه ، لحقيقة حركة الحرية في الواقع ، وهل أدق وصفا لحال نحن فيه من قوله : " أنا يوسف يا أبي .. يا أبي ، اخوتي لا يحبونني ..لا يريدونني بينهم ، يا ابي .. يعتدون علي ، ويرمونني بالحصى والكلام .. يريدونني أن أموت لكي يمدحوني .. هم سمموا عنبي يا أبي .. وهم أوقعوني في الجب ، واتهموا الذئب .. والذئب أرحم من اخوتي .." ، كيف نفهم حرية تخرج من دبابة أميركية ، بغير هويتها ، وبما هي عليه ، من حرية ذبح في مصيرنا ، كيف نفهم مشنقة لسوار وسور لأمننا القومي ، وهل ضاقت صورتنا ببريقها ، فاستدعت ما شاهت به .. كيف غزاها تمزق ، بلون خلخلة ، وتفكك يشيع في وطننا العربي ، التائه عن كنوزه ، المفكك بحيرته ، ولماذا في شوارع وعينا ، انغلاق فكري ، ومراهقة فكرية ، يتوهان بالعقل ، عن منطق تناول ، تأسس بارادة فجر ، يحمل بين طياته بشائر النهار . كيف صار الذي ذبحوا له وطنه بين يديه ، باحثا عن حرية بذبح في رقبة أخيه . كيف صار المقهور ، يؤثث بالقهر، فرصة نمو وتطور ، لمن مارس ، ولم يزل يمارس عليه القهر ، ويحتجزه في قيود ، يحجب بها عنه البر والبحر والهواء ، كيف أضاعه القهر فوظفه في قهر حرية يحلم بها . وماذا عن هويتنا ، أما زالت هي بعينها ، فاذا هي هي فلماذا لا تشرق الشمس ؟ . وأخذت منها الكلام وقلت : ينقصنا ما كان متوفرا لاخوتنا في الجزائر ، فحين اشعلوا ثورتهم ضد الاستعمار الفرنسي ، فسرعان ما تجلت ، كثورة عربية ، ضد الاستعمار ، على أرض الجزائر ، فكانت مصر ملأى بمعسكرات التدريب للثوار العرب، يأتون من كل بلد عربي ، ويتدربون ، ويلتحقون بثوار الجزائر ، كانت مصر تموج بجمع كل دعم للثوار ، وكانت نار الثورة ، توقد ضد الاستعمار، في كل مكان ، وكان العدوان الثلاثي على مصر ، ليس فقط بسبب ، من تأميم لقناة السويس ، وانما بسبب دعم ثورة الجزائر .. كانت ثورة عربية تعلن عن نفسها من مصر ، وتنفجر في وجه الغزاة الأجانب في كل مكان ، مات جمال عبد الناصر ، وهو يجمع العرب في اخماد حرب ابادة ضدنا في الأرد ن .. كان أيلون الأسود ، ثم تل الزعتر ، ثم ... ثم حصار بيروت ، فمجزرة صبرا وشاتيلا ، ثم حصار الثورة الفلسطينية على كل صعيد ، واندلعت الانتفاضة .. تحدث الطفل والحجر بحق هذا الوطن في الحرية ، ثم الانتفاضة ، ثم حصار عرفات في المقاطعة ، ولا أحد ، ثم الحرب على قطاع غزة .. حرب على فلسطينين في الحصار ، فمنافذ غزة مسورة بالنار ، برا ، بحرا ، جوا.. محاطة بالأعداء ، بينما الاخوة يتباعدون بأنفسهم ، عن موجبات حريتنا ، وهم يتألمون ، ويتفرجون ، ويمدون أياديهم الى السماء ويرجون ، وكل خير لنا يتمنون ..مقيد أخوك بعقله ، فلا عقل له ، فيأت به .. كانت حرب تأديب .. حرب كسر ارادة وبعث يأس ، وخنق أمل . وكانت شروق تنصت لي ، وكلها آذان ، بينما امارات وجهها ، وحركات أطرافها ، تنبيء بأن موجات غضب تجتاحها ، وتقبض على ناصية جوارحها، ولم تتركني أكمل ما رغبت في قوله ، باشرتني بقولها : بدءا ببطولاته على أرض فلسطين ، وصموده في الفالوجة ، الى آخر يوم في حياته ، كان بذاته ثورة عربية ، ضد الاستعمار ، وكانت قضيتنا قضيته ، كان واحدا منا ، ولو ساوم قيد أنملة ، لما حاربوه من الداخل والخارج ، كان بذاته الكرامة العربية تتحدث عن نفسها ، أما هؤلاء الذين أشرت اليهم ، فذاك مقيد بكرسية ، وهذا سجين اتفاقيته ، فقضيته لم تعد قضيته ، غادرها الى قضيته ، وترى اليه يزهو بتفرده ، كأنما ركن أعباء انتماء ، في زاوية النسيان ، فسحة نموه وتطوره .. اغتراب غريب ، لا غرابة فيه ، سوى أنه بعينه ، ما يريده الغريب ، فالزعتر نبات الحياة.. أنت زارعه ، وأنت أهله ، مطوق بالنار ، ولا حل سوى أن تفك أسره ، وتبره وتسعده ، فقضيتك هي قضيته . ولك أن تناجي الدنيا ، وتقل ما تشاء ، فمثل الدمعة على شرفاء هذه الأمة ، ما سطر تاريخ الدمع في عيون الشرفاء ، أين حنظلة شاهد الوعي على هذا الذي يجري ، وما جرى مثله ، الا في زمن الرذيلة والتتار ، فمن زمن زنوبيا ، والصوت في فضاء الشرق يدوي ، ينادي أضف زماني ، فالغدر في فلسطين ، في العراق ، انما كان تسهيل الطريق أمام الغرباء .. حنظلة باق ، بقاء البحر في البحر ، بقاء الربيع في السنة ، بقاء الحياة تنادي على الشرف .. فيا تلابيب الظلام تلبدي واجتمعي ما شاء لك ، وعربدي ، فشوق الحياة الى شروق ، لا يعدله سوى مجيء حنظلة بالشمس من عند الأفق .. شروق الحرية ، لغة الحياة ، ابتسامة النور .. فيا ليل تراجع ، ويا شمس اشرقي ، ويا قصيدته اصدحي ، فلا زالت الأرض تنطق بلسانه : " أنا الأرض .. يا أيها الذاهبون الى حبة القمح في مهدها ..احرثوا جسدي ! ..أيها الذاهبون الى صخرة القدس .. مروا على جسدي .. أيها العابرون على جسدي .. لن تمروا .. أنا الأرض في جسد .. لن تمروا " . كانت موجات الظلام التي تعربد في طول البلاد وعرضها ، قد تراءت لها ، فكأنها بين رموشها ، فعصفت بها ، فأطلت الأرض بهيبتها ، بارادة التحدي ، فاستسقت شروق منها توهجها ، فكأنها تتحدث باسمها ، باسم شعب هو صاحبها ، وهي الأرض التي ما أمكني ، الا أن أترك لها كياني وترا ، تضرب عليه بأناملها ، وتغني عذاباتها ، تأخذ مني فكري تطوف به في فيافيها ، في ضياعها ، في جوعها الى حبها ، الى أطيارها ، الى سنابل القمح ، الى دغدغت الحرية تفرج عنها غمها . وما أن تناهت فورة الأرض في الوجدان ، الى ما أتاح للعقل أن يطل على الشفاه ، بما تيسر له ، حتى أفضت بقولي : بل ذبحوا في رقابنا ، ومروا على أجسادنا ، على سنابل قمحنا ، ولكن .. لن يمروا ، قد أحالوا أحوالنا شتاتا .. لاجئين ، نبحث بكل قطرة دم ، بكل أنفاس الوعي ، عن عودتنا ، ولكن الأرض أرضنا ، ومنها حتما يفروا . . كان حال الغرباء في الجزائر كما الحال هنا ، وهذا أنا ، أمام عينيك ، انظري الي ، حدقي بي ، فتشي في أفعالي في أقوالي ، في ملامحي ، في اللهب المتقد دوما في عيوني ، فماذا كان نتاج العذاب .. الزنزانة ، السجن ، القيود ، فلقد ازددت معرفة بذاتي ، وهذه كما ترين حريتي ، طلاقتي في جمع امكانياتي ، وصرفها في تحقيق آمالنا في شروق نهار الحرية على بلادي . السجن مشروع حبس للارادة ، بهدف قهرها وتحطيمها ، لكنه بازاء الارادة الحرة ، فسرعان ما يتكلم في وعي الحر ، فيزيده اصرارا على حريته .. في السجون ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني ، فلماذا هم مطوقون بالقيد .. لأنهم ارادة حرية ، استجابت لحقها في حياة الحرية ، فسعت ببذلها الى الفوز بحرية الحياة ، لتحيا حياة الحرية . وكانت شروق تحدق بي وأنا أقول ما أقول ، واذا بها تسائل الوطن : قل لي يا وطني ، ماذا قلت له ، فقال قصيدته ، "رد فعل" ، وراحت تنشد ، وأنا أقول معها : " وطني !، يعلمني حديد سلاسلي .. عنف النسور ، ورقة المتفائل .. ما كنت أعرف أن تحت جلودنا .. ميلاد عاصفة ، وعرس جداول .. سدوا علي النور في زنزانة .. فتوهجت في القلب ، شمس مشاعل .. كتبوا على الجدران رقم بطاقتي .. فنما على الجدران ، مرج سنابل .. رسموا على الجدران صورة قاتلي .. فمحت ملامحها ظلال جدائل .. وحفرت بالأسنان رسمك داميا .. وكتبت أغنية العذاب الراحل .. أغمدت في لحم الظلام هزيمتي .. وغرزت في شعر الشموس أناملي ..والفاتحون على سطوح منازلي .. لم يفتحوا الا وعود زلازلي ! .. لن يبصروا الا توهج جبهتي .. لن يسمعوا الا صرير سلاسلي .. فاذا احترقت على صليب عبادتي .. أصبحت قديسا ، بزي مقاتل " . كانت الألفاظ تجري على لساني ، فتقصف رعدا ، وتبرق برقا في أرجائي ، فكأني بحر زاخر بموج هادر ، وكأني بموج الظلام الذي يتراءى لي بين رموشي ، يستنهض بي وعيا بعذابي ، وبضرورة أن لا أصابر نفسي على عصف ، بل أن أجعل من صبري ، عزيمة تشق الظلام ، فليس معقولا أن يوضع شعبي في المقلاة ومن تحتها النار ، من أجل يتفيأ بظلال بيارته غريب على تاريخ الأرض ، وانه السخط وقد تملكني راح يسألني بسؤاله : " من أين جاؤوا ؟.. وكرم اللوز سيجه ..أهلي وأهلك ..بالأشواك والكبد .. ! " . واذا بها تقول : يا أبا سامح ، .. ناموا.. صناع التاريخ والحضارات ناموا ، فتسلل الى بساتينهم من يتلقمون على فتات موائد الحضارات ، فمن لا تاريخ له يسرق تاريخا ، يسرق لغة ، يسرق أسماء ، يخترع دينا ، يقيمه على جملة مقالات ، لا يصح بحال أن توصف ، بأكثر من كونها أدبا دينيا مشبعا بالخيال والأساطير ، لكن فضيحته لا بد لاحقة به ، فلا مفر له من أن يشرب مرها ، فمخزون الأرض سوف ينطق ..مكتبة الأرض سوف تفصح عن حقيقة تاريخها .. فعلم الآثار آت بكل دليل علمي ، على أن من لا تاريخ له ويزعمه ، فهو من ليس له ما يدعيه . وقد كان محمود لسان الحتمية التاريخية ، حين وصف هؤلاء ، بالعابرين بين الكلمات العابرة . كانت شروق على قناعة تامة بأن الطارىء هو الطارىء ، والعابر هو العابر ، وبأن الكلمات لا يمكنها أن تكون بغير معانيها ، وبينا هي تسرد قناعاتها ، كان على بعد مترين منها رجلا ، تبدو عليه ملامح الوقار والعلم ، ولما يمضي على وصوله دقائق معدوات ، وبدا عليه بأنه يصيخ السمع بأذن تتعقل ما يردها من كلام ، وما نزلت أذناه من انصات ، لما تقوله شروق ، حتى اذا انتهت من جملتها ، أحنى هامته والتفت اليها ، فكأنه أب حنون ، يود أن يوقر في وعي ابنته أمرا ، وقال مستأذنا اياها : هل يمكني أن أقول لك شيئا ، قالت : تفضل ، قال : كلماتك قرت في أذني واستقرت في نفسي ، وهي صواب في صواب ، وتصب في صواب ، فجملتك الصواب نفسه ، قالت : أعرف هذا فالثورة صواب وأنا بنت الثورة ، ولا أقيم موقفي ، الا على صواب الفكرة وصواب الموقف ، فغير الصواب يؤثث لانفصالية بيني وبين ما أريد ، وبيني وبين ما تقوله لي قصيدته ، فالصواب صوابي .. صواب قصيدته وصواب ثورتي ، قال : انتظري فأنا ما أثني على قول لك ، بقصد الثناء ، فتظنينه قولا بصوابية صواب ، فلا حاجة لك ولا لي بذلك ، فالصواب هو الصواب ، وانما أردت أن أقول لك : بأني أولا ، باحث في تاريخ الأديان ، وعلم الآثار ، وأستطيع أن أقول لك ، بأن الأرض بالفعل ، بدأت تفصح عن اسرار تاريخها ، فالكشوف في النصف الثاني من القرن الماضي ، والى الآن ، تؤكد على صحة ما قلته أنت ، فكتاب هؤلاء يكذبه كل دليل علمي ، ويسقطه من كونه كتاب تاريخ ، فحقائق التاريخ متناقضة بالتمام مع ما جاء فيه ، واني أنصحك أن تقرائي كتب عالم عربي كبير في هذا المجال ، فكتبه علمية بحتة ، واسمه " فراس السواح " ، يكفي أن تكتبي اسمه على شبكة المعلومات لتجدي كتبه ، وخاصة منها " آرام دمشق واسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي " ، وفي كتاب له " مغامرة العقل الأولي " تجدي في باب " التكوين الكنعاني " منه ، ما يبهرك ، تجدي في الثقافة الكنعانية ، الكتابة الأوغاريتية ( وهي شديدة القرب من العربية ) ، وعلى رأس قائمة الآلهة الأوغاريتية ، يقف الاله " ايل " كبير الآله ، ومن الآلهة المؤنثة الالهة " ايلات " نسبة الى " ايل" ، وهي زوجة " ايل "، ومن ألقابها سيدة البحر ، و تجدي الاله " يم " ، أي البحر الأول ، وأيضا الاله " يهوه " ، وما الى ذلك الكثير .. وكذلك اسم " أورشليم " ، وقد ورد لأول مرة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وذلك في نصوص فرعونية ، منقوشة على جرار فخارية ، وتدعى " بنصوص اللعنات " ، وبها تفصيل لأسماء البلاد وحكامها من المصنفين كأعداء الفرعون ، ومنها مثلا يقرب - آمو ، حاكم أورشليم وبطانته ، وغيره ، وغيره ، فلا علاقة للمارين بين الكلمات العابرة ، بالتسمية .. " أورشليم " ، بتاتا . وأدركت شروق بأنه انما يلفت انتباهها ، ولا يرنو الى الدخول في التفاصيل ، فباشرته بالسؤال ، فماذا يكون شأن جماعات ، اذا ما أخذنا منها أسماءنا ، وأرضنا .. تبقى بلا أسماء وبلا أرض ، فأي مخلوقات هذه التي لم تعرف سوى السطو على ما ليس لها ، أمعقول هذا ، أن يكون تكوين بشري ، لم يفلح في ابداع أسماء له ، فشاعت في وجه الباحث ابتسامة ، فصافحنا ، ومضى لشأنه ، وانثنت شروق نحوي ، فوجهها في وجهي ، وهي تقول لي .. حتى أسمائهم ليست لهم .. أليس هذا يبعث على الشفقة ، هل رأيت أحدا يشفق على عدوه ، اني أكاد أحس بهذه الشفقة ، مع أن زعلا كبيرا يموج بي على أنفسنا ، اذ كيف صنعنا ضعفنا بأيدينا ، ليكون بعينه فرصتهم الى ما يريدون ، لماذا فعلنا هذا ، أمن أجل أن نحقق نصرا مبينا في المستقبل ؟! . . وراحت شروق تحدث نفسها بصوت مسموع ، هل كان متسامحا محمود حين قال لهم : " احملوا أسماءكم وانصرفوا " ، هل أصابه ما أصابني الآن من شفقة ، أم تراه عنى أسماءهم ، فهناك الروسي ، والبولوني ، وجينات لا صلة لها بشرقنا ، ويزعمون بأنهم بني فلان ، وفلان لا صلة له بهم ، فأي تركيبة بشرية هذه ، لكن محمود أحاط بالزمان ، وامتلأ وعيا بما لنا ، وما ليس لهم ، وقال لهم : " ولنا الماضي هنا .. ولنا صوت الحياة الأول ..ولنا الحاضر ، والحاضر ، والمستقبل .. ولنا الدنيا هنا ... والآخرة ، فاخرجوا من أرضنا .. من برنا .. من بحرنا .. من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا .. من كل شيء ، واخرجوا .. من مفردات الذاكرة .. ايها المارون بين الكلمات العابرة " ، فكأنه بسط بصيرته بين زمان غائر في القدم وزمان آت ، و تكلم باسم تاريخ ، لا مفر آت . لقد استغرقني حديث الزمان وما كان ، وما هو آيل ليكون ، وكأني بتاريخ الأرض يمر موجات تلو موجات في ذاكرتي ، وما هي الا لحظة حتى أتبعت قولها قولي : اني أرى شرقنا يفيق من سباته ، يلملم جراحاته ، وحاله كمن به ارتباك ، وحيرة ، فليس هذا الذي يسود الشرق ، من ظروف ، هو وجه حقيقة انسان هذا الشرق ، ثمة تململ ، وخط فكر ، يطل من أعماق كل فرد ، بأن الذي لا مفر منه ، فلا مفر منه ، فلا بد من اعادة ترتيب الأوضاع من جديد ، على ما يجعل شروق الشرق ، شروق حضارة جديدة ، يتجدد بها هذا الشرق ، ويطل من جديد ، كمدرسة تتعلم بين يديها البشرية جمعاء ..اني أرى ذلك تماما كما كان يراه محمود ، فكم من تيارات من رياح عاتية هبت على شرقنا وعصفت باشجاره ، لكنه في كل مرة قام من سباته واغتسل من تخلفه ، وكتب على صفحة التاريخ ، حتما يكون ما قاله محمود ، فكأني بالوطن كان يحدثه ، وكأنه امتاز بحس مرهف أتاح له أن يصيخ السمع ، فيسمع ايقاع الوطن ويفهم عنه مقولاته . وكانت شروق تفتش في ديوانه له ، بينا عيناي لا تفارقها ، وأنا أقول لها ما أقول ، واذا بها تشير بيدها ، الى أنها وجدت ما تبحث عنه ، ثم ترنو الي وتقول : ها هو في ديوانه " لا تعتذر عما فعلت " يقول : " يختارني الايقاع ، يشرق بي .. أنا رجع الكمان ، ولست عازفه .. أنا في حضرة الذكرى .. صدى الأشياء تنطق بي .. فأنطق ... كلما أصغيت للحجر استمعت الى .. هديل يمامة بيضاء .. تشهق بي : أخي ! ، أنا أختك الصغرى ، فاذرف باسمها دمع الكلام ... فيكمل الايقاع دورته .. ويشرق بي " . وما أكملت كلامها ، حتى التفتت حواليها ، فانتبهت الى أن حقيبتها ، في الجانب الآخر من قبره ، فقامت اليها ، وهي تسألني عن رغبة في شرب فنجان قهوة ، وأجبتها من فوري ، كان محمود قال في " ذاكرة النسيان " ، القهوة مكان ... ، قالت : لقد أفضت القهوة له بسرها ، حدثته بحقيقتها ، بجوهرها ، ككينونة في وعي ثائر . وعادت واقتعدت الأرض قبالة قبرة ، وصبت لي القهوة في فنجان ، ولها مثله ، وناولتني فنجاني وقالت : هات ما تذكره ، من قوله في القهوة ، وقلت لها : انما أتذكر الآن قوله : " رائحة القهوة عودة واعادة الى الشىء الأول ، لأنها تتحدر من سلالة المكان الأول ، هي رحلة بدأت من آلاف السنين ومازالت تعود . القهوة مكان . القهوة مسام تسرب الداخل الى الخارج ، وانفصال يوحد ما لا يتوحد ، الا فيها هي رائحة القهوة . هي ضد الفطام . ثدي يرضع الرجال بعيدا . صباح مولود من مذاق مر ، حليب الرجولة . والقهوة جغرافيا .. " ، ثم قلت وارتشافي قهوتي يتخلل كلماتي : آه لو تدرين ، كم أنا مشتاق ، الى رائحة القهوة ، تعبق في أنفاس مقهى عربي ، أو سوق عربي في " البروة " ، وبدت لي آهاتي ، على أكف رائحة قهوتي ، تتساءل أمامي ، فكيف كبرياء القهوة ، تقوم بي قيامة ، أتخلص بها ، من عجز في قدرتي ، أرساه لي زمان مضى في زماني ، لماذا رائحة القهوة لم تقل لأجدادي ما تقوله لي الآن ؟ . أتراها كبرياء القهوة التي تقول لي ، أم هي قهوة الكبرياء ، فما الكبرياء سوى رائحة القهوة ، تعبق في الأنفاس ، في كل مكان من الأرض ، من البحر حتى النهر ، وتلك قهوة الكبرياء ، فالقهوة مكان ، عودة مفتاح قديم الى مكان غادره من زمان . ومددت بصري ناحية شروق ، فما كان منها ، الا أن تساءلت بعنوان قصيدة له ، يحاور فيها لاجىء ابنه ، أيام النكبة ، قالت : " كم مرة ينتهي أمرنا " ، واستدركت ، هذا شرق ممتد في اللانهاية ، وسجل الغرباء فيه له نهاية ، في كل مرة يحسبون موتنا يطوينا ، كطي السجل للكتب ، فلا قراءة بعد ذلك في الكتاب . لكنا دوما نتجدد بموتنا ، فكل حز في رقبة فرع ، يزيد الفروع الأخرى اصرارا ، على ميلاد آخر ، و ريعانا أشد تسارعا في النماء .. فالأرض تنادي ، وليس للنماء ، الا أن يكون محكوما بدعوتها ، ويا ما أخلص الاستجابة ، ويا ما أعظم النداء . ووجدتني استكمل معنى ذهبت اليه شروق ، بقولي : لا أزال أتذكر ذلك التحقيق الذي أجروه معي ، وكنت فيه لسان القضية ، سألت المحقق : هل كان يمكنكم ، أن تقوموا بما قمتم به ، لو كنا نحن بحالنا الذي نحن عليه الآن ، وكانت اجابته صريحة ، اذ قال : لا ، فقلت له : كان خالي أحمد ( ابوأكرم ) ، مع جماعة ابو درة ، لا يملك سوى بندقيته ، لا سيارة ولا طائرة ، كان فلاحا ، فوجىء بما حل بوطنه ، أميا ، ولم يتخرج من مدرسة عسكرية ، ولا من حرب عالمية أولى وثانية ، وكان أبي حدثني ، بأنه من أجل أن يشتري بندقية ، وصل الى أطراف غزة ، وقلت : بأن سعد الدين الشاذلي ، قائد أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر ، قال دخلنا حرب عام 48 ، ولم نكن تدربنا ، على استعمال القنبلة اليدوية ، فكل ما عرفناه عنها رسما لها بالطبشورة على اللوح . وما انتهيت من كلامي ، وانما هي ، وبيدها ديوان " لماذا تركت الحصان وحيدا " ، آثرت أن تنبهني الى قول له جليل المعنى ، في السياق الذي نمضي فيه ، قالت : دعني أقرأ لك كلمات له ، فتعرف كيف الشاعر البديع ، يختصر بكلمات بسيطة مرحلة بحالها ، فالأب والابن وجدا نفسيهما لاجئين ، وكان هذا هو موقف شعب يتحدثان به : " ... هل تكلمني يا أبي ؟ .. عقدوا هدنة في جزيرة رودوس ، يا ابني ! .. وما شأننا نحن ، ما شأننا يا أبي ؟ .. وانتهى الأمر ...كم مرة ينتهي أمرنا ؟ ..انتهى الأمر . قاموا بواجبهم ! .. حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو ... وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير يا ولدي ! .. هل سنبقى اذا ، هنا يا أبي ... هل كنت تحلم في يقظتي يا أبي ؟ .. قم سنرجع يا ولدي ! " . ووجدتني اردد " حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو " ، " قم سنرجع يا ولدي " ، هذا ما قاله لي ابي يا شروق ، فلا نحن هزمنا ولا هم انتصروا ، وقال : لاشوا العلم يا بني ، فكانت النكبة ، بالعلم يعود التاريخ سيرته الأولى ، وتغدو النكبة ذكرى ، ودليلا على ضرورة التزام العلم ، وتحقيق السبق الحضاري على كل البشرية .. بالعلم نتفوق .. وبالعلم نعيد أرضنا ، وبالعلم نحرس أمننا ، فلا غير الأرض والعلم يا ولدي . وحنت شروق رأسها نحوي وهي تقول : وهذا الأب العقل الذي لم يجد ، في محيطه كله مدرسة ، ليتعلم القراءة والكتابة فيها .. أشاعوا الأمية ليسيطروا ، ويقال كانت خلافة عثمانية ويتبعونها ظلما للاسلام ، بكلمة اسلامية ، أليست ظروف ضياع أرضنا ، وذبحنا ، نتاج سياساتهم ، لو اهتموا بالعلم والعدل ، ما نزلت كل هذه الكوارث في أرضنا ، ولا جرؤ الغرباء على الاقتراب من برنا وبحرنا . وما كان مني ، الا أن أقررت لها ، بعمق صدقها ، بقولي لها : ايه يا شروق ، فلا أبلغ من صيحته ، " لماذا تركت الحصان وحيدا " ، واني أود أن أقول لك ، بأني لما كنت أطوف بغلياني ، بين همس المكان في وعيه، وصراخ الجراحات في وجدانه ، انما كنت اتحول بين قصيدة والتي تليها ، الى الحريق الذي يرى بعينيه من كانوا سببا في مأساته ، وأحسست بالفعل ، بأني استحيل الى المستحيل .. الى بركان ، وأنا أقرأ في قصيدته ، " أبد الصبار " : " يا بني تذكر ! هنا صلب الانجليز .. أباك على شوك صبارة ليلتين .. ولم يعترف أبدا ، سوف تكبر يا .. ابني ، وتروي لمن يرثون بنادقهم .. سيرة الدم الذي فوق الحديد .. " ، كانت تلك كلمات أبي لي ، فلقد أطبق الجنود الانجليز على أم الفحم ، وجمعوا رجالها عند مدخل القرية ، عند حي الكينا ، وكان أبي الوحيد الذي لم يعترف بوجود سلاح معه ، فانتزعوا ملابسه عنه ، أبقوه عاريا ، وراحوا يضربونه بأعقاب البنادق ، أمام الناس كلهم ، ولم يقر بوجود سلاحه ، وظل الضرب مستمرا حتى أغمي عليه ، ثم أمر القائد الانجليزي واسمه مورتون ( قائد منطقة جنين آنذاك ) ، بحمل أبي وهو عار ومغمى عليه ، والقائه في الصبار ، وبقي أبي يومين في داخل الصبار الذي كان كثيرا في ذلك المكان ، وقد شاع في القرية أن أبي مات ، وسارع الناس ، بعد مغادرة الانجليز الى انتشال ابي ، من بين أنياب الصبار ، وما من أحد ظن ، بأنه سوف يبقى حيا ، ويطول به العمر ، وتمر عشرات السنين ، وتأتي باحثة من بريطانيا ، تبحث في حقائق سيرة الانجليز في منطقة أم الفحم ، ويحدثها أبي تفصيلا بما جرى ، وما حل به من عصف ، ويريها ظهره ويديه ، فأشواك الصبار أبقت آثارها على جلده وفي لحمه ، وعادت الباحثة الى بلادها ، على وعد منها أن تعود ، وعادت بعد شهور ، وأسمعت أبي صوتا يذكر اسمه بالانجليزية ، وضحك ، قال انه هو ، قالت نعم ولم يزل يذكر اسمك . كانت شروق تنصت ، بتعاطف مذهل ، فكأنها هي التي حل بها ما حل بأبي ، وقالت : أنا استمعت الى ما قلته من الناس ، ولكني مصابة بالدهشة منك ، فكل ما له صلة بك ، فلا تذكره لي ، فأما ما يتصل بقضايا الوطن ، فلا يكف لسانك عن مراسلتي أو التحدث الي بها ، ألست أنت من الوطن ، ألست بذاتك ، بسيرتك بعض قصة هذا الوطن ، فلماذا لسانك لا يحدث بأفعالك وأقوالك ، تقول لي دوما ، بأنك بذلك تستوفي مطلوب الوطن ، لكني أفهم ولا أفهم ، فمن يكتب حكايتنا ؟ . وأخذت الكلام منها ، تركت لها الحاحها ، لتظل تدق به على بوابة عقلي ، وقلت لها تحضرني قصيدته " أرى شبحي قادما من بعيد " ، هل تذكرينها قالت : لا ، لست الحافظة لشعره ، وانما أنا حافظة ، وسوف يمضي وقت ، حتى أحوز على " أل التعريف " ، فماذا تذكر منها ، قلت : " تكفي .. يد امرأة في يدي .. كي أعانق حريتي .. وأن يبدأ المد والجزر في جسدي من جديد " ، فحدقت بي ثم انحسر بصرها ، ليتسمر على صورة لمحمود درويش ، وهو واقف بمحاذاة البحر ، وعلى وجه البحر كلماته " وأنت نشيد هذا البحر " ، وكانت جاءت بها شروق ، ومعها باقة من ورد مزنرة براية فلسطين ، ووضعتها على قبره ، وسارعت تقول لي : هذه الصورة لا تنزل من بين رموشي ، لا تفارقني ، فمثلها وغيرها خارطة فلسطين التاريخية ، ورسم لناجي العلي معنون بقوله : " أنا حنظلة من مخيم عين الحلوة ، أمي من فلسطين وأبي من فلسطين ، وعد شرف أن أظل مخلصا للقضية وفيا لها " ، وأنت من أهداني اياها ، هل نسيت ، فانها معلقات على جدران غرفتي ، فهي ترافقني حياتي ، وكذلك كتاباتك لي ، فهي معلقة على صدري ، ألا تراها ، انها باقية في محلها ، والى الأبد ، فضمني حياء ، ورفت نياط قلبي ، وأحنيت رأسي اكبارا لوفاء تكامل لها ، وأطلت من محياي ملامح ابتسامة ، وانسرح فكري ، فأخرجتني من انسراحي ، بقولها : ألا ترى بأن الابتسامة قرينة امتلاء ووفاء وأمل ، وهي لا مفر مشرقة ، في وجوه الأحرار ، رغما عن الأحزان وقسوتها . ثم أدارت رأسها نحو القبر وقالت : فارس الكلمة رحل وترك الحصان وحيدا ، جميل كان في المنفى ، جميل كان في الوطن ، وجميل يبدو من الجنة ، فارس سلاحه كان الكلمة الطيبة ، " كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء " . ثم وضعت رأسها بين راحتيها ، وقالت بصوت خفيض ، ألم أقل لك بأنه جاء الى حيفا ليقول وداعا ، لقد أحسست هذا ، كنت راغبة في أن أذهب لأراه وأسمعه ، لكنك وافقتني ، بأنه اللقاء مع القصيدة التي لا نريد لها أن تنتهي ، وبأن مشاهدة الاسطورة والاستماع اليها في آن واحد ، على شرفة من الكرمل قبالة البحر ، بذاته الأمنية التي في متناول الحضور ، اذ لا يمكن تحققها في حضرة الغياب ، الا بالاستعانة بالمخيلة ، فهو الخيال وحده الذي يمكنه أن يتيح لحضور في حضرة الحضور ، أن يتساوى بالصورة بالحضور ، في حضرة الغياب ، ولقد قلت بأن قدرك مع وقت اللقاء ، أن تذهب الى الخيال ، وأصررت أن اذهبي ، لا تفوتنك فرصتك ، وعدت تقول : بأن محمود أكبر من أن يغيب عنا ، أنكرت بذلك علي احساسي ، بأنه اللقاء الوداع ، لم أكن وحدي أحس ذلك ، وانما كان حسا جماعيا ، فكل من اقتربوا فهما من حالته الصحيه ، انتابهم هذا الحس الرهيب ، ومع ذلك فاني حاولت أن أراه ينشدنا شعره ، وجاءت فرصة أخرى ، أن أصل الى هنا ، فأراه في رام الله ، ولم تتيسر أموري .. وما كانت شروق لتصمت هنا ، لولا أن خاطرا ساح بها ، في شرود أتاح لي ، أن لا أبرر غيابا عن حضور، ما كان له أن يغيب ، وانما أن أقرر أمامها ، بأن تزامنا ضاق باختياراتي ، فكان علي أن أكون في أكثر من مكان في آن واحد ، فبين الضرورة والاحتمال ، لم أكن لأعرف أي امكان يكون ممكنا ، ولا أن أعرف لممكن في خلال صيرورته ، كيف يتكامل له امكانه فيكون ممكنا . لكن شروق عادت لتقول : انه درويش الحلم المستمر ، الحي الباقي ، الذي ربى الأمل ..مات درويش وولد فينا ، لنكون ما نريد ، وللحلم بقية . عاد الى حيفا بعد خمس وثلاثين عاما من الغربة ، لكي تمتلىء أنفاسه بهواء الكرمل وبكلمات البحر .. ماذا قال له البحر ؟ ..ماذا قالت له جبال الكرمل ؟ ، كيف التقى بقصائدة الأولى في " أوراق زيتون " و "عاشق من فلسطين" ، ماذا قال لها ، وماذا قالت له ، كان ملء المكان والزمان ، فكأن طلته دعوة للتاريخ أن يعيد سيرته الأولى ، اني أحسست ذلك ، وأنا أطل على المشهد ، الذي كان هو عنوانه ، عبر شاشة ، ولم أرى في المشهد سواه وما يمثله ، فكأني بذهني آنذاك ، أراد لي أن أرى الصورة بكل صفائها ، وحين بدأ يفوه بكلماته ، في تلك الأمسية التي أعدت بعناية ، قال " سألوني ألا تخشى على حياتك في الكرمل ؟ قلت لهم لا أتمنى نهاية أعلى وأجمل " . فكيف ترى اليه ، والموت يلاحقه حيث دبت قدماه ؟. قلت بعد وجوم بدت ملامحه في وجهي : الموت في ذاكرة الحياة يتمايز بينه وبينه ، فهو ليس هو في كل الحالات ، فثمة أعلى وأدنى وبينهما ، فالموت موت ، لكن الموت ليس هو الموت ذاته ، عند كل النهايات ، فأسبابه تعددت ، ومنها ما اذا اجتمعت ، أنشأت بنيوية حياتية ، تبقى حياة في الحياة ، ولها وجه القداسة والخلود ، فلا أعلى ولا أجمل من موت يكون ولا يكون ، فهو الذي في حضرة الغياب حاضر ، وحي كفاعلية تتدفق حيوية في الأحياء ، فهو فوزه الذي يخشاه الأعداء ، ذلك أنه الحياة الوثابة في حياة فاعلة في الحياة ، وتظل تطاردهم مدى الحياة . فقالت : لكنه على تكامل بسالته له طار من بين رموشنا ، وحط هنا ، فاذا كنا في حضرته ، نكون في حضرة القدس ، وحضرة حافة اليابسة .. البحر ، فنفهم ماذا يقول لنا ، ونلتزم ماذا أبقى لنا ، ونعود واياه يوما الى " البروة" ، مع عودة اللاجئين ، فليس مصادفة أن حط الحمام هنا ، فقصائدة متجذرة في الكل ، وبالكل تحركت قصائده ، فنومه لم يخرجه من الحياة ، لقد عرف يوم موته ، وكتب ذلك في قصيدته " اجازة قصيرة " في ديوانه أثر الفراشة " صدقت أني مت يوم السبت ..." ، وهو من كان قال في قصيدته " ولاء .. أوراق زيتون " ، " فان سقطت وكفي رافع علمي .. سيكتب الناس فوق القبر : لم يمت " . ولم اتمالك نفسي وقلت : أنت تزيدين لوعتي حريقا ، واني أحيانا أحس بأني مصاب بالحزن القاتل لكي اظل مشتعلا . .وسلبت دموعي مني صوتي ، وراح صوتها هو الذي يعلو ، وأحسست بأن قلبي يكاد ينفطر ، وبأن حزني الذي انفجر في داخلي ، كأنما يشقني نصفين ، وأرحت يدي على قبره ، وبكيت بكاء مريرا ، لكن شروق وصوتها يختنق بدمعتها ، راحت تقول لي : أنظر الى القدس ، أو مد البصيرة الى البحر ، فلا زالت المهمة شاقة أمامك ، أصخ الى همس المكان الذي أنت فيه ، استمع اليه ومد البصر والبصيرة ، وأردفت قولها : هذه قصيدته " عن انسان " في " أوراق زيتون " ، يقول لك فيها : " ... يا دامي العينيين والكفين ! .. ان الليل زائل .. لا غرفة التوقيف باقية .. ولا زرد السلاسل! .. نيرون مات ، ولم تمت روما ... بعينيها تقاتل ! .. وحبوب سنبلة تموت .. ستملأ الوادي سنابل ..! " . وما هي الا دقائق معدودات حتى اقتعدت الأرض قبالته ، وشروق تناولني منديلا من ورق تلو منديل ، حتى اذا تماسكت ، قلت لها ، أنت تلومينني ، ولا تسألين عن ملامة نفسي لنفسي ، أو لست مثلك يأخذني الندم ، فلا أدري ماذا أنا فاعل بنفسي ، حتى سألت نفسي مرة ، أو كلما مررنا بالماضي ، ولا نملك استعادة دورته ، لنعيد صياغتها كما نريد ، يتوجب علينا أن نحترق حزنا على موقف كان ، أو ليس الأجدر أن نلتفت الى ما يمكنا فعله في المستقبل ، فقصائده بعمر الأرض والزمان ، فلا نهاية لما لا نهاية له ، اللانهائي لا يكون نهائيا ، فهو الحاضر دوما فينا كما تقولين ، فلماذا عتاب يأكل من النفس مقدرتها على التفكير .. أخطأت يا سيدتي ، القيود التي لا تنفك تقيدني ، قد قيدتني ، قولي ما شئت ، فحتى ذكرى الأربعين لم اشارك فيها ، وذهبت أنت الى هناك وشاركت ، ولم تخبريني ، فلقد خشيت على رغبتك من رأي لي لم تعرفيه ، ولم تسأليني ما هو ، فانك كنت هناك ، فهات ، قولي لي ، فماذا كان حالك والأسى ساعتها ، وكيف كان حال من كانوا هناك ، فتلك ساعة العهد الجماعي على الوفاء ، الذي يطل من تحت زخات الأسى ، وفي ظل الكلام . وتكاتفت ذراعاها على صدرها ، ورفعت رأسها ، ونظرت الي ، وبها ما يوحي بتردد ، ودهشة ، وقالت : وأنت الآن تريد مني أن أقوم بتوصيف ما كان ..على أية حال ، ومع أنك يمكنك أن تشاهد ذلك تفصيلا على شاشة ، الا أني أقول لك : (مساء الاربعاء17/9/2008 كانت الذكرى الأربعين لمحمود درويش ، الا أنا كنا على موعد مع روحه ومع ظل كلماته هذه المرة ، في موت محمود درويش حياة أخرى ، ولادة ، فتركت عملي وجميع أموري هنا وذهبت الى الناصره بدأ الثلاثي جبران بالعزف على العود ، وللحظة انتظرت وصدقت صعود درويش الى المسرح ، حيث انتظرته أنا واخوته وعائلته وكل من أحبوه ، الا أنه لم يأت ، سمعنا صوته فقط ، كان يخاطبنا من السماء ، من الجنة حيث الأنبياء ، والشهداء ، والشعراء ، كانت روحه معنا ، وكان سعيدا لابداع الاخوة جبران ..سمير وسا م وعدنان ، الذين رافقوه أينما ذهب ، وفي نهاية الأمسية ، كل الناس ذهبوا ليعزو عائلة درويش ، أما أنا فدخلت الى الغرفة التي تواجد فيها الاخوه جبران ، فوجدت سمير الأخ الأكبر يبكي ، عزيتهم وعزيت نفسي ، وعزينا التراب ، والهواء ، والعود ، والقلم ، كانت أمسية غريبة ، بثتها قناة الجزيره ، وكان الحضور مشرفا . وقلت : تعالي نقرأ معا قصيدة تختارينها ، فقالت اختر أنت ، قلت : بل أنت ، قالت : يطير الحمام يحط الحمام ، فهي التي قرأها مارسيل فوق رأس درويش حين وداعه له ، فماذا قولك ، فوقفنا وقرأناها معا دونما توقف ، ثم قالت : ماذا عن ديوان محمود الجديد ؟! ، فقلت : عندما تغيب الشمس ، فلن يكون نهار من دون شروق الشمس ، وأخرجت ورقة وقلما من حقيبتي ، وكتبت عليها : "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي " ، ووضعت الورقة والقلم من فوقها على قبره ، وقرأنا الفاتحة . وما كنا وحدنا ، وانما في كل الأوقات ، كان الناس يتوافدون ، ومن كافة الأعمار ، يأتون وبيدهم الورود يضعونها على قبره ويدمعون ويذهبون ، ومنهم من يضع قصيدة أو رسالة ، ويكتب عليها " اقرأ " ، ومنهم من يضع مالا ، في مظروف ويكتب عليه ، " لمن به حاجة " ، ويمضي ، وأكثر ما شد انتباهي ، عريس وعروس جاءا يضعان باقة ورد على قبره في يوم زفافهما ، وقد قمت وشروق اليهما ، وباركنا لهما ، وسألتهما شروق ، ماذا يكون اسم المولود ، فقالت العروس ، ان كان ذكرا فمحمود ، وان انثى فحرية ، واستطيبت استدراجهما ، وقلت ، وما اسم الذي يليهما ، فقال العريس : درويش ، ثائر ، أو ثورية ، فلسطينية ، أو ما شابه ذلك ، وأردف قائلا : الثورة تحفظ أسماءها . وعندها تناولت شروق حطة فلسطينية ، من على كتفيها ، وحوطت رقبة العروس بها ، واستسمحتها بأن ترتضيها ، كهدية لها من قصيدته ، ولم يكن مني الا أن أخرجت ، من جيب في قميصي ، صورة لمحمود وسط النار في بيروت ، وقلت للعريس : قل لأبنائك ، بأن قصيدته ، انما جاءت من جوف النيران ، من قلب اصرارنا على البقاء أحرارا . وانا لكذلك ، نوشك أن نغادر ، تناولت شروق الكاميرا ، وطلبت مني أن أصورها في مكانها ، فمرة وهي مكبة على قبر ه ، وأخرى وهي منتصبة القامة ، تستقبل قبره ومشارف القدس . واذ ذاك ، لاحظنا قدوم أعداد كبيرة ، من الفتيان والفتيات ، وكلهم يتوشحون بالراية ، وأصواتهم تعلو فكأنها صوت واحد وهم ينشدون قصيدة لمحمود درويش ، عنوانها ( سقوط القمر ) ، وكان أنشدها مارسيل خليفة : " في البال أغنية يا أخت ، عن بلدي ، نامي لأكتبها .. رأيت جسمك محمولا على الزرد ، وكان يرشح ألوانا ، فقلت لهم : جسمي هناك ، فسدوا ساحة البلد . كنا صغيرين ، والأشجار عالية ، وكنت أجمل من أمي ومن بلدي .. من أين جاؤوا ؟ وكرم اللوز سيجه أهلي وأهلك ، بالأشواك والكبد ..! . انا نفكر بالدنيا ، على عجل ، فلا نرى أحدا ، يبكي على أحد ، وكان جسمك مسبيا ، وكان فمي ، يلهو بقطرة شهد ، فوق وحل يدي ..! في البال أغنية ، يا أخت عن بلدي ، نامي .. لأحفرها وشما على جسدي .. " . كان المشهد ألحان وفاء ، بشائر فجر اللانهاية ، كان اسمها فلسطين ، واسمها الآن فلسطين ، واسمها بعد الآن فلسطين ، قالتها شروق ، بينا مشاعرها تعبر جسر الأسى ، لتحط بها في استنفار يتواثب ، وسط هذه العزيمة وهذا الاصرار ، وهذه الكلمات التي تتخرج منها مواكب العزيمة ، وما أن تحلقت جموع الأمل حولنا ، حتى صعدت شروق على كرسي ، كان في المكان ، وبدأت تهتف بقصيدة لمحمود درويش ( عابرون في كلام عابر ) : " أيها المارون بين الكلمات العابرة ، احملوا أسماءكم وانصرفوا ، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا ، وانصرفوا ... " . وما فرغت من قراءة القصيدة ، حتى ضج الفضاء ، بصوت نبات الثورة ، في الجموع العاشقة لمحمود ، الوطن ، القصيدة : " على القدس رايحين شهداء بالملايين " . لقد أحالت القصيدة البكاء ، الى هدير بحر نشيدة ثورة شعب ، حملتها كلماته الى العقول والقلوب ، واتجهت بها صوب غاياتها في الحرية ، وما أمكنه الوطن ، في داخلي الا أن يكونني مجسدا ، في سير حثيث الى غاياته ، حتى في اشهار الارادة عن نيتها ، في هذا الهتاف البديع . كنت كما شروق أحوج ما أكون الى التنفس ، أن أترك وطني يحدث وطني بحبي لوطني ، وكانت شروق تحمل الراية ، وتقول : يا أحبة محمود ، من يحفظ قصيدة له ، فليسمعناها ، قد حفظ لكم الوطن في القصيدة ، فاحفظوها للوطن ولأنفسكم ، فأنتم بها للوطن ، والوطن بها لكم ، فأن نحفظ قصائده ، يعني أن يكون فينا ، وأضافت قولها : هناك في الصين ، شاعرها الكبير " بي داو " ، الذي التقى محمود درويش أكثر من مرة ، وكانت آخرها في برلين ، بادر الى تنظيم ندوة شعرية تستذكر محمود درويش وأعماله ، وكان حضرها أدباء صينيون مهتمون بأدب محمود ، وصينيون آخرون ، وكان بين الحضور شاعر مصري ، ساهم في تنظيم الندوة ، واسمه سيد جودة ، صاحب موقع " الندوة العربية " ، وألقى سيد جودة قصيدتين لمحمود هي " لاعب النرد " ، و " أنا من هناك "، وفي نهاية الندوة ، أبدى الحاضرون دهشتهم ، فكيف أنه ألقاهما عن ظهر قلب ، ولم يقرأهما من نص لهما في أوراق بين يديه ، فأجاب سيد جودة : لقد فعلت ذلك لكي أبرهن لكم ، بأن محمود درويش ، لم يزل موجودا فينا . فهكذا العربي يحمل القضية ، على أكف قصيدة الى بقاع العالم ، الى حيث جماهير صينية ، لم يخطر على بال محمود ، بأنها سوف تكون متلهفة على أدبه ، عاشقة لشعره ، ومتبينة منه وجه القضية . فليكن هذا لكم الدرب ، الى جعل القصيدة ، رسالة ثورة ، وباقة ورد ، تحملونها من هنا الى مشارق الأرض ومغاربها . وعندها تقدمت فتاة تلبس زيا شعبيا فلسطينيا ، وعلى صدرها تتوهج صورة محمود ، وقالت : أتيت من بيتي تبللني الدموع ، أغني " أحن الى خبز أمي وقهوة أمي ، وتكبر في الطفولة ... " ، وهنا في هذا المكان ، بلغت بي الدموع سخونتها ، وسرعان ما أحسست ، بأن حرارة الدموع ، تشتعل بي ثورة ، فالعهد يا محمود ، هو العهد ، والقسم يا شاعرنا ، هو القسم . وما لبتث هنيهة حتى احتضنتها شروق بين ذراعيها ، ثم أبقت على ذراعها الأيسر يضم الفتاة ، بينا هي بأنامل يدها اليمنى تتساءل وبلسانها تسائلها ، وهي حانية رأسها وتنظر بدفء عيونها في وجه الفتاة : كم قصيدة تحفظين لمحمود درويش ، قالت : اني أحفظ الكثير منها ، فسألتها : فما اسمك ؟ قالت : اسمي حورية ، انه اسم أم محمود يرحمهما الله ، رأيتها ، يوم جاءت الى هنا تودعه ، لقد أسماني أبي بهذا الاسم ، أملا بأن أكون أم محمود ، هكذا قال لي أبي ، كان يحب شعر محمود كثيرا ، ويشجعني على حفظه، وهنا خرجت شروق من صمتها ، وسألتها بلهفة حانية يتدلى منها الأسى : وهل تحدثت حورية الى حورية ، فقالت حورية : لم أقوى على مصابرة نفسي ، تذكرت عندها أبي وحبه لمحمود وبكيت ، فقالت شروق متسائلة : وهل تذكرين زجلا للست حورية ، قالته في موت حبيبها محمود : فقالت الفتاة ، بلى ، واني أستطيع أن أقرأه لك من صفحة في جريدة ، احتفظت بها ، ثم راحت براحة يدها اليمنى ، تتناول من حقيبة معلقة على كتفها ، ديوان شعر لمحمود ، وبأطراف أناملها ، أمسكت بصفحة الجريدة ، ووضعتها على الديوان ، و بينا كل زملائها ، يتحلقون حول قبر محمود ، راحت تقول : ما بين يدي ، مقابلة أجرتها " صابرين دياب " ، مع الست حورية ، ومن غرفة محمود درويش كتبت تقول ، بأن الست حورية قالت ، بأنها كانت تلح على ابنها محمود ، وتقول له " منيتي أشوف أولادك " ولكنه كان يرد " قصائدي يا يما أولادي ، احفظيها وشوفيهم فيها " ، وتضيف كاتبة المقال " صابرين " ، بأن الست حورية قالت : " لو علمت أن الغالي ، لن يعود ، ما تركته يذهب " ، ثم انفجرت بالبكاء وهي ترثيه بقولها : " مين صبرك يا يما ، ومين سقاك الصبر .. مين صبرك يا يما ، تنزلوني القبر .. وقولوا لأمي الله يصبرها ، وعلى فرقتي ما أقوى جبايرها .. قولوا لأمي ما تقولوا لغيرها ، بالفلفل المطحون تكحل عيونها .. " ، وتنشد الست حورية في وداعه : " نزل دمعي على خدي وحرقني .. مثل الزيت على النار حرقني .. أنا أبكي على ابني الي فارقني ..فارقني بليل ما ودع حدا " . وما كادت الفتاة ترفع عينيها ، وقد ترقرق الدمع فيها ، لترى شروق تغالب دمعتها ، وهي تمد يدها لتربت على كتفها ، بينا عيناها أخذت تطوف ، في الوجوه الساهمة . وانها لكذلك ، تقدم فتى ، وقال ، بأن أسمه محمود وطلب أن ينشد بصوته كلمات السيدة حورية ، فأومأت شروق له برأسها بنعم ، وناولته الفتاة الورقة التي بين يديها ، وما هي الا لحظات ، حتى ارتفع في أجواء القبر ، صوت حزين تنفطر له القلوب ، يلازم الصوت أنين ناي ، بين أنامل وفم فتاة ، سارعت الى مرافقة الفتى في شدوه ، فما أتما شدوهما ، حتى كان اللحن الحزين ، قد أتم دوره ، في يقظة الدموع ، في عيون كل أذن قر فيها ، فبدا المشهد ، وكأنما الهوية الفلسطينية ، تتندى دمعا على محمود درويش . وكانت الفتاة حورية ، لم تزل واقفة ، بجانب شروق التي عادت اليها ، تسألها عن أسرتها ، فتألقت عيناها وتسمرت في القبر ، ثم رفعت رأسها الى السماء ، فسبقتها نفسها ، الى حسرة ، أفصحت بها عن ذاتها ، ودمعة سالت على خدها ، وقالت ، بينا هي بأطراف أنامل يدها تمسح دمعتها : : ابي شهيد ، وأختي شهيدة ، ولي أخ شهيد ، وأخ في السجن ، وأخت أصغر مني في السجن ، وبيتنا قد هدموه ، أكثر من مرة .. قصفتة طائرة ، ولم نكن في البيت ساعتها، ومرة أخرى بالجرافات ، ولست وحدي بهذا الحال ، فكل الذي ترينهم يتحلقون هنا ، حول قبر محمود ، أبناء شهداء ، ونحن نأتي الى هنا ، معا ، نرتب مجيئنا ، ونذهب أيضا الى قبر ياسر عرفات . ولم تتمالك شروق نفسها ، فأقبلت على حوربة واحتضنتها، فكأنها تريد أن تسورها بقلبها ، ثم أرخت لها ، وخطت واياها ناحية فتيان ثلاثة ، يحمل كل منهما آلة موسيقية ( العود ) ، وسألتهم : ماذا أنتم فاعلون بهذه الآلة الموسيقية هنا ، فقالوا : نفعل ما أحبه محمود ، في ظله ننشد كلامه على ألحان العود ، كما فعل هو والثلاثي جبران . وانسرح فكر شروق ، مر في خاطرها ، ذلك الأب الذي كان يذهب ومعه الناي الى قبر أبنه ، ويبكي هو والناي على قبره ، وحين سألته مرة عن سر قيامه بذلك ، قال : كان ابني يحب الناي ، ولما أجازت لنفسها ، فأذكرته بأنه يفعل ذلك في المقبرة ، فأجابها ، أليست الثورة قد جاءت من هنا ؟! ، فما كان منها ، الا أن سارعت الى سيارة ، كانت جاءت بها ، وأخرجت منها ، علم فلسطين ، وعادت وزرعته ، فوق القبر ، ولسانها يقول : أولئك سطور ثورتنا ، فراية فلسطين ، يجب أن ترفرف ، لتقول هنا علم من أعلامها . ولما آبت من انسراحها ، وجدت روحية ومحمود ودرويش ، ما زالا ، بجانبها ، فهاجت بها الأسماء ، وأفضت الى تساؤلها ، بصوت مليء بحنو منساق بحدس ، ما خاب مرة في حياتها ، وسألت وعيناها تطوف في ملامح مستقبل يتشكل أمامها : فهل هنا بيننا لسان العرب ، فاذا بصوت يجيب : أنا ، وأشارت اليه أن تعالى ، فداناها ، وراح يدلل على فخره باسمه بقوله ، بأن أباه كان يعرف محمود درويش ، وكانت بينهما رابطة لغة عربية ، وكان منبهرا ، بمدى التصاق محمود بالكلمة ومعناها ، وبعودته الدائمة الى لسان العرب ، وقد أسماني بهذا الاسم لأبقى دوما قريبا من محمود درويش ، لا أفارق قصائده ، فلعلي بما أوتيت من موهبة شعرية ، أن أطرق طريقه . وعندها تناولت الكلام وقلت : حقا اننا الشعب الأسطورة التي ليس منها جملة واحدة من خيال . ولم تتركني شروق أكمل كلامي ، سارعت الى أخذ رأي لسان العرب فيما قلته ، فقال : اننا مادة قصائدة ، فهو هويتنا ، وهي هو ، تجسدت فيه ، فهو وهي كلاهما بنفس المعنى ، وقصائدة لغة هويتنا التي عبر بها كل اللغات وكل القوميات والأمم ، فنحن بقصائدة ، بقضيتنا ، وصلنا ، وحيث لم نصل سوف نصل ، بقدرته الأدبية ، ونخاطب الانسانية في جوهرها ، ونحكي لها حكايتنا ، وبذلك اللغة العربية ، على أكف قصائدة تصل كل مكان ، وما هو الا نموذج لأدب عربي ، سوف يفتح بقصائدة اطلالة عليه ، من جانب كل من تبلغه قصائده في هذا العالم . وانه لكذلك لسان العرب يفيض لسانه ، بكلام على الشاعر والشعر ورسالته ، واللغة والهوية ، بدت من شروق نظرات متتابعة في ساعة في معصمها الأيسر ، واذا بها تملأ صدرها من الهواء ، وهي ترفع يديها ، وتبش في من أمامها ، وتقطع كلاما يقر في أذنها ، ويغنيها ، وتقول : قد أزفت ساعة ذهابي ، فدعوني أسأل : فما الاسم الذي أكرمتم فرقتكم به ، فاذا هم صوت واحد يعلو ، في فضاء المكان ، انها فرقة فارس عودة لأدب الحرية ، وسراعا خف الى شروق فتى أسمر ، غض الايهاب ، وقال : أنا فجر الحرية ، فباشرته شروق متسائلة ، وهل هذا هو الاسم الحركي ، أم هو اسمك الحقيقي ، فأجاب ، فليس بغير أفعاله وأقواله يعرف الانسان ، انما أنا فجر يبدد بنوره ظلماء ، ويذكر بتباشير شروق للشمس وطلعة النهار ، وأردف ، لقد أحببناك ، فهلا عرفناك أكثر فأكثر . وما أدري كيف لم أنتظر شروق لتجيب عن نفسها ، فلقد هاجت مشاعري ، ولهج لساني ، بقولي : يسألني الفجر عن بهاء طلعته وما به من سناء .. قلت يا فجر هذه شروق خلعت عليك رداء .. من عيونها أسقتك حلاوة ومن رموشها بهاء .. ومن لحاظها شربت سناء وكان بك ضياء .. فهذه أهدابها بها زهو يسكب في عينيك غناء .. ويا لرقة مبسمها وما نثرته فيك من رجاء .. وفكرتها ما أبدعها أغنتك بها على استحياء .. رائعة هذه الفتاة .. فمن جبينها شربت اباء .. وشعرها كيف علمك السباحة في الفضاء .. استعار الذهب منه لونه واليك أهدى صفاء .. كرامة شروق وعزة نفسها وما بها من كبرياء .. وما بها من شوق الى نهار يكنس الغرباء .. وما أنار درب حياتها بكل عزم وعزة واباء .. صفت نفسها لوعي تقيل به كل عنت وعناء .. وأقبلت وطنية أبية تزرع فيك عبقرية الأداء . وهاجت الألفاظ بلسان العرب ، فنبست شفتاه ، شروق القصيدة على الوعي ، يعني أن الوعي في ركاب الحرية ، واعراب كلمة شروق ؛ شمس رائقة في وطني قائمة ، فتحقق هذا المعنى ، يعني أن حرية أوقدتها قصيدته ، تكون استوت على غايتها ، فقصيدته مجرى فكر ، يستنهض ارادة حرية ، تجري بالتاريخ كما النهر ، لتصب في وطن الشمس الذي لا تغزوه الظلمات ، من جهة بتة . وارتفع صوت فجر الحرية بالقول : أجمل حلم يراود الروابي والبطاح والنفوس في بلادي ، هو شروق شمس الحرية . كل نسائم البر والبحر ، اذا هبت أروت النفس الحاحا وشوقا الى شروق ، هي كلمة في فم الأشجار والسهول والجبال والأطيار ، فلا أحلى من شروق . هي شوق الحياة ، في نسائم الفجر ، في سير الحياة ، في الأرض ، فنبض الشوق شروق ، وقد تعلق خلاص الانسان من الظلماء بكلمة هي شروق ، فكل حركة الحياة تحت سحب الظلام ثقيلة ، وبها تيه وضياع وكبوات تتلاشى مع اطلالة شروق .. هذا الاسم شروق يبهرني ، انه خلاصة الأحلام والآمال ، فبين فجر ونهار ، شروق شمس النهار . وبدت حورية مزهوة بقولها : حين أنا أنطق اسمي أو يناديني أحد به ، أسمع دوما كلمة حرية ، لا حورية ، فحورية تذكرني بالجنة ، وشتان ، فحياتنا تعصف بها الظلمات ، وحين أقرأ قصائدة أحس شروق الحرية في داخلي ، فلا غيرها ، واني أفهم بأن حرية وشروق قد تلازمتا ، فهما المبتدأ والمنتهى ، فشروق الحرية ضرورة ديمومية حياة مشرقة دوما بالحرية .. بلا شمس النهار ، لا نعرف مواطىء أقدامنا ، فكذلك الحرية فان شروقها الدائم ، انما هو فعل تحقيق الذات والسعادة في الحياة ، وهذه الغاية الانسانية ، من دعوة الحرية في قصائدة ، وهبت شروق من توقدها ، بما يلقى على آذانها ، وقد توردت بقصائده ، وأطلت من نافذة القصيد ، وهاجت بكل طيب ، ارفعوا الرايات ، واشرقوا بقصائده ،على شروق اراداتكم ،على استولاد شروق العطر الفواح ، في أنفاس الورود العائدة بالقصيد .. الحرية الى حياة الحرية ، فأنفاس الوطن تاقت الى العطر ، في شرفات تتنفس نسائم البحر ، وانها أنفاس الحرية في كلماته ، هي التي تقول : " انا نحب الورد ، لكنا نحب القمح أكثر .. ونحب عطر الورد ، لكن السنابل منه أطهر .. فاحموا سنابلكم من الاعصار ، بالصدر المسمر .. هاتوا السياج من الصدور ... من الصدور ؛ فكيف يكسر ؟؟ .. اقبض على عنق السنابل ، مثلما عانقت خنجر ! .. الأرض ، والفلاح ، والاصرار ، قل لي كيف تقهر ... هذي الأقانيم الثلاثة ، كيف تقهر ؟ " . كان مشهد شروق ، وقصيدته ، واطلالتها ، واطلالة المستقبل ، من نافذة معناها ، يوقد بي شعلة الحرية ، بينا كلماته تحدث نفسي قائلة : " تكلم عن الأمس ، يا صاحبي ، كي أرى صورتي في الهديل .. وأمسك طوق اليمامة ، أو أجد الناي في تينة مهملة .. حنيني يئن الى أي شيء ، حنيني يصوبني قاتلا أو قتيل .. وما زال في الدرب درب لنمشي ونمشي . الى أين تأخذني الأسئلة ؟ .. سأرمي كثيرا من الورد قبل الوصول الى وردة في الجليل " . واذ ذاك أشرعت ذراعاي ، فكأني أحتضن كل من كانوا هناك ، وأومأت برأسي ، أن هيا ، وفهمت شروق قصدي ، واستعطفت الجميع أن يرخوا لنا ، وتحلقنا جميعا حول قبره ، وقرأنا عهدنا ، وتعاهدنا على لقاء ، وعندها ، بسطت شروق ذراعها الأيمن ، واتجهت بسبابتها صوب القدس ، صوب البحر ، وهي تصدح ، من هنا الى هنا ، ليس لكم غير هنا ، فمن هنا الى هناك ، فهناك هنا ، وليس سواكم ، أنتم نشيد بحركم ، والبحر بانتظار نشيدكم هنا . فكأني أسمع نداء تراب بلادي يطل علي من أعماقي ، ويسألني ، فماذا أنت فاعل ، فأخذت بيد شروق ، وقد امتلأت عيناها بالدموع ، وقالت : ما أجمل ، أن تحس معنى قصيدته ، متجسدا في الأقوال والأفعال .. في الحياة ، فأن تكون المعنى ، بلا سيرورة ، وصيرورة في الحياة ، يعنى أن تظل ضمن كينونة حبرية ، بمعنى يتلهف على كينونة له في الحياة .. انه الانسان الذي بلاه لا يمكن ، أن تعبر الجسر بين هذه الكينونة وتلك ، انه الفعل والحياة ، بلاه العدم ، كيف يمكنه المعنى ، أن يكون في الحياة ، بلا الانسان ، هل يمكن هذا ؟ . الوطن انسان ، فاذا ثمة انسان ، فان للمعنى وطن ، واذا ثمة وطن في الانسان ، فالانسان له وطن ، ويصبح الانسان في الوطن ، هو نتاج الجدل بينه وبين المعنى ، فأن يكون لك معنى ، يعني أن يكون لك وطن ، وحرية المعنى في تشكلة ونموه وتطوره ، يقتضى أن تكون حرا في الوطن ، ولك حرية ارادتك ، فأنت حر في فعل ، صيرورته ضرورة معنى ، يريد أن يصير الى ما يريد ، فعبور الجسر اقتضاء معنى القصيدة ، بأن يكون ذاته في الحياة ، فلا يظل بكينونة حبرية ، في نص على الضفة الأخرى للجسر ، فأو لا تنتهي القصيدة أو تنتهي ، الجسر هو الفارق ، فاذا المعنى ليس معلقا على الجسر ، ولا هو في الجانب الآخر منه ، فالمعنى في الحياة فاعل في تشكيلها ، فمعناها من معناه ، فعندها لا تنتهي القصيدة ، تبقى وجودا تنهل منه الحياة مبانيها ومعانيها ، وغير ذلك المعنى طي تشكيلة حبرية ، منفصل عن الحياة ، فاذا أنا المعنى الذي جاء من القصيد ، فأن أكون في الحياة فاعلة ، يعني أن القصيدة لا تنتهي ، وأظنك لا تريدها أن تنتهي ، وحالك من حالي ، فكلانا جاء الى النص ، من نافذة قصيده ، فماذا أنت فاعل ، قلت : أنا المعنى الذي ما كان ليكون مستكفيا بذاته ، بكينونة حبرية ، وانما كذلك كنت ، وعبرت الجسر ، لأكون الحياة في وطني ، فأنا لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي ، قالت : اذن أنا وأنت الحياة ، فهيا بنا ، نعيد بقصيدته بناء الحياة ، ومشينا على شارع من شوارع الحياة ، وكان ذلك شارع الحرية ، وما أبعدنا أمتارا ، عن ملامح الفجر المحيطة بالقبر ، حتى ضج فضاء القبر ، بالغناء ، " حاصر حصارك ... لا مفر ، سقطت ذراعك فالتقطها ، واضرب عدوك ..لا مفر ، وسقطت قربك فالتقطني ، واضرب عدوك بي .. فأنت الآن حر ، حر ، وحر . قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة ، فاضرب بها ، اضرب عدوك .. لا مفر . أشلاؤنا أسماؤنا ، حاصر حصارك بالجنون ، وبالجنون ، وبالجنون . ذهب الذين تحبهم ذهبوا ، فأما أن تكون أو لا تكون ".
|