 الشاعر الكبير.. والشاعر الحقيقي أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر كنت أفضل أن أنتظر بعض الوقت لأكتب عن محمود درويش بعد أن تكون صدمة الرحيل المفاجئ قد خفت والشعور الثقيل بالفقد قد انقشع قليلا, ليفتح المجال أمامنا للحديث عن الشعر الذي لابد أن يبقي بعد رحيل الشاعر, لكني لم أجد الانتظار لائقا, فمحمود درويش لم يكن مجرد شاعر أقرأه في دواوينه, وإنما كان أيضا صديقا عزيزا ربطتني به حياة عريضة عشناها بأحداثها الكبري وتفاصيلها الصغيرة بين القاهرة, وبيروت, وباريس التي طالت إقامتنا فيها. واذا كنت قد عرفت محمود درويش كإنسان عن قرب فقد عرفته أيضا عن قرب كشاعر, لقد ظهرت في الخمسينيات, كما يعرف الجميع, من القرن الماضي قبل أن يظهر هو ببضع سنوات فمن الطبيعي أن يصل اليه شعري قبل أن يصل الي شعره, خاصة وأنا أنتمي لجيل متمرد خرج في مصر والعراق ولبنان علي تقاليد الشعر الموروثة, وأنشأ في الشعر العربي حركة جديدة تبنتها الأجيال التالية واعتنقت مبادئها وتابعت روادها. حتي اذا ظهر هو في الستينيات مع غيره من أبناء جيله في مختلف الأقطار العربية ومع الشعراء الفلسطينيين الذين قدمهم لنا الشاعر يوسف الخطيب في مختاراته شعراء الأرض المحتلة قرأناه كما قرأنا سميح القاسم, وتوفيق زياد, وسالم جبران. وكما قرأنا أمل دنقل, وممدوح عدوان, ومحمد علي شمس الدين, وعبدالعزيز المقالح, وسواهم. كان ظهور هؤلاء الشعراء تصديقا لرهاناتنا الفنية من جانب, فحركة التجديد التي شن عليها الشعراء والنقاد المحافظون حربا متصلة أصبحت هي مستقبل الشعر ولم تعد محصورة في روادها وإنما تجاوزتهم لتتحقق في الأجيال التالية التي انضمت لها وأضافت اليها. وكان ظهور الفلسطينيين بالذات من جانب آخر تحقيقا لأملنا في أن يبقي في فلسطين المحتلة ما يذكر العالم بعروبتها, ويشهد بحق الفلسطينيين في استرداد ما فقدوه, الشعر هنا لم يكن مجرد جمال فني أو كمال روحي, وإنما كان شهادة للتاريخ, وبرهانا ساطعا علي وجود لا يموت ولايزول, وعندما ظهرت قصيدة محمود درويش الشهيرة سجل أنا عربي هلل لها الناس واحتفوا بها, رغم لغتها البسيطة ولهجتها المباشرة لأنها قالت في الوقت الذي ظهرت فيه ما كنا في حاجة لأن نقوله. هذه الوظيفة الحيوية للشعر تمثلها محمود درويش كما تمثلناها. وكانت واضحة له كما كانت واضحة لنا, فعندما قرر أن يرحل عن الأرض المحتلة ويقيم في الخارج اختار القاهرة, لأنها كانت في ذلك الوقت ـ أوائل سبعينيات القرن الماضي ـ هي المكان الذي يستطيع فيه الحالمون بالثورة أن يجدوا أنفسهم وأن يجدوا من يحتضنونهم. بعد ذلك بسنوات قليلة قررت أن أترك القاهرة لأقيم في باريس, وقرر محمود درويش أن يترك تونس بعد أن ترك القاهرة وبيروت ليقيم في باريس التي استضافتنا معا بضع سنوات. ثم كان لقاؤنا الأخير في الملتقي الأول للشعر العربي الذي عقده المجلس الأعلي للثقافة في العام الماضي, وبين الستينيات الأولي التي ظهر فيها محمود درويش والسنوات الأخيرة التي سبقت رحيله أصبح محمود درويش ملء السمع والبصر, لقد أخلص للشعر أكثر مما أخلص لحياته ذاتها, ودخل فيه أطوارا عدة أوصلته في هذا الفن لاكتشافات لم يوفق لها إلا القليلون. *** نستطيع إذن أن نقول مع القائلين إن محمود درويش شاعر كبير لكني أفضل أن أقول عنه وعن أي شاعر مثله إنه شاعر حقيقي. أولا لأن الصفة الأولي ابتذلت جدا وأصبحت تطلق علي واحد يستحق ومائة لا يستحقون, ثم لأن الاستعمال المجاني لهذه الصفة جعل المقصود بها غائما غير واضح, فهي مجاملة أكثر منها إقرارا بحق. وربما اختلطت فيها الاعتبارات الفنية باعتبارات أخري سياسة أو اجتماعية, علي حين ينصرف الكلام عن الشاعر الحقيقي للشعر وحده, وحين ينصرف الكلام للشعر نبحث عن وجه الحق فيه بصرف النظر عن شهرة صاحبه أو عدم شهرته, عن مواقفه السياسية التي نتفق معها أو نختلف, وعن المكان الذي يحتله الشاعر في المجتمع, والعمل الذي يمارسه في الحياة, والعلاقة التي تربطه بنا. هكذا يكون البحث عن الشعر الحقيقي طريقا الي النقد الحقيقي الذي ينقلنا من الاستجابات العاطفية الساذجة التي يندفع لها البعض ويستغلها البعض الآخر الي معرفة واثقة تساعدنا علي أن نقرأ الشعر قراءة صحيحة نتذوقه فيها ونفهمه, ونميز بين مواطن القوة فيه ومواطن الضعف, ونكشف عن مفردات تأليفه وتشكيله, ونتمثل الدور الذي لعبته الذكري فيه والحلم, وما أدركه الشاعر بحواسه وما أدركه بحدسه وخياله. ولقد قرأت فيما قيل عن محمود درويش بمناسبة رحيله مبالغات ترفع في الظاهر من قدره وتحط من قدر الشعر, حين يتحدث بعضهم عما تفرد به محمود درويش ويبالغ في ذلك الي الحد الذي يبدو فيه وكأن محمود درويش لا يدين لشاعر ممن سبقوه بشيء, وكأنه لم يكتب قصيدة ضعيفة, وكأنه لم يترك لغيره من الشعراء الأحياء فضيلة من الفضائل التي اجتمعت له وحده ولم يفز واحد منهم بواحدة منها ـ حين نقرأ هذه المبالغات نقول اذن فقد مات الشعر بموته ورحل برحيله. حين نقرأ هذه المبالغات التي تنفي الشعر لترفع من قدر الشاعر, نخرج منها وقد فقدنا الإيمان بالشعر والشاعر والنقد والناقد. ولا شك أن محمود درويش يتفرد بلهجة شعرية وصل اليها بعد عمل متواصل وقدمها كتجربة لم يزعم لها الكمال, بل كان جديرا أن يعيد النظر فيها لو امتد به العمر, ففيها أكتشافات حقيقية, وفيها تجارب واختبارات. إلا أن ما يشترك فيه محمود درويش مع غيره من الشعراء أكثر بكثير مما يمتاز به دونهم, فضلا عن أن امتيازه ليس نابعا من ذات مغلقة علي نفسها, وإنما هو نابع من امتياز اللغة التي كتب بها, وناتج عن اتصاله بغيره وحواره مع الشعراء الآخرين. غير أن معالجة هذه المسائل في الشعر تحتاج لثقافة وذوق وخبرة لم تعد للأسف متاحة للكثيرين الذين يهرفون الآن في الشعر بما لا يعرفون, ويبالغون حتي نصدقهم, ويقيسون الشاعر بحجمه لا بقيمته, ويحلفون حتي لا نطالبهم بشرح أو تفسير.! (نقلاً عن الأهرام) |
|