جابر عصفور: عرفته منذ كان يسكن بيت توفيق الحكيم عندما علم الدكتور جابر عصفور بخبر رحيل محمود درويش، لم يصدق في أول الأمر، قال لمحدثه: لا تقل ذلك.. محمود درويش لم يمت، لم يمت. ولكن عندما تأكد من الخبر: أغلق باب غرفته علي نفسه، وراح في بكاء عنيف. يعود بنا عصفور إلي اللقاء الأول بدرويش تعرفت عليه ، أثناء إقامته في القاهرة في بداية السبعينيات علي يد الصديق الشاعر أمل دنقل، وكان درويش وقتها نجم شعري، وخاصة بعد أن قام رجاء النقاش بالتعريف به ، وكتب عنه كتابا كاملا. وقد ربطت أمل ودرويش ، واذكر أنه كان يقيم في المنزل الذي أقام فيه توفيق الحكيم، وظلت علقتنا قوية ومستمرة حتي حيله. أما اللقاء الأخير فقد كان منذ عام تقريبا في عمان ، رتبه لنا صديقنا المشترك الدكتور محمد شاهين. لا ينس عصفور موقفين لدرويش، الأول عندما كان يجهز لمؤتمر أمل دنقل في الذكري العشرين لرحيله، واتصلت به لأدعوه، فأخبرني أنه علي استعداد أن يأتي علي حسابه الخاص من أجل أمل دنقل وأنه كان سيكون غاضبا لو لم يحضر، وقد حضر درويش وألقي درويش قصيدة هامة جدا عن أمل، بل من أجمل قصائده فهي قصيدة لا يكتبها إلا من يعرف أمل، ومن يدرك معني الموت في الحياة، والحياة في الموت. ولا أنسي ان امل كان يقرأ لي دائما القصائد التي كان يحبها لدرويش. أما الموقف الثاني في مؤتمر الشعر ، وقد كان آخر مؤتمر أثناء عملي أمينا للمجلس الأعلي للثقافة ، وقد أرسلت دعوة إلي أدونيس، واخري إلي درويش، وقد أعتذر أدونيس، وتعلل بأن الدعوة لم تصله، واعتذر درويش ايضا في البداية، وأرسل رسالة اعتذار، ولكن عندما علم أن هذا المؤتمر هو آخر المؤتمرات التي ستقام أثناء رئاستي للمجلس ، أتصل بي وقال إنه : لم يكن يعلم أن هذا المؤتمر هو آخر مؤتمر لي، وأنه كان مرتبطا بموعد في المغرب، ولكنه أتصل بهم وطلب تأجيل الموعد حتي يتمكن من الحضور . يقسم عصفور مراحل إلي مرحلتين الأولي منذ بداياته وحتي ديوانه (محاولة رقم 7) ، والثانية بعد هذا الديوان ، درويش بالفعل هو شاعرمقاومة،ولكنه غاص فيها فاكتشف العام من خلال الخاص_,_ وأدرك الجذور الإنسانية ولذلك اصبح شعره يخاطب الانسان المظلوم والمقموع_._كما انه كشاعر كان يواجه الشر في كل أحواله ولهذا اعتبره العرب شاعرهم في المقاومة ووضعوه في صدارة المقاومة، كما أنه في الوقت ذاته كان يكتب عن المقاومة الإنسانية التي تجسدها علي نحو خاص المقاومة الفلسطينية بوضعها بعض الحضور الإنساني المقاوم لكل قوي الشر، ومن هنا فهو يقدر كونه شاعرا للمقاومة الفلسطينية فهو شاعر للمقاومة الإنسانية، ولمقاومة كل الفساد الموجود في العالم. وهو شاعر يتأمل في الوجود الإنساني كله، وقد أدي هذا إلي أن يتأمل الموت ويتأمل وطنه ممتزجا بالموت وبالحياة. _ وأضاف عصفور: أنا اعتبر جدارية درويش نصبا تذكاريا عظيما أراد أن يشيده في حياته ليصبح شاهدا علي ذكراه، وحتي يحفر علي جدرانه الشعرية تجربته مع الموت وكيف أنه ذهب إليه ثم قدرت له العودة إلي الحياة مرة أخري أثناء الجراحة التي أجريت له في باريس عام 1998 فرأي العين رأي العيان عندما مضت عليه ثوان فارق فيها الحياة لكنه عاد منها وكأنه إنسان ذهب إلي الموت وقدر له أن يعود منه ثانية ليروي لنا ما رأي. هذه هي الجدارية التي يحكي فيها درويش عن رحلته بين الحياتين موظفا فيها ثقافته، وكل أساطير البعث في العالم القديم. ويرصد عصفور تشابها بين ديوان أمل دنقل أوراق الغرفة 8 ، وقصيدة درويش جدارية ..وخاصة في قصيدتين البياض ، فهناك قصيدة لأمل يشبه فيها الموت بطفل يمسك بنبلة ويقذف بحصاه علي السابلة، وعندما تصيب الحصوة أحد العابرين بمحض المصادفة تكون حياته قد انتهت لأن ليس هناك منطق في الموت، والطفل هنا ليس إله الحب الجميل: وإنما هو المفوض بإنهاء الحياة. وهذا المعني نفسه نجده في شعر درويش. (أخبار الأدب)
|