شعرت بحزن عميق قاهر عندما تأكدت أن موت محمود درويش أصبح حقيقة لا احتمالا, وبكيته متذكرا كل الأعزاء الذين فقدتهم. ولا أزال أبكيه في داخلي شاعرا مرارة فقد صديق عزيز, وواعيا أننا خسرنا شاعرا استثنائيا, لا يجود الزمان بمثله إلا كما يجود بالمعجزة الإبداعية التي هي خروج علي كل القوانين المألوفة, ولست وحدي الذي أشعر عمق خسارة محمود درويش, فهو ليس شاعر القضية الفلسطينية التي وهب لها شعره وحياته, قبل سنوات طويلة من صياغته إعلان الدولة الفلسطينية, وإنما هو ـ إلي جانب ذلك ـ شاعر الأمة العربية كلها التي تباهي به العالم, كما ظلت, ولا تزال, تباهي بنجيب محفوظ ويوسف شاهين وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من الذين تركوا إبداعات تتحدي الزمن. وهو شاعر الإنسانية الذي يضعه العارفون بقدره الشعري في مصاف شعراء العالم الكبار الذين فتحوا للبشر الفانين من الآفاق الإبداعية ما لايزال مغلقا أمام غيرهم, وما يحررهم من شروط الضرورة, ويؤصل فيهم وعي الحرية التي تعني مقاومة كل نقائضها في كل مجال, وعلي كل مستوي, ووعي الجمال الذي ينطوي علي أقنوم العدل, ويتآلف مع العقل والوجدان الذي يرتقي بهما. ولم يكن ذلك غريبا علي محمود درويش الذي أخلص لقضيته الخاصة, وغاص في مأساة شعبه, مدركا جذرها القومي, وامتدادها الإنساني, مؤكدا بإبداعه أن المأساة الفلسطينية هي مأساة القمع اللاإنساني الذي يمارسه مغتصبون تمتد أذرعهم الأخطبوطية إلي كل مكان علي ظهر الكرة الأرضية, ولهم أشباههم من زبانية الظلم والقهر والاستغلال الذين يشوهون الحياة لأنهم أعداؤها, وينشرون الدمار حيثما حلوا لأنهم كالكائنات الوحشية المنطلقة من الجحيم, يدعمون الظلم والتعصب والأصولية باسم أوهام عرقية وتشوهات فكرية وأطماع اقتصادية وغرائز استعمارية, وبقدر ما كان شعر محمود درويش يؤكد أن الأصولي الصهيوني القاتل لا يختلف عن غيره من الأصوليين, مهما تختلفت أسماؤهم ومسمياتهم. ودياناتهم, كان يدرك أن العدل مطلبه في كل مكان علي ظهر الأرض, وأن الانحياز إلي المقموعين المظلومين في قاراتها وأقطارها هو انحياز إلي معذبي الأرض في وطنه الذي لا يزال سجين براثن وحشية, تنهش الضحايا علي امتداد الكرة الأرضية التي يزداد معذبوها بؤسا وفقرا وإحباطا. ولذلك كتب عن إمبراطورالعالم الجديد وعن الزمان الذي يغير وجهه كالأرض التي غدت أكثر وحشية. ولذلك ترجم العالم شعره إلي لغات عديدة, ووجد قراء له ومستمعين في أقطار, لم يعق شعره في الوصول إليها اختلاف اللغة وتباعد المكان, فأصبحت قضيته قضية المقاومة للقمع في كل مكان. وقد وصل محمود درويش إلي هذه المكانة لأنه تميز وإبداعه بست صفات لا تتحقق إلا فيمن كان مثله عطاء وإنجازا وتأثيرا. وأولي هذه الصفات الثبات علي المبدأ, خصوصا بالقياس إلي الكثيرين الذين تخلوا عن قضاياهم التي اقترنوا بها, وتراجعوا عنها طمعا في مغانم رخيصة, أو ادعاء للتغير بتغير الحياة التي لا تعني, قط, تغير المواقف الجذرية التي يرخص من أجلها الوجود. والصفة الثانية هي الوعي اليقظ بأهمية الاستيعاب النقدي الدائم لكل متغيرات العصر, خصوصا المتغيرات الإبداعية, سواء في علاقة الشعر بالعالم, أو علاقته بغيره من الفنون, أو علاقته بالشاعر نفسه, فضلا عن علاقته بالقراء ووسائط التوصيل. وثالثها: عدم التوقف والانقطاع عن الشعر الذي يجري مجري الدم في عروق الشاعر الأصيل. ورابعها: الوعي بكونه واحدا من شعراء الإنسانية كلها, يتبادل وإياهم معرفة أسرار الإبداع, ولا يكتمل إلا بالحوار معهم, والإفادة منهم التي هي إضافة إليهم, تحقيقا لأصالته النوعية, وتأكيدا لخصوصية تجربته التي هي إسهام متفرد أصيل في التنوع الإبداعي الخلاق للبشرية كلها. خامسها: التجديد الدائم وعدم التوقف عن مساءلة الذات والإبداع, وجعل المجاوزة الإبداعية للذات المتوثبة بالحيوية وسيلة الوصول إلي القمة المستحيلة التي لا يصل إليها المبدعون الاستثنائيون إلا بالموت, في سبيل الحضور الأبهي للوجود الأكمل, في سعيه اللاهب إلي أن يشع العدل والحق والجمال الذي هو قرين الحرية والخير. وسادسها: التواضع والإيثار, وتشجيع التجارب الجديدة, واحتضان الأجيال الواعدة حتي في اختلافها الحدي, والارتفاع عن الصغائر, وإنكار الذات( بمعناها الضيق) في حضرة الشعر الذي لا يمنح للشاعر نفسه, شأن كل إبداع, إلا إذا وهبه الشاعر حضوره كله, في الوجود, مضحيا بطينة الإنسان علي مذبح الإبداع. وكان محمود درويش, شأن المبدعين الاستثنائيين, يدرك أن ثمرة هذه التضحية هي الانضمام إلي قافلة المبدعين العظام الذين هزموا الموت, حين أعطوه الجسد الفاني, واستبقوا الروح الإبداعي الذي جعلهم نورانيين, أقوي من الزمن في حضرة الوجود الخالد للفن, ولذلك كتب في واحد من أجمل دواوينه الأخيرة( جدارية): هزمتك يا موت الفنون جميعها هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين. مسلة المصري, مقبرة الفراعنة, النقوش علي حجارة معبد هزمتك وانتصرت, وأفلت من كمائنك الخلود, فاصنع بنا, واصنع بنفسك ما تريد. نقلاً عن الأهرام 18/08/2008 |
|