الصين
.. رمانة الميزان في الاقتصاد العالمي الجديد
نزيرة الأفندي - مصر
وسط
التطورات الاقتصادية العالمية وغيوم الازمة المالية, جاءت الصين
لتؤكد الحقيقة التي سعت الي تحقيقها عبر عقود.. لقد أصبحت الصين
رمانة الميزان في الاقتصاد العالمي.. وحتي لاننزلق في متاهة التصورات
والبلاغات الكلامية, دعنا نحتكم إلي التطورات الفعلية والواقع الراهن
والمسيرة التي اختطتها الصين لنفسها لتصبح رمانة الميزان في وقت اختلال
توازن بين فهم وطمع المستهلك الغربي.. وادخار وحصافة المستهلك
الصيني.
بداية وقبل استعراض هذه التطورات ودلالتها لابد ان نشير إلي مايعنيه
عام2008 بالنسبة للصين والذي دفع بها إلي احتلال هذا المركز علي
الصعيد الدولي.
فقد اتفق هذا التاريخ ومرور ثلاثين عاما علي الثورة الاقتصادية
والسياسية الهادئة التي وضع استراتيجيتها دينج هيساوبنج في عام1978
ورفع خلالها شعار ضرورة ان تظهر بكين للعالم اجمع استقرارها الاقتصادي
والسياسي ومع التسليم بحدوث ثورة ثقافية قبلها, وانتفاضات وقلاقل
اجتماعية وسياسية بعدها, إلا ان الاستراتيجية ظلت ثابتة والتكتيكات
متغيرة, فكانت النتيجة النهائية.. ان اصبحت الصين رمانة الميزان في
الاقتصاد العالمي, بل انه من المثير للدهشة ان مايتحدث عنه البعض
الآن.. من كون الصين القوة الاقتصادية الثالثة في العالم ـ ليس وليد
اليوم ولكنه الدافع الذي حققته الصين منذ عام1995 أي بعد مرور سبعة
عشر عاما علي انطلاق ثورتها الاقتصادية التي شهدت قفزة هائلة في
الاستثمارات الاجنبية وفي اجمالي الناتج المحلي نتيجة ازدهار الصادرات
ومعدلات النمو المرتفعة.
كما يتفق هذا التاريخ ـ2008 ـ والقرار الذي اتخذته الولايات المتحدة
في عام1978 بعودة العلاقات الدبلوماسية مع الصين والذي تم فعليا في
عام1979 ويتفق مع هذا التاريخ ـ توقيع عقد بيع اول صفقة اسلحة
أمريكية للصين وذلك في عام1988, وزيارة الرئيس الامريكي الاسبق بيل
كلينتون للصين في عام1998 رغم أحداث ميدان( السلام السماوي)
وتأكيده علي تجديد اتفاقية وضع الدولة الاولي بالرعاية للصين, وقد
كان المبرر الاساسي لهذا التجديد هو حجم الفرص الضخمة المتاحة للشركات
ورؤوس الاموال الامريكية في الاقتصاد الصيني, وما تمثله صادراتها
الصينية من تخفيف لعبء الاسعار علي المواطن الامريكي, وما تمثله
السوق الصينية من امكانات حالية وفرص واعدة امام الانتاج الامريكي
وبالتالي فرص التوظف والعمالة.
الاشارة إلي هذه الاحداث ومقارنتها بعام2008, تهدف إلي توضيح ان
الوضع الذي وصلت إليه الصين باعتبارها رمانة الميزان في الاقتصاد
العالمي والازمة المالية التي تحاصره, لم يكن وليد الساعة ولكنه
تتويج لجهود عقود متواصلة رفع خلالها هدفا استراتيجيا ثابتا ووضعت له
تكتيكات متغيرة علي المدي القصير.
كما ان الحديث عن الصين وبرنامج الانعاش الاقتصادي والمالي الذي
أعلنته(4 آلاف مليار يوان) واثره علي الاوضاع الاقتصادية والمالية
العالمية والذي رحبت به الادارة الامريكية الراهنة( جورج بوش
الثاني) لابد ان ينظر إليه في اطار الحملات الاقتصادية والسياسية
العنيفة التي تعرضت لها بكين من جانب واشنطن إزاء سياستها النقدية
ممثلة في اليوان. وسياستها الاقتصادية والتجارية ممثلة في فائض
ميزانها التجاري وتراكم احتياطيها النقدي وثروات صندوقها السيادي من
العملات الاجنبية خاصة الدولار.
ولكن أدت الاخطاء الامريكية المتراكمة علي صعيد الأداء المالي والعقاري
وانفراط عقد الانضباط المصرفي والدفاتر المحاسبية, وحتي دور شركات
ومؤسسات تقدير الجدارة الائتمانية, إلي تفجر الازمة المالية ذات
النشأة الأمريكية والاصداء والمعاناة العالمية.
وهنا برز دور الصين باعتبارها رمانة الميزان ممثلة في هذا البرنامج
الضخم الذي يصفه البعض بالعفو الجديد الامريكي, والذي يتضمن إنفاق
أربعة تريليونات يوان علي عامين مع التركيز علي عشرة بنود اساسية في
مقدمتها البنية الاساسية ودعم قطاع الزراعة والاسر ذات الدخل المنخفض
إلي جانب قطاعي الصحة والتعليم وتخفيف قيود السياسات الغربية ونظيرتها
النقدية والائتمانية.
فماذا يعني هذا البرنامج بالنسبة للصين وللعالم؟!
انه يعني اكبر برنامج للانعاش الاقتصادي في تاريخ الدول( مع استثناء
سنوات الحروب) كما انه يعادل أربعة امثال برامج الانعاش الامريكية
التي توالت منذ انفجار الازمة العقارية.
كما يعني زيادة دخول الافراد بما في ذلك800 مليون مزارع بما يدعم
قدرتهم الشرائية وزيادة الطلب المحلي بدلا من الاكتفاء بالحديث عن توقع
انكماش الصادرات, ومن ثم يكون البديل المحلي متوافرا مع انخفاض الميل
إلي الادخار.
انه يعني المضي قدما في مشروعات بنية أساسية وتطبيق المفهوم الكينزي
للتعامل مع الازمات بصياغة صينية وطبقا لمتطلبات حقيقية وليس اهدارا
للاموال بغية انعاش الطلب وكفي, وهو ما لجأت إليه بعض الاقتصادات
خلال الازمة المالية لدول جنوب شرقي آسيا وكذلك اليابان. يعني ان عدم
الانصياع لاوامر قوي السوق المطلقة والرأسمالية الكلاسيكية, انقذ
الاقتصاد الصيني من عمق الجروح التي لحقت بالعديد من الدول الصناعية
الغنية وعلي رأسها الولايات المتحدة الامريكية, الدلائل متعددة وقد
لايسمح المجال باستعراضها, ولكنها تتمثل في ضوابط ائتمانية وسياسة
عقارية وسياسات مالية عامة أدت إلي تقلص العجز المالي للقطاع العام
وزيادة الفائض في الميزانية.
كما يعني وطبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي ان الصين سوف تكون حاملة
لواء انعاش الاقتصاد العالمي بنسبة50% من الزيادة في اجمالي الناتج
العالمي خلال عام2009 وعلي الرغم من انخفاض التوقعات لنموها
الاقتصادي إلي8,5% إلا أن هذا المعدل يعد ذا اهمية بالمقارنة مع
حالات الركود التي دخلها الاقتصاد الامريكي, ونظيره الخاص بمنطقة
اليورو ثم اليابان وبريطانيا.
وأخيرا وليس آخرا سوف نجد ان الأداء القوي للاقتصاد الصيني دفع بـ بكين
من جدل المحاورات والمناوشات بين اليوان و الدولار والاتهامات
المتصاعدة من العواصم الغربية وعلي رأسها الامريكية بسوء استغلال
احتياطيها الضخم وثرواتها السيادية إلي ان تكون بكين هي الملاذ الاول
في قائمة الدول التي تطالبها واشنطن بضرورة إقراض صندوق النقد الدولي
لانعاش الاقتصادات الناشئة, لم لا وقد بلغ فائقها التجاري258 مليار
دولار وفائض ميزان المعاملات الجارية372 مليار دولار في عام واحد,
كما لاتعاني من امراض عجز الميزانية ولا ضخامة المديونية الخارجية.
لقد تغيرت الاحوال ليس عن مصادفة او من خلال شعارات ولكن اصبحت الصين
رمانة الميزان للاقتصاد الدولي نتيجة استراتيجية طويلة الامد.. وصبر
وأناة في متابعة الآخر وتحديد ما يلائمه وما لايلائمه.
(نقلاً عن
الأهرام)
|