قضيت النصف الأول من هذا
الشهر خارج الوطن, في بلاد كنت أزورها لأول مرة. وفي هذه الزيارة التي طالت بعض
الشيء رأيت الكثير ولم أر شيئا.
تنقلت في هذه الزيارة بين مدن وشعوب, وعادات وطبائع, ولغات وثقافات. بالطائرة
حينا, وبالسيارة حينا, وبالقطار حينا آخر.
خرجت من شمس تغرب خلفي لأدخل في شمس تشرق بين يدي, دون ان أعبر ليلا او اخوض في
ظلمة. فحين تحركت الطائرة بي من باريس في حوالي السادسة مساء متجهة إلي بكين كانت
عقارب الساعة في العاصمة الصينية تسير نحو الواحدة صباحا. وحين بدأ الليل يهبط
علينا ونحن نخرج من سماوات الغرب لندخل في سماوات الشرق كانت خيوط النور الأولي
تبدد الظلمة لتنفتح أمامنا الآفاق عن فجر جديد.
هكذا خرجنا من نهار لم ينقض بعد في باريس لندخل نهارا لم يكد يبدأ علي حدود
الصين, حتي هبطت بنا الطائرة في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي لليوم الذي
سافرت فيه, لأجد نفسي في أقصي الأرض, قاطعا نصف الكرة في يوم أو اقل من يوم,
من القاهرة إلي باريس عبر البحر المتوسط وجنوب أوروبا. ثم من باريس إلي اقصي
الشرق عبر البلاد الواطئة, والبلاد الاسكندنافية, وروسيا. ثم سيبيريا
ومنغوليا حتي ندخل أجواء الصين, ونهبط في مطار بكين الدولي.
هذه ليست مجرد رحلة. وليست مجرد حركة في المكان. إنها تجربة حية عشتها بكل
طاقاتي العضوية والروحية. تجربة مخالفة إلي حد كبير لما عرفته في رحلاتي الطويلة
السابقة للولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.
في هذه التجارب السابقة كنا نمشي مع الشمس, من الشرق إلي الغرب لا نحس كثيرا بفرق
التوقيت الذي لا يزيد عن ساعة أو ساعتين بين كل محطة واخري. أما في رحلة الصين
فالفرق ست ساعات. ست ساعات في التوقيت, أما في غير التوقيت فالفرق أو الفروق
هائلة.
حاولت أن اظل يقظا منتبها معظم ساعات الرحلة التي امتدت اكثر من عشر ساعات, أراقب
تضاريس البلاد التي نعبرها, الجبال, والبحار, والمدن, والقري. ثم هذه
الصحاري الجليدية التي ظلت بيضاء ساعتين أو اكثر ثم اشتعلت بعد ذلك باشعة الشمس
المشرقة.
والذي رأيته وأنا في الطائرة معلق بين السماء والأرض لا يقاس الي ما رأيته وسمعته
ولمسته حين هبطت بي الطائرة لتأخذني السيارة الي شوارع بكين وفنادقها ومسارحها
ومتاحفها ومعابدها القديمة ومعالمها الجديدة العصرية.
ولابد أن أعترف بأن شعور المصري الذي اتصلت ثقافة بلاده بثقافة الغرب في الماضي
والحاضر وردود أفعاله وهو يزور هذه البلاد لأول مرة يختلف قطعا عن شعوره وردود
أفعاله وهو يزور أوروبا أو أمريكا. ليست اللغة وحدها هي المسافة الفاصلة, و
لكنها تلك المنظومة من الأفكار والتصورات والبديهيات التي تتميز بها ثقافة عن ثقافة
لم تتواصلا إلا من بعيد.
هذا الشعور بالاغتراب أو بالبعد لم أعرفه في باريس, حتي وأنا فيها نزيل طارئ لا
يعرف بعد من الفرنسية ما يمكنه من الاتصال والتفاهم. نستطيع إذن ان نفهم حديث طه
حسين في مستقبل الثقافة المصرية عن العناصر المشتركة التي تجمع بين الثقافة المصرية
والثقافة الغربية وتجعلنا نحن والغربيين أبناء حضارة واحدة نشأت علي ضفاف البحر
المتوسط. لو كنا علي وعي كاف بهذه الحقائق الثابتة. لما نجح المحتسبون الجدد في
إغراقنا بثقافتهم البدوية المتخلفة!
وأنا لم أقض أيام الزيارة كلها في بكين, بل غادرتها بعد ثلاثة أيام إلي مدينة سي
ننج عاصمة مقاطعة تشنج هاي الواقعة شمال غرب الصين لأشارك في المهرجان الدولي للشعر
حيث وجدت بلادا أخري وطبيعة أخري.
سلاسل ممتدة من الجبال الخضراء, وحقول خصبة مترامية ترويها مياه النهر الأصفر,
مياه تبدو بالفعل صفراء, ربما لاختلاطها بنوع من التربة أو من الطمي الأصفر,
وقد قرأت أن الصينيين اكتشفوا الزراعة في هذه المقاطعة قبل حوالي ثمانية آلاف
عام, بفضل وجود هذا النهر الذي لعب في حياة الصين ما لعبه النيل في حياة مصر.
والنهر الأصفر ينبع من الشرق ويصب في الغرب علي عكس بقية أنهار الصين التي تنبع من
الغرب وتصب في الشرق, وحول هذه المفارقة نسج الصينيون أسطورة تقول إن اميرة من
أميرات غرب الصين تزوجت ملكا من ملوك الشرق وعاشت معه بعيدا عن أسرتها التي كانت
تحن شوقا لها فتبكي, ومن دموعها جرت مياه النهر الأصفر. أليست هي اسطورة ايزيس
التي يفيض النيل من دموعها علي أوزوريس؟!
الزراعة بدأت هنا, وهنا اذن بدأت الحضارة التي يحتل فيها فن الشعر أرفع مكان,
فمن الطبيعي أن ينعقد هنا في مدينة سي ننج عاصمة تشنج هاي أول مهرجان دولي للشعر
تقيمه هذه المقاطعة الصينية الجميلة التي اختير الشاعر تشي دي ماتشياو ليحتل منصب
الحاكم المفوض فيها فكانت الدعوة لاقامة هذا المهرجان في مقدمة أعماله.
هذا المهرجان سأحدثكم عنه يوم الاربعاء القادم, لكني حرصت اليوم علي ان احدثكم عن
هذه التجربة التي جسدت لي معني العولمة وجعلتني أعرفه وأعيشه كما لم أفعل من قبل.
لقد تغيرت الصين وتقدمت وصارت كأنها امتداد للغرب دون ان تتخلي عن جوهرها, بل لقد
ازداد هذا الجوهر تألقا بفضل اتصالها العميق بالثقافة الغربية الحديثة التي نقل
الصينيون جوهرها دون قشورها. فالجوهر واحد في كل الثقافات الانسانية, والشرق
والغرب يلتقيان ويتفاعلان في الصين علي عكس ما كان يقول رديارد كبلنج.
لقد أدركت في هذه الزيارة ان العالم قرية واحدة بالفعل ولقد رأيت فيها الكثير,
لكني بسبب اتساعها وغناها وسرعتها الخاطفة أحس اني لم ار شيئا!
(نقلاً عن الأهرام 29
أغسطس 2007)