يقول الدكتور احمد محمد عبد الخالق في كتابه ( قلق الموت ) عن
موضوع الموت : لم تشغل مشكلة الحياة والموت بوجه عام وقضية الموت بوجه خاص
الفلاسفة والمفكرين فحسب ، بل إنها تعد مسألة جوهرية ونقطة مركزية في الديانات
السماوية وغير السماوية " ( 1 ) وينطلق هذا الباحث من تعريف " تمبلر " لقلق
الموت بأنه : حالة انفعالية غير سارة يعجل بها تأمل الفرد في وفاته هو . ( 2 )
. فالباحث عندما قدم نبذة تاريخية عن هذا المفهوم ذكر أن " ستانلي هول " افرد
نوعا من الرهاب أطلق عليه مخافة الموت
Thanatophoia
ولا ندري لماذا لم يدرج عبد الخالق
رهاب الدفن حيا
Taphophobia
ضمن مفهوم قلق الموت والذي يعرف على أنه " خوف الشخص من أن يظن الناس انه قد
مات فيدفنونه ثم يستيقظ ويجد نفسه محبوسا في القبر " ( 3 ) . ونحن لن
نتناول هذا الموضوع من منظور علم النفس بصورة تفصيلية . نحن هنا تطبيقيون لهذا
الموضوع على عينة من نصوص الشعر العربي الحديث . ومع هذا فإن الإشارة السريعة
لهذا النوع من الرهاب تعد عملا مفيدا لفهمه كمدخل إلى موضوعنا . فقد تناول
فرويد هذا النوع من الرهاب في كتابه " تفسير الأحلام " حيث وصف احدى خبراته
الحلمية كما استعرض عددا من الأحلام وحللها وفق منهجه التحليلي وأسلوبه في
التداعي الطليق . فأشار إلى أن سببها يعود إلى التفكير في الموت في اليوم
السابق ( 4 ) . ولكن هناك فرقا بين هذا الرهاب والأحلام التي ذكرها فرويد ..
فالرهاب هو خوف دون المرور بخبرة الحلم سواءا أكان ليليا أو نهاريا . كما عرض
نجيب يوسف بدوي الدفن حيا كحالة كابوس هو تعبير عن صدمة الميلاد وأن الحي في
التابوت هو الجنين في الرحم . ( 5 ) ويرى هذا الباحث أن هذا الكابوس يقبل
تفسيرا أخر . فالخوف من الموت ومعاناة القلق الشديد في هذا الكابوس قد يكون
تعبيرا عن تخلي الذات العليا
super ego
عن الذات ، والزهد في الحياة مما يؤدي إلى شعور بالقلق ، وإلى استدعاء النموذج
الأول للاستجابة القلقية التي تحدث في صدمة الميلاد . ( 6 ) . من هذا يتضح أن
هناك قلق الموت ورهاب الدفن حيا . و لاشك فأن هناك علاقة الرهاب
Phobia
وبين القلق
Anxiety
إذ اختلفت أراء الباحثين في تلك العلاقة وقد
عرضها عبد الخالق في كتابه المشار إليه (7 ) . نحن لن نستطرد ، كما قلنا
، الدخول في التفاصيل النظرية لهذه المفاهيم ، قدر ما سوف ننطلق منها لدارسة
ظاهرة الخوف أو رهاب الدفن حيا
Taphaphobia
كما تتجلى لنا أبعادها في الشعر العربي الحديث . وسوف تكون هذه
المحاولة مقتصرة على عدد معين من الشعراء . ونأمل نحن أو غيرنا القيام
بمسح شامل لهذه الظاهرة في هذه الحقبة التاريخية من الشعر العربي . ولنبدأ مع
أدونيس . لهذا الشاعر قصيدتان تعبران عن هذه الظاهرة .. وليكن معلوما من إننا
لن نجد هذا المفهوم العلمي مجسدا بشكل كامل في النص الشعري المدروس ، وإذا
وجدنا ذلك فإن الشاعر يكون مدركا لهذه الظاهرة أو قد عانى منها وجسدها
وعبر عنها شعريا . يقول أدونيس :-
فرأيت’ صديقا يدخل ويخرج بين أصابع قدميّ
آخر يحل’ سيور حذائي ويلتف بها
( الآثار الكاملة ، مجلد 2 ص 219 )
أن النص صورة لكابوس واضح .. لنقف عند وضعية أدونيس وهو نائم ولم يكن متخما .
وهذه إشارة إلى فهم أدونيس إلى علاقة الكابوس بالتخمة . لقد نام ورأى ... أنه
الآن في حلم وهو مضطجع لا يستطيع الحراك وكأنه دمية .. يدخل الآخر ويخرج منها
كما يشاء مما يبدو انه مشلول الإرادة . وعندما يحل احدهم سور حذائه ، فهذا يوحي
أيضا بشلل الإرادة الكامل . المهم في هذه الرؤية ، ومع ما يتفق مع ما نريد رصده
، هو أن الحالم يشعر أنه ميت وهذا هو ما عبر عنه أدونيس بعد ما نام ورأى ما رأى
. لقد رأى صديقا له يذبحه . فنعتقد أن الفكرة قائمة على إحساس أدونيس بأنه
محسود وأن هذا الصديق يغار منه لا لشئ إلا لكون أدونيس . . ننتقل إلى النص
الثاني ، حيث نجد أدونيس يعاني انشطارا في الذات . والنص يحمل عنوان ( حلم ) .
يقول فيه أدونيس :-
انا الدم النافر من حضارة ذبيحة
( الآثار الكاملة ، مجلد 2 ص 355 )
واضح أن في هذا الحلم أن هناك رغبة في رفض ما هو قائم .. أعني أن أدونيس لا
يقبل واقعه .. فهو لا يريد صوته .. أنه يتمنى أن يكون له صوت جديد . انه
هنا يتعامل مع ذاته .. في الحلم طبعا .. كجثة طريحة .. وهو في الحلم أيضا ,
يكون أو يود أن الدم النافر . أدونيس ، هنا ، يعقد مقارنة بين الجثة الطريحة ..
جثته التي لها صوت غير الصوت الذي يتمناه .. وبين حضارته التي ينتمي إليها وهي
ذبيحة . هنا أدونيس متشائم من جثته وحضارته . في الحلم هو رافض .. محتج ..
ويشعل ويطفئ معا نار الموت . بمعنى ، في تقديرنا يريد أن يغير مسار الأحداث وفق
ما يرى هو . في كلا الحلمين يرى أدونيس نفسه ميتا . فهو في الحلم الأول يرى
نفسه مذبوحا من قبل صديقه . وفي الحلم الثاني يرى نفسه جثة طريحة من قبل حضارة
ذبيحة . ونعتقد إن أدونيس لا يعاني من رهاب الدفن حيا بل يعاني من رغبة في
الموت لأنه صاحب خطاب مهم . وهذه الصورة التي وجدناها عند أدونيس سنجدها عند
محمد الماغوط . فهو يفكر في نفس الاتجاه . يقول الماغوط في المقطع الأخير من
قصيدته 0 في يوم غائم ) :-
وانا اسبح’ في قبري كالمحراث
( الآثار الكاملة ، ص 219- 220 )
أن مجرد التفكير في الاحتضار
Dying هو
علامة على وجود قلق الموت . ولكن الماغوط لا يرى نفسه محتضرا فقط بل وميتا
ويسبح في القبر وهو يتثائب . لكن ما هو مهم هو موقفه العام .. أعني ناتج سلوكه
. ان الشتم والتهريج والبكاء لهي أفعال سلوكية تقوم على المفارقة .
بتعبير أدق ، فالذي يشتم ويهرج فإنما يعبر عن سخطه وكراهيته لما هو من حوله .
ولكن البكاء علامة الخيبة والفشل وكأنما كل شتمة وتهريجة لم تحقق ما كان يصبو
إليه . وهكذا نرى ان الماغوط إنما حلم أنه سيموت وكان هذا الحلم نتيجة لفشله
وعجزه عن تحقيق مطالبه وإحساسه بالفض من قبل الآخر . وهذا الإحساس هو ذاته الذي
تدور حوله قصيدته الأخرى المعنونة ( واجبات منزلية ) حيث يقول :-
والشيخوخة البيضاء بدأت تمس جبيني
كالياسمين الدمشقي عند كل منعطف
أديري قرص الهاتف يا حبيبتي
واطلبي ، مزيدا من الرعب والعذاب
وأحضر ملفُ دموعي ورقم خدي
اعطيني هويتي ودفتر عناويني
كزعيم إحدى القبائل المتوحشة
وأبادلها بالخرز والمرايا الملونة
اغرسي كلاّبةٌ في شفتي السفلى
ودحرجيني في أحد الوديان .
وإذا ما لمحك علـم ’ بلادي المختال
( الآثار الكاملة ، ص 268-270 )
يتضح من هذا النص ان الماغوط ، بدأ يشعر أو بتعبير أدق اخذ الإحساس بالشيخوخة
ونتائجها يدنو منه ويدق بأجراسه عليه . لقد دق ناقوس الاقتراب من اللحظة
التي لا مفر منها . وقد لا تكون هذه اللحظة قائمة على أساس فسيولوجي ،
على الرغم من اعتراف الماغوط بوجود ذلك الأساس ، بل قد تكون نتيجة طبيعية لما
لاقاه الماغوط من أيام مفعمة بسوء الحظ ونحاسته !! علاوة على تشرده الدائم ،
وعدم الاستقرار . وعدم وجود ادمي ، أنثوي على وجه الخصوص ، يحتضن هذا الجسد
البائس . وفي نهاية المقطع الأول نجد هذا التساؤل ، حيث يصرخ الماغوط من كل
أعماقه " من يوليني اهتمامه ؟ " ونجد فجأة الماغوط يتوجه بالسؤال إلى من ارتضت
أن تكون منزلا له !!! ويطلب منها أن تفعل ما تشاء ، فهو لا يبالي لأن مستقبله
في القبر .. وكأن الماغوط يؤمن بأن القبر هو نهاية كل شيئ ... لا جمهور للشاعر
فهو وحيد إلا من ظله .. أن طلب الماغوط من هذه التي .. ، كوفية وعقالا
إشارة إلى رفض الشاعر لمدنية الغرب والعودة إلى صحراء انتمائه . هناك فقط يجد
نفسه زعيما لإحدى القبائل المتوحشة الرافضة لزركشة الحضارة ... وأخيرا يطلب
الماغوط منها أن تلقيه في احد الوديان وتعبر بسرعة وتتركه وحيدا . المهم في هذا
النص ظهور مشاعر الوجود في القبر ، وإن كانت غير واضحة وفق الصورة التي توقفنا
عندها في التعريف لرهاب الدفن حيا . وبهذا سنترك الماغوط لنتوقف عند العقاد
ليصف لنا هذه التجربة الوجدانية التي عاشها العقاد ،حيث يقول :
إذا شيعوني يوم تقضي منيتي
وقالوا أراح الله ذاك المعذبا
فلا تحملوني صامتين إلى الثرى
فأني أخاف اللحد ان يتهيبا
وما زال يحلو ان يغنى ويشربا
وما النعش إلا مهدبني الورى
فلا تحزنوا فيه الوليــــــد المغبيا
ولا تذكروني بالبكاء وانما
أعيدوا على سمعي القصيد فأطربا ( 8 )
نحن هنا لا يهمنا تحديد موقف العقاد من ظاهرة الموت . هذا الموقف يقع خارج هذه
المحاولة . ما يهمنا هو وصف العقاد لظاهرة الدفن حيا . فقد عبر عن هذا الانفعال
تعبيرا يتفق إلى حد ما مع التعريف الذي انطلقنا منه لرهاب الدفن حيا
فالعقاد يصف لنا مشاعره وهو داخل اللحد والنعش والآخرون ، اعني الأحياء
المحيطين به يقومون بحمله والأسف عليه . أن العقاد هنا لا يزال حيا وهو في
النعش يسمع الذين حوله ويناشدهم ويترجى أن يكونوا وفق ما يريد . الأبيات
الخمسة تعبير جميل لهذا النوع من الرهاب . تلك هي فكرة العقاد وصورته عن رهاب
الدفن حيا . والآن نقف عند الشاعر خليل حاوي . يقول حاوي في المقطع الأخير من
قصيدته المعنونة ( في جوف الحوت ) :
( ديوان خليل حاوي ، ص 68 )
لا يخفى على الدارس أن صورة جوف الحوت مأخوذة من قصة النبي يونس الذي ابتلعه
الحوت . ولكن قبل لجوء حاوي إلى هذه الصورة استخدم الشاعر مفردة الكهف
للتعبير عن فكرة الدفن حيا . ان حاوي يعرف انه سوف يموت ، وانه سوف يموت في
الكهف وفي جوف الحوت عضوا فعضوا . ولكنه لم يمر بهذا الانفعال بالصورة التي مر
بها آخرين وعلى الخصوص أدونيس . وكما سوف نرى مع آخرين .. ولكن مع ذلك فقد وصف
وصفا عابرا وجوده وهو محموم وضرير في القبر . نترك حاوي وننتقل إلى البياتي
. وهذا الشاعر قد تماهى بشخصية عائشة وعلى ضوء هذا التماهي يعلق احد المهتمين
بهذا الشاعر ما يلي ( ويربط الشاعر الموت بفكرة النفي الأبدي في قصيدته "
الموت في غرناطة " ، فإذ تموت عائشة تبعث امرأة أو صفصافة أو دودة أو غير ذلك ،
فتكون عودتها للحياة مقترنة بالربيع التموزي وبالأمل المخضوضر ، ولكن حين تبعث
عائشة مغادرة تابوت الموت فإن إنسانا آخر يدخل التابوت . وهكذا تتم الدورة
الأبدية للحياة والموت في نفي ابدي من الحياة الى الموت . يقول البياتي :-
عائشة عادت ، ولكني و’ضـِعت’ - وأنا أموت
مجريهما ، واحترق تحت سماء الصيف في القيعان
وتركا جرحا على شجرة الرمان
هذا المقطع هو من مجموعة البياتي المعنونة " الموت في الحياة " و لا تأخذنا
الدهشة إذا لم يشر هذا المهتم الى موضوعنا لأنه لا ينطلق من علم النفس ، بل من
قراءة فلسفية عامة للنص . والبياتي لا يحلم أنه سوف يموت . بمعنى
أنه لم يستيقظ من كابوسه وعاد الى الحياة مرة أخرى ... بل هو مات ومات
الى الأبد . لا تهمن كثيرا الدوافع التي دفعت البياتي الى ان يتماهى بعائشة .
والبياتي يشير الى ذلك التماهي عندما يقول " تبادل النهران مجريهما " . نهاية
الصورة التي يرسمها البياتي نهاية محزنة . هناك احتراق وهناك جرح وهناك طائر
ضمآن ينوح في نيسان . لعل هذه الرموز هي رموز للبياتي نفسه ... انه هو الجرح
وهو الطائر الضمآن . كل ما يهمنا هذا النص عند البياتي هو انه وجد نفسه مدفونا
تابوت ولا شيئ غير ذلك . نترك البياتي وننتقل الى الشاعر احمد عبد المعطي
حجازي . ففي قصيدته المعنونة " الموت فجأة " التي يقول فيها :-
حتى إذا سقطت فجأة ً تعرفتم عليّ
تصّوروا لو أنكم لم تحضروا
أظل في ثلاجة الموتى طوال ليليتن
يهتز سلك الهاتف البارد في الليل ، ويبدأ الرنين
بلا جواب .. مرةّ ً .. ومرتين !
يذهب إنسانُ إلى أمي .. وينعاني
أمي َ تلك المرأة الريفية الحزينة
كيف تسير وحدها في هذه المدينة
في الردهة الشاملة السكينة
تنسج من دموعها السوداء أكفاني !
يا ليت أمي وشـَّمتني في اخضرار ساعدي
كيلا يضيع وجهي الأول تحت وجهي الثاني !
حين أرى الرجال والنساء يخرجون صامتين
من بعد ما ظلوا أمامي ساعتين ، ما تبادلنا النظر
حين أرى أن الحياة قد خلت من الجنون
ورفََّ فوق الكل طائر السكون
أحس أني ميت فعلا ، واضطجعت صامتا
أرقب هذا العالم الفاني !
( ديوان حجازي ، ص 355 -385 )
القصيدة مكونة من خمسة مقاطع ، وهي ذو بناء جميل يصف لنا الشاعر من خلاله هذه
التجربة . انها عند حجازي ليست رهابا بل تجربة يستعد لمواجهتها . ففي المقطع
الأول يحمل حجازي رقم هاتفه واسمه وعنوانه ، لانه إذا سقط وغاب عن الوعي ومات ،
هناك ما يدل على هويته . أنه فلان ابن فلان ، يسكن هنا أو هناك . هذا هو رقم
هاتفه . أنه مواطن يملك جنسية وينتمي الى البلد الفلاني .. نفس الرغبة وجدناها
عند الماغوط ، ها نحن نجدها عند حجازي . هذه الرغبة تدل على تعلق الشخص
بذويه . ان لديه انتماء لهم . لا يشعر ، على الأقل ، بقلق النبذ والرفض
والانفصال في علاقته بالجو الأسري . انه في نهاية المقطع الأول ينتظر مجيئ
أخوته ... ولكن حجازي يفترض، في المقطع الثاني ، ان وضعه سيكون مزريا .. سيظل
في ثلاجة الموتى ، مترقبا رنين الهاتف ، إشارة الى ان احدهم قد عرف بالخبر ..
وسوف يأتي . إلى هنا وحجازي لم يفقد الوعي . انه ليس بميت . انه مجرد
نائم فقط .. بل هو يصطنع النوم لكي يعرف ماذا سيجري . لكي يعرف مدى قدِره أمام
الآخر . حجازي تواق الى معرفة هذه الصورة . صورة الآخر عنه . لم يأت احد من
اخوته . التي جاءت هي أمه . هذا هو موضوع المقطع الثالث . ففي هذا المقطع ، نرى
حجازي يكتشف أو يرى أحزان أمه عليه . أمه تلك المرأة الريفية .. الحزينة من
الأساس ، لقد فقت هذا وذاك واخيرا فقدت الطفل المدلل .. احمد .. يا لها من
فاجعة كبرى . حجازي يصف لنا مسيرة الأحزان لدى أمه . بدءا من معرفتها بالخبر
حتى نسج أكفان ولدها المدلل مرورا بدموعها السوداء !! . الا اننا نجد في
المقطع الرابع ان جثة حجازي .. جثة مهشمة . لا دليل عليها للتعرف على صاحبها .
ولذلك فهو يتمنى لو كانت أمه قد وشمته في جزء من أجزاء جسده . أنه لا يرغب بأن
يكن تائها . أنه يريد ان يكون ذلك الطفل المدلل عندما كان على قيد الحياة . في
هذا المقطع أيضا ، نرى صراعا اوديبيا واضحا . ان تعلقه بالأم ، يعده خيانة للأب
. لذلك هو يريد أن يكون الابن الذي يملك صورة الطاعة والإذعان . لا وجه التمرد
والثورة على قوانين الأب من اجل البقاء في أحضان الأم وهي تغني له .. تلك
الأغاني التي تمتص توتره وتحكي له حكايات الجن والمارد لكي يتوه في عوالمها
وينام !! . لا يزال حجازي يراقب المارة الذين من حوله .. ويكتشف تلك الحقيقة
المرة .. وهي أن الجميع لا يملكون سلطانا على الموت . هذا المارد الذي يقهر كل
شيئ .. حجازي في المقطع الأخير يرى أن العالم مليء بالجنون وهو يراقب بل ينتظر
خلو العالم من هذا السرطان الخبيث . هنا هي الإشكالية عند الشاعر .. هو لا يرغب
أو لا يريد ان يموت حتى يرى طائر السكون يرف فوق الكل ويتخلص العالم من صخب
الجنون !! أو هذه الفوضى القيمية والأخلاقية والروحية . عند ذاك
يشعر حجازي أنه مات فعلا .. ولا يفعل سوى ان يضطجع صامتا لكي يراقب تفاهة هذا
العالم الفاني .. ويداه متجهة نحو السماء . ننتقل الآن الى شاعر المقاومة ،
أعني محمود درويش ، حيث يطلق ندائه الحزين من القبر . وسوف نرى الى أي مدى يربط
شاعرنا محمود درويش ندائه هذا بجوهر قضيته الأساسية الكبرى ، أعني مقاومة
المحتل . وفي نفس الإطار ، أعني إطار مقاومة المحتل، ينطلق صوت الشاعر محمود
درويش من القبر . ها هو يقول في هذا النداء :-
أنا ... عـمر موتي ثماني سنين
وهم يزرعون ، وهم يحصدون ،
وهم يخبزون ، وهم يأكلون !
حذار .. هنا الشمس دود وطين
أنا ... عمر موتي ثماني سنين ،
فلا لون في القبر إلا السواد !..
لينجوا أحياؤكم ... والذين
على حذرٍ ... صامدين ! ...
( ديوان محمود درويش ، ص 406-409 )
القصيدة مكونة من ثلاثة مقاطع ، يتماهى الشاعر مع أبيه الذي مات ولم يرَ ما كان
يصبو إليه .. أعني خروج المحتل . إذن الشاعر يعترف من حيث لا يدري إخفاق أبيه
... وهنا يحق لنا ان نتساءل هل محمود درويش هو الآخر قد وصل إلى ذات النتيجة !!
. فهو الآخر قد أخفق في أن يرى العدو يخرج من أرضه . هل يمكن القول أنه أعلن
فشله وخسارته في المعركة ؟؟ . والمتأمل في هذا النص سوف يرى محمود درويش قد وصل
إلى ما وصل إليه أبيه . ولذلك فأن ثقة محمود درويش ليست في أبيه و لا في نفسه
.. بل في البقية الباقية من الأحياء . إذن النداء موجه الى الأحياء و ليس رثاءً
لأبيه أو أسفا على نفسه . أنه مات .. وكذلك أبيه وانتهى كل شيئ . أعني
انتهت كينونتهم . هما الآن في القبر . وماذا في القبر؟ لا يوجد في القبر سوى
الشمس التي هي دود وطين . ولكن الذي ما انتهى هو القضية . فقد انتهى الأب ولم
تنتهي القضية . ولذلك أصبحت قضية الابن . وبعد رحيل الابن أصبحت قضية كل
حي يأتي ليحمل الراية . راية الانتصار والحرية وطرد الأعداء . وفي هذا الإطار
يدور فضاء النص . محمود درويش لا يريد على قبره ماءً وزهرا لأنه ليس حيا في
القبر . أعني لا يوجد في القبر سوى قطيع أفاع ٍ .. ودود !! . وهو لا يريد
ثياب حداد لأن القبر اسود ومظلم و لا شيء غي هذا . وهو لا يريد مواويل حزن
طويلة ، لأن هذه المواويل لا صدى لها عند الراقدين ، لأن عودتهم مستحيلة كل ما
يريده محمود درويش هو أن يغني الأحياء للأرض الباقية وأن يغضبوا ويروون حكاية
الأب والابن لتبقى دماءهما على علم المجرمين شاهدا عليهم ويريد منهم أيضا أن
يصدوا الرصاص على الآمنين ... ذلك إذن هو نداء محمود درويش الذي أطلقه من ظلمات
القبر الأبدية . لم تدر في مخيلة شاعرنا أي فكرة الوجود في القبر وفق الصورة
التي انطلقنا منها ، سوى أنه مات ولم يرَ العدو وهو يجر أذيال الخيبة والفشل
...
بقيت في عينتنا هذه الشاعرة لميعة عباس عمارة .. تلك الشاعرة .. واكرر القول
هنا ، انها لم تحظَ ََ بما حظي به الآخرون من جيلها . وفي إطار موضوعنا ، يمكن
أن يعد نص لميعة من النصوص التي تقترب ، والى حد كبير ، من هذا الإطار ، دون
وجود حالة الخوف بالمعنى الذي يحدده التعريف لهذه الظاهرة . الا ان السفر في
النص يكشف لنا عن مدى التعاسة والحزن اللذان تعيشهما لميعة . فهي والغربة
صديقان متلازمان . ويمكن القول ان جو الغربة هذا هو الذي يسود مناخ القصيدة .
عنوان القصيدة ( رؤيا ) . تكتب لميعة تعليقا على القصيدة هو " مجرد حلم كتبته
كما هو " إذن القصيدة ليست غير حلم وهي بالتالي ليست رهابا ، فهي تدخل ضمن إطار
الكابوس . تقول لميعة في هذه القصيدة :-
وليس من أهلي و لا أقاربي إنسان
كنت اثنتين : الميتة المسجاة ، والمطلة
تدلت الأكفان عن صدري على حجارة الضريح
يحملن بالزنبيل ما يحملن من طعام
وإذا غطاء قبري صار من زجاج
( عمارة ، مجموعة عراقية ، ص43-46 )
أول ما يلفت انتباه الباحث في المقطع الأول من القصيدة هو أن لميعة ، تحلم انها
قد دفنت بين قبور غريبة على جبل واللافت للنظر ، هو الجبل . وللجبل
رمزيته ، خصوصا عند الصوفية . حيث يرمز الى الامتداد اللانهائي للسماء ، وهو
النقطة الوحيدة والعليا في الفضاء . إنه اصل الكوسموس ( الكون ) . ومع ذلك لا
يشكل سوى نقطة في اللانهاية الإلهية . ويرمز صعود الجبل الى الأوجه العميقة من
الحياة (10 ) . وليس بالمستبعد على لميعة مثل هذا الفهم إذا وضعنا في الاعتبار
خلفيتها وانتمائها الديني الذي يسمح بمثل هذه الرمزية . ومن وجهة نظر فرويد فإن
أحلام الصعود وتسلق السلالم والمرتفعات ترمز الى العلاقة الجنسية ( 11 ) وحتى
لا نقع في التطرف ، هكذا سوف يتصور البعض ، فإننا لا نريد وضع لميعة في إطار
الرمزية الفرويدية . وسوف نأخذ الجبل على أنه رمز للطموح .. الطموح بالتفوق
والامتياز . ومن هنا إحساس لميعة بالاغتراب . انها الآن مدفونة بين قبور غريبة
وفي تربة غريبة ... لميعة تشكو لنا ، انها وهي ميتة ، لم يزرها احد . لا من
أقاربها ولا من أهلها . وحتى انه لم يبكها احد !! . ان لميعة في مأساة .. وهي
في هذا الحلم تنشطر الى اثنتين ؛ الميتة المسجاة ، والمطلة . ان لميعة تراقب
جثتها . وهي هنا مثل أدونيس عندما كان يحلم . وأثناء المراقبة ، وعلى شكل مفاجئ
.. تظهر قطة لتنهش قلب لميعة . واحد من رموز الهرة أو القطة ، خصوصا ذات اللون
الأسود ، هو الشيطان وكانت نعتا للرقاة والسحرة ( 12 ) . إذن ففي ذهن لميعة ،
ان القطة ، ستكون رمزا لعملية العقاب .. الا أن لميعة ، وعلى ما يبدو ، ترفض
هكذا فكرة .. وترجمة هذا الرفض ، يبدو لنا ، في زحزحة لميعة لغطاء القبر الثقيل
. كانت نتيجة هذه الزحزحة تدلي الأكفان عن صدرها واختراق شبحها !! هذا الغطاء
لتكون في الخارج ... ماذا وجدت هناك ؟ وجدت امرأة تحمل طعاما بالزنبيل . من جهة
أخرى وعلى صعيد ظهور القطة في الحلم والكابوس فهي رم لرغبة مؤثرة لامتلاك
الأطفال ( 13 ) . وعناصر الصورة التي تقدمها لنا الشاعرة عناصر معقدة تحتمل
أكثر من تأويل وتفسير . ولكن سياق النص يفرض على الدارس ان يختار واحدا محددا
منها . وعندما تقول لميعة بأن القطة جاءت ونهشت لحمها إنما هو إشارة الى ظهور
الشيطان والاقتراب منها . ولذلك هي تخاف منه ، وانطلقت هاربة وفق ما تتخيل ..
على الأقل . ان ظهور المرأة على هذا الشكل يمكن ان يكون إشارة الى رغبة لميعة
في وجود شخص ما ، ليساعدها على التخلص من هذا المأزق ... اعني نهش الشيطان ...
" القطة " من لحمها . والزنبيل المعبأ بالطعام إنما هو رمز لهذا الإنقاذ . ولكن
لميعة لم تختر رجلا لينقذها من عذاب النهش هذا . بل اختارت امرأة وهذا يعني ان
ثمة جسورا نفسية بينها وبين النساء أقوى وأوثق مما بينها وبين الرجال . ان
الرغبة في التواصل شيئ والقدرة عل إقامة ذلك التواصل شيئ آخر . أن اختيار لميعة
في ان تكون هناك امرأة تنقذها ، يذكرنا برحلتها مع " سافو " بطلة القصيدة التي
تحمل نفس الاسم . وكان هذه القصيدة عبارة عن مشهد رمزي لعلاقة جنسية مثلية ( 14
) الا ان ظهور هذه المرأة هي زمبيلها لم يمكن لميعة من الخلاص .. الا ان من
خلال عملية الصحو الذي قام به جزءها المطل أي المراقب للأحداث . عندها فرت
القطة هاربة لا تلوي على شيئ . وتبقى لميعة في قبرها الذي صار زجاجيا لا مثل
القبور التي من حولها . وأدركت عندئذ انها ليست الا نائمة ووجهها هادئ ترمقه
السماء . ولنلاحظ ان لميعة بدأت القصيدة بالجبل وأنهتها بأن تكون موضوع اهتمام
السماء . ورغبة لميعة هذه بأن من أهل السماء لان القطة لم تتمكن منها . وهكذا
تنهي لميعة رحلة هذه الرؤيا العجيبة .
يأمل الباحث بأن تكون هذه العينة من النصوص مدخلا لدراسة هذه الظاهرة على قطاع
اكبر واشمل على نصوص الشعر العربي بمختلف مراحله التاريخية .
1-
د. عبد الخالق ، احمد محمد ، 1987 ،
قلق الموت ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 111 ، الكويت ، ص 14 .
2-
د. عبد الخالق ، نفس المصدر ، ص 39 .
3-
د. الخولي وليم ، 1976 ،
الموسوعة المختصرة في علم النفس والطب العقلي ، دار المعارف ، مصر ، ص 201 .
4-
فرويد سيجموند ، د.ت ، تفسير الأحلام
، ترجمة : مصطفى صفوان ، دار المعارف ، مصر ، ص 451-453 ، 470- 475 .
5-
بدوي ، نجيب يوسف ، د.ت ، الكابوس ،
مكتبة مصر بالفجالة ، مصر ، ص 172
6-
بدوي ، نفس المصدر، ص 173 .
7-
د. عبد الخالق ، نفس المصدر ، ص 29-30
.
8-
د. الحمداني ، سالم ، 1980 ، ظاهرة
الحزن في شعر نازك الملائكة ، مطابع جامعة الموصل ، العراق ص 38 .
9-
جاسم ، عزيز السيد ، 1990 ، الالتزام
والتصوف في شعر البياتي ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، العراق ، ص 104-105 .
10-
شبل مالك ، 2000 ، معجم الرموز
الإسلامية ، ترجمة ، أنطوان الهاشم ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ص 71 .
11-
أ .فرويد ، سيجموند ، نظرية الأحلام ،
ترجمة : جورج طرابيشي ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 100 .
ب. د. كمال ، علي ، 1990 ، باب النوم والأحلام ، دار واسط للطباعة والنشر ،
بغداد ، العراق ، ط2 ، ص 671
12- سيرينج ، فيليب ، 1992 ، الرموز في الفن – الدين – الحياة ، ترجمة عبد
الهادي عباس ، دار دمشق ، ط1 ، ص 74 .
13- بدوي ، نفس المصدر ، ص 229 .
14- بهنام ، شوقي يوسف ، 2006 ، في حضرة العراف ، قراءة نفسية لمجموعة ( لو
أنبأني العراف ) للشاعرة لميعة عباس عمارة ، الندوة العربية للشعر بتحرير
الشاعر سيد جودة .