نحن في حاجة لأن نسمي العالم الذي نعيش فيه.. ما نراه
ونحسه ونلمسه من الأشياء والأشخاص الذين يحيطون بنا, وما
لا نراه أيضا, لأنه بعيد نسمع عنه ولا نصل إليه, أو
لأنه معني نعقله ولا نبصره, فنطلق عليه وعلي غيره هذه
الأسماء التي تستحضر الغائب, وتقرب البعيد, وتجسد
المجرد, وتختصر الكثير, وتجعل الكل في واحد,
فالأسماء إذن حاجة أساسية من حاجاتنا, لأنها تسمي العالم
وتضعه كله في اللغة.
لكن الأسماء مشكلة من مشكلاتنا أيضا, لأنها قد تضللنا
وتدخل في روعنا أننا حين نمتلك الاسم نمتلك المسمي, وهذه
المشكلة, مشكلتنا مع الأسماء هي موضوع هذا الحديث..
نحن لا نكاد نعرف من الأشياء والأفكار والأشخاص الذين
تمتلئ بهم حياتنا, أو من معظمها, إلا الأسماء التي
تخطر لنا أو تذكر أمامنا فنتذكر ما تشير إليه أو نتخيله
ونتصوره, لا ندري إن كان ما نتصوره حقا أو وهما. بل
نحن أكثر استجابة للوهم نميل إليه ونؤثره علي الحقيقة,
لأن الحقيقة في معظم الأحيان شاقة مرهقة, والوهم خفيف
مريح لا يكلفنا شيئا ولا يرهقنا بعمل. وما علي الخطيب من
هؤلاء الخطباء الذين يبيعون لنا الوهم في هذه الأيام إلا
أن يتحدث عن الماضي الذي نقرؤه بعواطفنا ولا نقرؤه
بعقولنا, فلا ندرك منه إلا الأسماء المهيبة والأعمال
المجيدة, ولا نري المساويء والمخازي التي نراها في
الحاضر. ومن السهل في هذه الحالة أن نعيش في هذا الفردوس
الوهمي ونحلم به ونسعي لإحيائه فلا نصل إلا لمزيد من
التخلف ومزيد من التراجع.
نعم, نحن نتعامل مع الأسماء ومع اللغة عامة كما يتعامل
معها المشعوذون الذين ينفخون في الكلمات ويجعلونها رقي
وتعاويذ يستدعون بها الأرواح الشريرة وغير الشريرة,
فالقول لا الفعل هو المرجع الذي نحتكم إليه. نحول
العقل, والعلم, والحرية, والعدل, والتقدم,
والرخاء إلي كلام نردده ونستغني به عن تحقيقه. فإذا بدا
لنا الواقع أسوأ مما نستطيع احتماله أطلقنا عليه من
الأسماء ما ينسينا حقيقته ويخفف من وقعها علينا, هكذا
ننظر في الأقوال فنراها بعيدة عن الأفعال وربما ناقضتها,
لكننا نعتد في النهاية بما يقال لا بما يحدث, لأننا
نستطيع أن نلقي الغطاء علي ما يحدث ونضرب حوله الحصار,
وأن ننشر ما يقال علي الناس ونذيعه في أوسع نطاق.
والذي يحدث في حياتنا الاجتماعية وحياتنا السياسية يحدث في
حياتنا الثقافية.
نحن نحتاج في الثقافة أيضا إلي الأسماء التي نتعرف بها علي
التيارات الفكرية والظواهر الأدبية والأشكال الفنية.
نحتاج مثلا لأن نقول إن شوقي شاعر كلاسيكي, أو إن نجيب
محفوظ روائي واقعي, وذلك لنستدعي في ذاكرة من يقرأوننا
أو يسمعوننا ما يعرفونه عن الكلاسيكيين الذين تابعوا
القدماء, وعن الواقعيين الذين يستلهمون الواقع.
لكن المشكلة تبدأ حين نجد أنفسنا أمام أكثر من كلاسيكي
وأكثر من واقعي. شوقي وحافظ مثلا, كلاهما تنطبق عليه
التسمية, لكن الفرق كبير بينهما. وعلينا في هذه الحالة
ألا نعتمد علي التسمية اعتمادا كاملا, ونعود إلي
المسمي, أي إلي شعر حافظ وشعر شوقي لنعرفه معرفة
مباشرة, وننظر فيه وجها لوجه, وتلك هي المشكلة, لأن
المعرفة المباشرة تحتاج إلي ثقافة يفتقر إليها الكثيرون
ممن يكتفون بالظاهر, ويؤثرون السهولة, ويرجعون
للتعريفات المختصرة والأسماء الشائعة, ويهملون الواقع
الحي الذي يريدون أن يعرفوه وأن يصفوه.
بعضهم يتشدق بالكلام عن الحداثة كأنه هو الذي اخترعها,
أو كأن الحداثة اكتشاف جديد, أو فكرة مضطهدة تحتاج لمن
يدافع عنها, والحداثة اليوم فكرة راسخة يعترف بها الجميع
عندنا وعند غيرنا من الأمم التي سبقت إليها وتجاوزتها إلي
ما بعدها.
ونحن ننظر اليوم في حياتنا الأدبية والفنية فنجد أن كل شيء
تغير وتطور في ظل هذه الراية التي حققت انتصاراتها الحاسمة
في خمسينيات القرن الماضي وستينياته, فلم يعد هناك من
يقف في وجهها, وإن كان من حقنا طبعا ومن واجبنا أن نختبر
النتائج ونقيم المحصول ونراجع ما قلناه وما فعلناه خلال
الأعوام الخمسين التي مضت علي حركة الشعر الجديد,
والمسرح الحديث, والرواية الواقعية, والنقد
الماركسي, وشعر العامية, وجماعة الفن المعاصر,
وإنشاء فرق الأوبرا, والباليه, والأوركسترا
السيمفوني.
نعم, الذين ثاروا باسم الواقعية علي طه حسين,
والعقاد, وتوفيق الحكيم, ماذا قدموا؟ والذين اعتبروا
أمل دنقل آخر الشعراء الجاهليين, ماذا أبدعوا؟ والذين
مثلوا بعد يوسف وهبي وأمينة رزق وزكي طليمات وحسين رياض
وسناء جميل؟ والذين نحتوا ورسموا بعد مختار, ومحمود
سعيد, وبعد حامد عبدالله, وتحية حليم, وعبدالهادي
الجزار, وحامد ندا؟ والذين غنوا بعد عبدالوهاب, وأم
كلثوم, وفريد الأطرش؟ والذين بحثوا ودرسوا؟ والذين
تفلسفوا.. ماذا أنتجوا؟
لا شك في أننا سنجد فيما أنتجناه تحت راية الحداثة روحا
جديدة وأعمالا باقية, لكن مع غثاء كغثاء السيل جري تحت
هذه الراية نفسها وانتمي زورا إليها.. أليس من حقنا أن
نميز بين حقائق الحداثة وأوهامها؟
وإذا كان الغربيون الذين أنتجوا الحداثة, وسبقوا
إليها, وصدروا ثقافتها لنا يراجعونها اليوم وينقدون
أفكارها ونظرياتها في ضوء الواقع الذي تنبأت به, فلم
تصدق معهم كل نبوءاتها كما يقولون, فمن حقنا نحن أيضا أن
نفعل, لا لكي نخرج من الحداثة أو نرتد عنها أو ننقلب
عليها, ولكن لكي نصحح مسارها. فمازلنا في أشد الحاجة
لعقلانية الحداثة, ودعوتها للتجديد, وإيمانها
بالمستقبل.
لكن الحداثة بالنسبة لمن يتشدقون بالكلام عنها ليست
قضية, وليست سؤالا, وليست تاريخا, وليست إنتاجا
يقيم, وإنما هي اسم. أو هي بالأحري قميص كقميص يوسف أو
قميص عثمان!
وفي النهاية, ماذا نصنع؟ هل نكف عن استخدام الأسماء؟
لا.. لأننا لا نستطيع أن نستغني عن اللغة, وإنما
نستطيع أن نستخدمها في أداء وظيفتها, وهي أن تكون وسيلة
للتعرف علي المسميات, لا أن تكون بديلا عنها!