 يحدثُ
هذا.. وشكراً لفلسفة المصادفة المصادفة
فاطمة ناعوت - مصر
طفلٌ
صغير اسمه محمود. من أسرة رقيقة الحال تسكن أحد الأحياء الشعبية القديمة
بالقاهرة هو ''الدرب الأحمر''. يُفصل الصبيُّ من مدرسته؛ لأنه لم يسدّد
المصروفات. التعليمُ في مصر الملكية لم يكن مجانيًّا في عشرينات القرن
الماضي قبل ثورة يوليو. الأمُّ أطبقت كفَّها حول كفّ صغيرها ومشت به إلى
مطبعة في الحي ليعمل في صفّ الحروف وتجميع الكلمات. سرعان ما يتعلم الصبيُّ
الحرفةَ وتبدأ ملامح مستقبله ترتسم. لكن اعتباطية المصادفات، أو عبثَ
الأقدار، حسب نجيب محفوظ، وربما ذكاءَها وانتقائيتها وتفوقها الحدْسيّ، كان
لها رأيٌ مخالفٌ بشأن محمود، إذ رسمت لمستقبله خطة أخرى. يمرض فؤاد
الأول، ملك مصر آنذاك، بمرض خطير. ثم يُشفى منه بمعجزة ما، أو بمصادفة ما.
فيقرر ذات لحظة كرم مباغتة، أن يدفع مصروفات التعليم لكل فقراء مصر هذا
العام. ويعود الصبيّ محمود إلى مقعد المدرسة ويكمل تعليمه الذي كاد يُحرم
منه. ويدرج في سني الدراسة حتى ينال ليسانس الفلسفة من جامعة فؤاد الأول.
تحدثُ مثل هذه المصادفات لكي تحظى مصر بمفكر كبير ومناضل سياسي رفيع الطراز
اسمه ''محمود أمين العالم''. وهنا، ليس من قبيل المصادفة أن تكون رسالة
الماجستير التي قدّمها بعد تخرجه بعنوان ''فلسفة المصادفة''. وفيها يحاول
أن يربط بين المصادفة الموضوعية من حيث مُدخلاتها الفيزيائية وقانونها
الرياضيّ تبعا لنظرية الاحتمالات، وبين دلالاتها الفلسفية والسوسيولوجية.
لنعيد التفكير، على نحو مغاير، في كل مشهد يحدث أمامنا. ماذا لو أن رجلا
ما، يسير في شارعٍ ما، وتسقط على رأسه شرفة ما، فيموت؟ هل هذه سلسلة
مصادفات؟ أم أن المصادفة هي ألا يسيرَ في الشارع هذا عينه، وألا تسقط
الشرفة عليه عينُها، في اللحظة تلك بعينها؟ حياتنا سلسالٌ من
المصادفات. أو ما نحسبه مصادفات. لنقل إنها ترتيبات عُلوية مُحكمة تأتينا
في ثوب المصادفة، تغيّر من مصائرنا وتعيد ترتيب الأوراق في شجرة الأقدار
البديلة التي ترسم مستقبلنا. مصادفة فانتازية غيّرت مسار حياتي. كانت أمي
تعدّني لدخول كلية الطب مثل شقيقي الوحيد الذي يكبرني. وفي عطلاتي
المدرسية، كان يصحبني معه إلى الكلية لأتعود على جو الطب والمحاضرات. وذات
يوم قال سندخل المشرحة لدراسة ''الكُلى البشرية''. قلتُ لا، أخاف مرأى
الدم، فقال اطمئني لا دم هناك. لا دم!؟ كيف؟ حُكمًا سأرى جثثا ودماءً. سأرى
الموت. لكن المفزعَ أنني لم أر جثة ولا دما. لم أر الموت. رأيت ما هو أبشع.
هو أخي يفتح صندوقا. يمد شوكة معدنية كبيرة ويخرج شيئا لم أتبينه أول
الأمر. ثم قال إنه ''جزع'' امرأة. دون رأس ودون ساقين. وبدأ في فتح الجسد
بالمشرط. لدقائق، كأنها الدهر، أحاول أن أربط بين ما أراه وبين تصوري عن
الجسد البشري فلا أقدر. السيدة نامت في حامض الفورمالين سنوات حتى غابت
عنها معالم البشرية. البشرة متجعدة متغضنة رمادية اللون زرقاء. واكتشفتُ
لأول مرة أن ثمة ما هو أبشع من مرأى الموت. الموتُ القديم. الضارب في
الوقت. وكرهتُ الطبَّ والأطباء. وما شعرت إلا والعالم يدور والأرض تميد تحت
قدمي ولم أفق إلا وأنا في سريري أصرخ في وجه أمي: حوّلي أوراقي من قسم
العلوم إلى الرياضيات! سأدخل الهندسة. وكانت المرة الأولى التي أقول فيها
''لا''. وكتبت قصيدة حول رأس هذه المرأة الذي لم أره أبدا. ولن أراه. الرأس
المنزوع الغائب. الرأس الذي رسم مستقبلي وقرّر لي نوع دراستي. رأسٌ غائبٌ
غير موجود نسخَ ونسفَ قرارات رأس أمي العنيد الصعب! وفي اسكتلندا، جسرٌ
يقطع عرض نهر تاي ويصل بين مدينتيْ فايف وداندي. في 28 ديسمبر/ كانون الأول
العام 1879 ضرب الجسرَ إعصارٌ عنيف وحطمه. وسقط القطار من فوقه ليغوص إلى
الأبد في قاع النهر ويغرق المسافرون جميعهم. إلا واحدا. ظلَّ محتفظا
بتذكرته من إدنبره إلى داندي بعدما فاته القطار لسبب ميتافيزيقيّ غامض!
كارل ماركس. يحدثُ هذا. نعم. يحدث كل يوم. ويحدث أيضا أن تتعطل حواسيبُ
سفينةٍ ما في عرض البحر. ويحدث أن يستدعي طاقمُ المِلاحة مهندسًا خبيرا في
إصلاح هذه الأعطاب. ويحدثُ أن تكون حبيبة الخبير من سكان هذه البلدة. هو لم
يرها منذ سنين لأن الوشاة والعازلين والشُّطار نجحوا في تعكير حبهما.
يحدثُ! ويحدث أن تشعرَ الحبيبة بوجود حبيبها في الجوار. هاتفٌ غامض يخبرها.
فتركض إلى الميناء وتلتقي عيونهما. والباقي يخمّنه القارئُ. هذا المشهد، هل
رأيته في فيلم؟ أم قرأته في رواية؟ أم في حلم؟ أم حدث بالفعل ورأيته رأي
العين؟ ليس مُهّما. المهم أنه حدث. إنها فلسفة المصادفات. |