ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

 فاطمة ناعوتآخرُ مُعتزلةِ هذا الزمان
فاطمة ناعوت - مصر

 أيها الرجلُ كيف حوّلت المحنةَ إلى منحة؟
''الأيام'' كان من أوائل ما قرأتُ، من كتب ذات شأن، في طفولتي وصباي المبكّر. وأذكر أنني كدتُ أرى ذلك الصغيرَ المكفوف البصر بعيني، وألمس وجهه الأسمر بيدي، وأمسّد بأناملي عينيه المقروحتين فيما أمّه تدسّ فيهما بقايا زيت القنديل المقدّس الذي ينير صحن المسجد، علّه ينير حدقتيْ صغيرها المطفأتين. كنتُ أنام إلى جواره في الليل، وألتصق جدا بالحائط وأحكم الغطاء فوق جسدي النحيل وجسده حين أخاف، معه، من عواء الذئب وهزيم الرياح وحفيف الشجر. حيثُ عماؤه يضخم الخوف في قلبه الصغير. وفي قلبي. ويحدثني طه، همسًا، أن هذه الأصواتِ لعفاريتَ تسعى في الحقول تخطف الأطفال. أصدقه وأرتجف. ثم نقرأ سويًّا المعوذتيْن، وسورة يس لنحرق العفريت. ''يس، والقرآن الحكيم، إنكَ لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيلُ العزيز الرحيم، لتُنذر قوما ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون، لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مُقمحون...''. حتى إذا ما وصلنا إلى قوله تعالى: ''فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون.''، يكون العفريتُ قد اندحر وذهب صوته. يطمئن قلبانا. نهدأ وننام. بكيتُ مع كل حزن ألمّ به، وغضبتُ من قسوة عَريف الكُتّاب الذي حفظّنا القرآن. أجمعُ أقماع السكّر لأرشو بها الشيخ المستّبد كيلا يضربه بالفَلَكَة حين يلْحَن في الترتيل أو يخونه الحفظ. فرحت بكل سورة أتقن حفظها ورددتها معه. وعند المساء، أقف خلف باب المندرة أتلصّصُ وأصفّقُ بينما أبوه يدعو أصدقاءه ليستمعوا معه إلى معجزته الصغيرة، الشيخ طه، وقد أتقن تلاوة جزئيْ ''عمّ يتساءلون'' و''تبارك''.
رأيتُ بعيني السياج المعشوشب يتحسسه في طريقــه للبيت بيديه اللتين حلّتا محلّ عينيه المغدورتين. رأيتُ السياج ليس بعيني المبصرتين، بل عبر عينيه العمياوين اللتين لم تكتبا هذه الرواية المذهلة، بل أمْلَتْ على كاتب، صحيح النظر، فكتب ما كتب.
ورغم أن مصر قدّمت للحياة رموزًا بشريةً وحضاريةً فريدة على مر عصورها، يظلُّ طه حسين عندي النموذجَ الأهمَّ والأكثر إثارة للعجب والإعجاب. فرغم عاهته البصرية (أم ترى بسببها؟) كان الأقدرَ على كشف تخوم الحقيقة منذ صباه الأول. ليس صحيحًا أن مدينة النور التي احتضنتْ شبابَه هي التي بذرت فيه نواة النور والشك في المسلّمات الميتافيزيقة التي كثّفت- وتكثّف- حُجُب الظلام فوق مجتمعنا العربيّ. وليس صحيحًا أن أولى تجليّات حسّه النقديّ الرفيع الرافض التغييب ظهرت العام 1926 وحسب في كتابه المثير ''في الشعر الجاهلي''، لكن الشاهدَ أن تمرّده على الظلامية والنقلية كان جزءًا من بنيته الفكرية ومكوّنه الفلسفيّ. تجلّى ذلك مبكرًا جدا وهو بعدُ صبيٌّ صغير في الرابعة عشرة من عمره حين تبرّم بمحاضرات شيوخ الأزهر الاتباعيين الدوجمائيين. كان ذلك في بدايات عهده بالقاهرة التي جاءها أوائل القرن الماضي طالبا الدرس في الأزهر، بوصفه الكفيف الذي لن يستطيع شيئًا إلا حفظ القرآن، وتلاوته على المقابر لقاء بعض القروش وثمرات البلح من المحسنين، على عادة من يختبرهم اللهُ بمحنة كفِّ البصر. لكنه، عوضا عن ذلك، سيدخل الجامعة ويكتب رسالة عن أبي العلاء وينال أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصـــرية لأحد طلابها العام ,1914 ثم يســافر باريس ويكتب رسالته الثانية عن ابن خلدون فينال درجة الدكتوراه الثانية بعد خمس سنوات فقط.
ويراودني سؤال طفوليّ: لو أن طه حسين ، وهو مَن هو في عالم الأدب والفلسفة واللغة، كان وافق على إجراء عملية ترقيع قرنية وصار مبصرا، ثم أمسك ورقة وقلما ليكتب، هل كان سيكتب؟ أم كان سيكتشف فجأة أنه أميٌّ لا يعرف الأبجدية، وهو الذي علمنا كيف نكتب وكيف نقرأ وكيف نفكر.
تقول النظرية العلمية إن بداخل الإنسان طاقة تساوي طاقة ثلاثين قنبلة هيدروجينية. نعطلها بداخلنا ولا نُفعّل إلا أقل القليل منها. فهل فَعّل الرجلُ طاقاتِه كاملةً ليحوّل المحنة إلى منحة، والبلوى إلى نجاح؟ مَنْ مثله حورب ورُمي بالكفر والإلحاد ولم يُكسر؟ مَن مثله تناولته الأحجارُ والأحقاد أينما حطَّ وحيثما ولّى شطرَه فلم يزدد إلا سموقًا وعلوًّا وجَدَّا؟ ومن سواه كتب تصديرا لأحد كتبه: أُهدي كتابي هذا إلى الذين لا يعملون، ويسوؤهم أن يعملَ الآخرون.'' طه حسين آخر معتزلة هذا الزمان كان المبصرَ بين أرتال من العميان.

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا