ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

 فاطمة ناعوتبوابة العَـدَم
فاطمة ناعوت - مصر

 

هبة هواءٍ عاصف تفتحُ بابَ الفصل. فيسألنا معلم الرياضيات: مَنْ دخل الآن؟ فتهتف ''أنْبَهُ'' بنتٍ في الفصل (أنا طبعا) قائلة: ''فاي''! يرمقها الأستاذ جمال مرسي بعتبٍ ويقول: غلط! ويجيب تلميذٌ آخر ''نَبيْه كمان'': صفر يا أستاذ؟ وتتوالى الإجابات الغلط من تلاميذ صف أول متوسط بالمدرسة التجريبية التي شرعت في إدخال ''الرياضيات الحديثة'' بمصر في السبعينات، وسط تخوّف الآباء على أولادهم ظنًّا منهم أن هذا التحديث جعل الرياضيات ألغازا وطلاسم. أما ''فاي''، ويُكتب رياضيا هكذا ؟، فهو ''اللا شيء'' أي ''العدم''. وهو قيمة افتراضية. لذا رفض المعلم إجابتي ''العبقرية'' لأن الذي دخل الفصل هو ''كتلةٌ من الهواء''، يعني ''شيء محدد''. وأما زميلي العبقري الآخر افترض أن ''لا أحد دخل الفصل'' يعني صفرا، لأننا لم نر أحدا يدخل، فوقع في مغالطة اعتباره أن البشر وحدهم قابلون للعد والإحصاء، ولم ينتبه أن الهواء الداخل يحمل ملايين الذرات والإلكترونات.. الخ. بل هو في ذاته مكون من عدة غازات وأبخرة مختلطة، ومن ثم مستحيل أن يكون صفرا. وتعلمنا يومها أن هذا الصفر، الذي نراه ''تافها''، هو رقمٌ ضخم جدا جدا جدا. إذ يسبق عددا لا نهائيا من الأرقام السالبة. فالصفر يتربّع كملك متوّج في منتصف خط الأعداد الذي يمتد يمينا ويسارا بغير انتهاء إلى حيث يشاء الله. أكبر أرقامه (+ ما لانهاية)، وأصغر أرقامه (? ما لانهاية)، وكلاهما رقمٌ افتراضيّ لا وجود له؛ لأنه متناهٍ في الكبر وفي الصغر. مثلما نأتي بحبل طوله متر، ثم نقسمه نصفين كل منهما نصف متر، ونقسم كل نصف إلى ربعي متر، وهكذا بشكل دائم. لن نحصل على الصفر أبدا، بل على قطع من الحبل متناهية القصر؛ لأن الصفر ليس له مضاعفات ولا أجزاء. لو ضربته في/ أو قسمته على رقم تحصل على صفر أيضا. لكن لو قسمت رقما عليه تحصل على قيمة غير متعينة، لا وجود لها في حقل الأعداد الطبيعية ولا المتخيلة. هذه ''الإعجازية'' لرقم الصفر هي التي دعت الفيثاغوريين، نسبة إلى فيثاغورس، إلى احترامه واعتباره أحد مفاتيح ألغاز الكون، حتى لقبوا بـ''عبدة الصفر''. وهي كذلك التي دعت الرياضيين الجدد إلى ابتكار الرمز فاي ؟ للتدليل على العدم أو اللاشيء، لكي يردوا الاعتبار للصفر العظيم الذي هو بوابة العدم، وليس العدم. الصفرُ مفتاحُ العدم. قياسا على ''الصبر مفتاح الفرج''. أعني المفتاح الذي عبره ندلف إلى عالم الأرقام السالبة التي لا نهاية لها. هذه ''اللانهائية'' هي التي بنى عليها السفسطائي العظيم زينون الإيليّ معظم مفارقاته وحججه التي حيّرت المناطقة والرياضيين. إذ تنطوي على سلامة منطقية فلسفية وإن خالفت الظاهرة الفيزيقية المرئية. مثل استحالة أن يسبق أخيلُ السلحفاةَ! فيما أخيل هو أسرع عدّاء إغريقي وصفته الإلياذة بالسريع القدمين. فقط لو بدأ السباق متأخرا عن السلحفاة ولو بمسافة قدرها بوصة واحدة. لأن السلحفاة سوف تترك مكانها قبل وصول أخيل ببرهة من الزمن، وسيكون عليه دائما قطع عدد لا نهائي من المسافات الضئيلة التي قطعتها السلحفاةُ قبله، وبذلك لن يسبقها أبدا منطقيا ورياضيا! وهي إحدى مفارقات زينون الشهيرة التي بناها على نظرية ''المتوالية الحسابية والهندسية''. تلك المفارقات نبهت علماءَ محدثين مثل آينشتين إلى اندماج الزمن والمكان بحيث لا يمكن فصلهما، فغدا الزمنُ بُعدا رابعا للكون وبه يوصف المكان. في حين فصل زينون الزمان عن المكان فذهبت إحدى مفارقاته إلى استحالة حركة جسم من نقطة إلى نقطة بما أن عليه أن يقطع ''عددا لا متناهيا'' من المسافات. وبما أن اللامتناهي لا وجود له، فلا يمكن قطعه في زمن متناه. كذلك بما أن كل جسم ''الآن'' موجودٌ في مكان محدد، فبالتالي هو ساكن، وبما أن الزمن مكون من عدد لا متناه من هذه ''الآنات''، فإذن كل الأجسام ساكنة لا تتحرك! وهنا الفكرة وراء الرسوم المتحركة التي تعتمد على عرض صور ساكنة بشكل متتال متتابع، فنشعر بحركة الأجسام الساكنة أصلا.
المهم، كنتُ أتجوّل في حي ''حدائق القبة'' بالقاهرة وقد أنهيتُ للتو قراءة كتاب ''عبدة الصفر'' للفرنسي آلان نادو. لمحتُ محلا للزهور مكتوبا عليه ''عبدة للزهور الجميلة''. أعجبني الاسم وقلت لابد صاحبه شاعرٌ، إذ آمن أن الزهور لابد لها من محرابٍ للتعبّد. دخلت المحل وصافحت المدير بحرارة وأنا مستبشرة بارتقاء الوعي والذائقة لدى تجّار مصر. وهمستُ باستحياء: ليتكَ فقط تمحو الحرف الزائد (اللام) ليغدو الاسم ''عبدةُ الزهورِ'' بدلا من ''عبدةٌ للزهور''، فخرج معي إلى بوابة المحل ورفع بصره قائلا ''عبده... للزهور الجميلة''، فأنا اسمي ''عبده'' وهذا المحل ملكي! ما لك يا ست سلامة عقلك!''.

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا