 حينما
يتوتر الخيط... قُصّ
فاطمة ناعوت - مصر
كأنها
طائرة. طائرةٌ ورقية طبعا. وصفةٌ مجرّبة عشرات المرات. حينما يتملكك
الحَزَن، أو القنوط، أو تواجهك مشكلةٌ لا حلَّ لها، حين تشعر أن طاقتَك على
وشك النفاد، اهربْ إلى العبث. أقصد الجأ إلى مكتبتك واختر إحدى مسرحيات
صمويل بيكيت أو هارولد بنتر. وسوف ترى النتيجة بعد صفحات قليلة. الحوارات
في المسرحيات العادية؛ الكلاسيك منها والحديث، العربيّ منها والغربيّ؛ تشبه
قطارًا يمشي فوق قضيبين. القطارُ يحكمه منطقُ الوظيفية وينتظمه قانونُ
المرور. القطار يسير من نقطة إلى نقطة في تصاعد دراميّ مع الزمن من محطّة
إلى محطة حتى يصل إلى نقطة النهاية حيث فصل القول. لكن، في مسرح هذين
الصديقين، الأيرلندي (1906- 1989) والإنجليزي (1930) على التوالي، يتحوّر
القطارُ طائرةً. ليس طائرةً معدنية لها خطُّ سيْر محدّد ورحلةٌ مبرمجة سلفا
بالدقيقة والثانية، بل طائرةٌ ورقية في يد طفل. لا قانون لها ولا أفقَ
لتحليقها. لا نقطةَ بدء أو نهايةَ ولا هدفَ منشودًا سوى التحليق الحر
''اللا معقول''. واللا هدف هو في ذاته هدفٌ. هو أجملُ الأهداف حال الكلام
عن الفن (مع الاعتذار لسارتر والتزامه)، وطبعا حال الكلام عن طائرات الورق.
الطائرةُ أثناء حركتها تمارس فوضى إبداعية تتحكم فيها محصلة عدة قوى تتجاذب
وتتصارع. قوى الرياح وضغط الهواء عمود وجاذبية الأرض ومناوشات ذيل الطائرة
المصنوع من قصاصات ورق ملون هو عادة جلادات كراسات الأطفال. رجلان
يلتقيان في ذات المكان كل صباح منذ خمسين عاما. ينتظران شخصا اسمه
''جودو''. لا نعرف لماذا. دأبُهما على الانتظار يوحي بأن لا غنى لهما عنه.
وفي المقابل نفكر: طيب كيف عاشا نصف قرن دونه؟ وتنتهي مسرحية ''في انتظار
جودو'' دون أن يخبرنا بيكيت من هو هذا المنتظَر ولا متى يأتي. ليست
العبقرية فقط في عبثية الفكرة، على عمقها، لكن كلَّ العبقرية في الحوار
العجائبي بين الرجلين. أما هارولد بنتر (نوبل2005) فيضيف إلى عبثية حواراته
عنصر الصمت. الشخوص يصمتون فجأةً صمتا محسوبا، وعبثيا أيضا. هو صمت الطيارة
حين تتوقف فجأة في الهواء لتفكر في حيلة جديدة تغلب بها قوى الجذب التي
تناوشها من كل اتجاه. ثم تعدل بغتةً عن وجهتها وتغيرها إلى اتجاه عبثي
فوضوي جديد. اخترتُ لكم اسكتش ''تلك مشكلتك'' كتبها بنتر العام .1959
رجلان (أ، ب) في حديقة عامة. أحدهما يجلس على العشب والآخر يلهو بمظلته.
أ- انظرْ إلى ذلك الرجل، هو يحمل فوق ظهره صندوق ساندويتشات./ ب- وماذا في
الأمر؟/ أ- الأفضل أن ينزله من فوق ظهره كيلا يصاب بالصداع./ ب- هراء./ أ-
ماذا تعني؟/ ب- لن يصاب بصداع./ أ- بل يصاب، أراهن./ ب- إنها الرقبة!
الثِقَل يؤثر على الرقبة. رقبته ستؤلمه./ أ- ثم يصعد الألمُ إلى الرأس./ أ-
هل حملتَ صندوقا به ساندويتشات من قبل؟/ أ- أبدا./ ب- إذن كيف تعرف مسارَ
الألم؟ (صمت) الألمُ يهبط! يتحرك إلى أسفل، يبتدئ عند الرقبة ثم يهبط
لأسفل، الرقبة ثم في الظهر./ أ- ثم يصيبه صداعٌ في النهاية./ ليس من نهاية.
/ أ- عند المخ./ ب- عند ماذا؟/ أ- المخ./ ب- لا شأن للمخ بهذا./ أ- صحيح؟/
لن يقرب الألمُ المخَّ أبدا./ أ- هذا هو خطؤك./ ب- لست مخطئا بل مصيبا.
(صمت). أنت تتحدث إلى رجل يعرف ما يقوله. (صمت) المخُّ لا شأن له بالأمر.
الألمُ يهبط. الألمُ مختلفٌ عن الحرارة./ أ- ماذا تعني؟/ ب- (بغضب) إذا كان
لديك ألمٌ فإنه يهبط! أما الحرارة فتصعد!/ أ- أنت تقصدُ الصوتَ./ ب- أنا
ماذا؟/ أ- الصوتُ يصعدُ لأعلى./ ب- الصوتُ يذهبُ حيث يشاء! هذا يتوقفُ على
الفضاء، مسألة فيزياء، وهو علمٌ أنت تجهله تماما، عليك فقط أن تحملَ صندوقَ
ساندويتشات لتفهم ما أعني. الرقبةُ ثم الكتفان ثم الظهرُ، ثم يسري الألمُ
إلى الردفين. هذا هو ما يسري إليه الألمُ: الردفان. الردفُ الأيمنُ أو
الأيسر، هذا يعتمد على طريقة الحمل. ثم يهبطُ الألمُ إلى الفخذين، ومنهما
رأسا إلى القدمين، عندئذ يقع الرجل./ أ- لكنه لم يقع./ ب- سوف يقع. بعد
برهة. صداع! كيف يصاب بصداع؟ إنه لا يحمل ثقلا فوق رأسه! أنا مَن أصابه
صداع، (صمت) والمشكلة أنك لا تجيد الإنصات للآخرين. تلك هي مشكلتك./ أ- أنا
أعرف مشكلتي./ ب- بل لا تعرف مشكلتك يا صديقي. تلك هي مشكلتك. لو لم تجد
في مكتبتك أية مسرحية لبنتر أو بيكيت، اصعدْ من فورك إلى سطح البيت وطيّرْ
طيارة ورق. وحينما يتوتّر الخيطُ ستكون طائرتُك قد قطعت من الفضاء ثلاثين
فرسخا. قصّ الخيط. |