ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

 فاطمة ناعوتأنا أندهش إذاً أنا إنسان
فاطمة ناعوت - مصر

 اندهشتُ حين انتبهتُ أن القططَ لا تندهش. لهذا قلتُ: ‘’القطةُ لا تندهشُ/ حين تبصرُ السيدةَ تصفعُ وجهَ الطفلةِ الجميل/ لما كسرتِ الكوبَ/ القططُ لا تقدرُ أن تندهشْ/ لكن تقدرُ أن تتسلّلَ في الليل/ لتخمشَ تلك اليد”.
والأرستقراطية والإيتيكت يقولان لك ‘’لا تندهش’’. فالاندهاشُ بدائيةٌ وقلّة تحضّر. ولم تَرُقْ لي هذه المعلومة أبدا. أدهشتني! فأنتَ حيٌّ بقدر ما تندهش. ولا تتوقف عن الدهشة إلا حينما تعرف. وهل احتوتنا المعرفةُ أو هل نحن احتوينا المعرفةَ؟ كلما ضبطتُ نفسي متلبسةً بحال دهشة أفرح. رغم غيظي من عدم الفهم، أفرح. هو لونٌ من الغيظ المُبهج. مثلما يؤلمنا أحد أضراسنا ألما خفيفا فنجزُّ عليه كي يزيدَ الألمُ قليلا. فنشعر بشيء من اللذة المشوبة بالوجع. هذا الوجع يؤكد لنا أننا نحيا ولم نمت بعد، فنودُّ تأكيدَ الألمِ لتأكيدِ الحياة! أفرحُ بدهشتي لأنها دليلي انني أحيا وأتنفس وأتفاعل مع الوجود. مازالت أمورٌ بديهية، تحدث عشرات المرات في اليوم، تدهشني. أندهشُ كلما رأيت بطنا منتفخا لامرأة بما يشي أن ثمة شيئا ينمو داخلها الآن، وشيك الخروج إنسانا! أندهشُ من القلم يخطُّ رموزا وخطوطا، هي أفكار داخل مخي، وإذ تقعُ عليها عينا شخص آخر يعرف فورًا ما يدور برأسي! ولو فصلتني عنه الأميالُ وربما الدهور! تدهشني الذبابةُ في كابينة القطار تحتفظ بمكانها في الهواء، القطار يجري وهي ثابتة لا تصطدم بجدار الكابينة! تدهشني النملةُ تسير في خمس ثوان ما يوازي طول جسدها ألف مرة! بالقياس، كأنما إنسان يمشي ميلا في بضع ثوان! تدهشني الغيمةُ والمطرُ والنحلةُ والورقةُ والحبُّ والكراهيةُ والموتْ. الميلادُ يدهشني أكثر من الموت. يدهشني الطميُ الأسود الكاحلُ ينشقُّ عن زهرةٍ حمراءَ وورقة خضراءَ! ويجيء العلمُ ليفسدَ عليّ كلَّ متعي. درسُ الكيمياء والفيزياء والأحياء هي ضدٌّ تعسفيٌّ تآمريّ على كل بهجات الدهشة التي أجتهدُ أن أحصلّها. العلمُ عدو الفرح. لأنني سأتعلم أن البذرة تسقط في التربة ويتولد حولها مناخٌ مناسبٌ من رطوبة وأكسجين فتنشقُّ عن جذرٍ ثم ساقٍ ثم براعمَ ثم زهرة! وان مياه المحيطات تتبخر بفعل حرارة الشمس فتصعد إلى الأعلى وتتجمع على هيئة غيمة قد تمطر. ثم لأعرف أن القمر هذا الجميل، الذي طالما ناجيته من شرفتي وحاورتُ أرنبه الأبيض الواقف يدقُّ القمحَ في هون، إن هو إلا كوكبٌ صخريٌّ مظلم يسرق من الشمس نورها فيضيء في غفلة منها حين تنام. تبًّا!
الدهشةُ تعني السؤال، والسؤال يجيب عنه العلم. لكن تبقى أمورٌ لم يحلّها العلم، ومن ثم توجّب اشتقاق لون جديد من العلوم الإنسانية هو الابستيمولوجيا أو نظرية المعرفة، وليس العلم. ليبقى الشاهدُ الذي يظلُّ يذكرنا على الدوام أن العلم قاصرٌ، وسوف يظلُّ قاصرا حتى يبقى العالَمُ لغزًا مُحيّرًا لنا، ونظل نندهش فنثبت، لأنفسنا، أننا بشر. ولهذا يقول هوسرل إن السؤال يبدأ بالرجوع إلى الذات قصد تحطيم المعارف الجاهزة التي يمكنها أن تكون عائقا إبستيمولوجيا ضد مشارفة الحقيقة. فعلى الإنسان أن ينشئ فلسفةً خاصة، قائمة على حدوسه المطلقة. من أجل ذلك رفض فيثاغورس أن يُدعى ‘’حكيما’’ لأن الحكمة تعني امتلاك الحقيقة. ومَن يمتلكُها؟ وفضّل عليها كلمة ‘’فيلسوف’’، وهو محبُّ الحكمة، وليس مالكها. هذا التواضع المعرفيّ، والتوق الدائم إلى التعلّم، هو الذي سيولّد فيما بعد منزع الشك المنهجيّ الذي سيؤسسه ديكارت في القرن السابع عشر. لذلك تبقى الأسئلة أهم من الإجابات عليها، وكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا، كما قال كارل ياسبرس. فاندهاش نيوتن من سقوط التفاحة بدلا من طيرانها في الجو بعدما تحرّرت من غصنها خلق سؤالا. ومن ثم نظرية. فهل كان نيوتن حين اندهش فيلسوفا أم عالما أم شاعرًا؟ عندي أنه كان محض إنسان تحرّر من استعمار اليقين والمُسلّمات وحسب
. من هنا نقدر أن نفهم المنطق التوليديّ للسؤال السقراطي. حين كان سقراط يبادر محاوره بسؤال جدّ بسيط حول أمر شديد البداهة. ثم يتدرج الحوار خطوةً خطوة ‘’ليولّد’’ أسئلةً إشكالية كبرى. فإحساس سقراط بتواضع معرفته (!) جعله يساجل رجال الدولة بحثا عن الحقيقة، محاولا أن يحطم عندهم ذلك الاعتقاد الدوجمائي بامتلاك اليقين. فلاقى ما لاقى. من الرائع أن نتحرر من الوثوقية والجاهزية والمفروضية والبداهة. ونستسلم للذة الدهشة. حيث لا شيء بديهيًّا فوق الأرض. كل شيء يصلح أن يكون محلّ سؤال. ومحل دهشة من ثم. حتى قبسة الهواء التي تدخل رئتي الآن لكي أحيا لدقيقة قادمة. هل حقًّا القطةُ لا تندهش؟

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا