ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

 فاطمة ناعوت«يا قمــر عــلى دارتنــا»
فاطمة ناعوت - مصر

 في مثل هذه الأيام الخريفية الجميلة، التي تقف على الخط المراوغ بين الصيف بخيوطه الصفراء الحادة، والشتاء بخيوطه الرمادية الطويلة، قررتِ السماءُ أن تمنح الأرضَ، التي أغرقها الحَزَنُ والانكساراتُ والحروب، هديةً عذبةً. كان ذلك قبل اثنين وسبعين عاما حين نقطةُ نور سقطت فوق كوكبنا النبيل المُطرق على أحزانه فانتبه، ولاح فوق وجهه ظلُّ ابتسامة. هذه فيروز، غيمةُ القَطْر العذب التي مرّت فوق صحارينا العطشى فبللت حلقَها. وفيروز ليست وحسب دُرّةَ رأس المثلث الساحر: الصوتُ النقي والكلمةُ الرفيعة والموسيقى التي لا تشبه إلا نفسها، هي شيءٌ أبعدُ من ذلك بكثير. إنها ظاهرةٌ عابرة للأزمنة والجغرافيا وما نحن إلا أجيالٌ محظوظة واكبتْها. صوتُها هو القادرُ الأوحد على أن يشعرك، سيما إن كنت شاعرًا وتراود الحرف، بعجز اللغة، كلّ لغة، عن الإفصاح. فطاقةُ الصوت لديها وطبقاتُه وعمقُه وموسيقاه الخبيئة بين تضاعيفه تقول أكثر مما تقول الكلماتُ التي يحملها هذا الصوت، حتى ولو كانت كلمات جوزيف حرب أو جبران أو الأخطل الصغير أو أحمد شوقي. يفهم كلامي، الخلوَ من المبالغة، كلُّ من تعوّد أن يبدأ صباحه بصوتها من أجل أن يراهن على نهارٍ عذب سيبتسم فيه المارةُ لبعضهم البعض من دون سبب سوى المحبة، ويقدّم فيه كلُّ إنسان الآخرَ على نفسه لكي يمرَّ قبله في الطرقات، ويحمل فيه كلُّ إنسان وردةً ليلقيها على أول ما سيصادفه في الصباح! هل غدت هذه طرفات؟ هل المحبةُ والابتسام والرحمة أصعب جدًّا من العنف والتجهم والتطاحن؟ كيف سمحنا لأنفسنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه من فقر في الروح وافتقار للحب وقدرة على الإيذاء وقد عاصرنا فيروز؟! حينما منحتني السماءُ طفلي مازن، كنت أتركه في غرفته مع صوت فيروز وأراهنُ أن تراكم هذا السلوك كفيلٌ أن يصنع منه في مقبل الأيام كائنًا راقيًا رفيع الروح. إذ أؤمن أن بصوتها طاقةً ما، بوسعها أن تنقّي الروحَ من شوائبها وغبارها. طاقةٌ تضع الإنسانَ في صلاة دائمة. وإلا ما سرُّ تغيّر مِزاجنا بعد سماع أغنية لفيروز؟ أزعم أن من تعود الاستماع إليها يظلّ طفلا لا يشيخ. ‘’سيكبر خارج الزمن’’ مثلما قال صلاح عبد الصبور عن حبيبته. ذاك أنها تقول لي الآن: ‘’تعا تا نتخبى من درب الأعمار، وإذا هِنِ كبروا نحن بقينا صغار، سألونا وين كنتو؟ وليش ما كبرتو انتو؟ وبنقلون نسينا؟ واللي نادى الناس تا يكبروا الناس، راح ونسي ينادينا!!’’
ذلك لونٌ من الفن الرفيع الذي يهذّبُ النفسَ. فلا يجوز لإنسان تربى عليه أن يحقد أو يكره أو يسفَّ في القول أو الفعل وهي التي تقول له كل أصيل: ‘’لأجلكِ يا مدينة الصلاة أصلي، عيوننا إليكِ ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانقُ الكنائسَ القديمة وتمسحُ الحزنَ عن المساجد، يا ليلةَ الإسراء يا درب من مروا إلى السماء، عيونُنا إليك ترحلُ كلَّ يوم، وإنني أصلي، الطفلُ في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان، لأجل مَنْ تشردوا؟ لأجل أطفال بلا منازل، لأجل مَنْ دافعا واستُشهدا في المداخل؟ واستشهد السلام في وطن السلام وسقط العدل على المداخل’’
وردةٌ لعيدك يا ‘’قمر على دارتنا’’ لكيلا ننسى أن شيئًا حلوًا وعذبًا واكب زماننا وأن الحياةَ جميلةٌ وتستحق أن تُعاش رغم كل ما يحدث. كيف نقبض على هذه اللحظة، نحن الذين اتفق لنا أن نعاصرها؟ كيف نعمل على ‘’تجميد’’ لحظة ‘’الجمال’’ هذه قبل أن تمرّ؟ إذ كيف لنا أن نمرّرَ هبةً سماوية من دون أن نحتفي بها ونحمي وجودَها كيلا تدعسَها مراراتُ الحياة والأنظمة مثلما دعست كلَّ جميلٍ ونقيٍّ في حياتنا؟ كيف لا نسرّب لأجيالٍ تلينا رسالةً تقول إننا كنا واعين أن غيمةً عذبةً مرّت من هنا، فرفعنا رؤوسنا عاليًا ولوحّنا لها بأكفّنا؟
ألم تقدم لنا فيروز لمحاتٍ من الجمال والالتزام كثيرةً كما فعل جيفارا وجان دارك وعبد القادر الجزائريّ والأم تريزا وغاندي وعمر المختار ومارتن لوثر كينج؟ مَنْ مثل فيروز بلوّر داخلنا فكرة ‘’العودة’’ إلى الأرض المستلبة؟ من مثلها أبكانا على القدس وبذر فينا اليقين بعودتها ذات وعد؟ أيُّ شيء مثل صوتها ظلَّ يهتف بالوطن: أنْ عُدْ؟ حتى لكأن الوطنَ يرفض أن يعود كيلا يتوقفَ صدحُها عن الوعد بحُلمٍ طال انتظاره.
وردة لك في عيد ميلادك أيتها الجميلة الـ ‘’سمرا يا أم عيون وساع’’.

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا