أنا
الأديبُ الألْمَعيُّ مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوصِلِ
فاطمة ناعوت - مصر
البحور
الخليلية التي كانت تنتظم قصائد الشعراء العموديين، كانت، بوصفها قالبا
مُقيّدًا للشاعر، تمنحه بعض الميزات، مثلما تسلبه شيئا من حريّة التحليق في أفق
الكلمة. أولى المزايا سهولةُ الحفظ كونها على تفعيلات محددّة سلفا، وقافية.
بينما يصعب على الشاعر الجديد أن يستدعي قصيدته من الذاكرة كونها جنحت عن
القانون المنتظم للساكن والمتحرك. كذلك يسّرَ الشعراءُ القدامى على أنفسهم
قليلا بابتكار الزحافات والعلل، بل وبعض الإجازات اللغوية مثل تنوين الممنوع من
الصرف حتى ينتظم الوزن العروضي. التقيتُ مرة شاعرا يكتب قصيدة النثر وقد صرف
ممنوعا بقوله: دخلتُ (حدائقًا) غنّاء. فسألتُه: لماذا لم تقل ‘’حدائقَ’’؟ فقال:
العرب أجازوا صرفها. فقلتُ له: تأدّبْ يا صاحبي، كانت عليهم قيودٌ أجازت لهم ما
لا يُجازُ لنا وقد تحررّنا من العروض، أما آن للقصيدة الجديدة أن تعيد
الأجرومية النحوية، على الأقل، إلى جادتِها؟ فغضب مني.
وتفنّن العرب بالفعل في قصائدهم وفي تغريبها. مثلما جمع امرؤ القيس في بيت واحد
متواليةَ أفعال في قوله: ‘’أفادَ وجادَ وسادَ وزادَ/ وذادَ وفادَ وعادَ
وأفضل’’. ونلحظ أن كل كلمة في ذاتها هي جملة مفيدة من فعل وفاعل (أفاد هو- وجاد
هو، الخ). ثم جاء المتنبي بالأعجب حين حشد أربعة عشر فعل أمر في بيت: ‘’أقِلْ
أنِلْ اِحملْ سَلْ أعِدْ/ زِدْ هِشْ بِشْ تفضلْ أدنِ سُرّ صِلْ’’. ولما بلغه أن
الناس تعجبت زادهم عجبا ونظم بيتا من أربعة وعشرين فعل أمر: ‘’عِشْ ابْقِ
اِسْمُ سُدْ قُدْ جُدْ مُرْ إنهِ رِ فِ اِسْرْ نُلْ/ غُظْ اِرْمِ صِبْ احمِ
اغزِ أسبِ رِعْ زِعْ دِ لِ اثنِ نِل’’. ولكل فعل أمر مما سبق معنى سليمٌ ومنطقي
يحثّ على طيب الخصال جميلها فمثلا ‘’لِ’’ تعني كن واليًا على الناس بالعدل،
‘’فِ’’ يعني كن وفيًّا، ‘’دِ’’ كن كريما واحمل الديات لأتباعك، الخ. وإن كانت
من مزايا العمود، بالنسبة إلى الشاعر، سهولة الحفظ والاسترجاع من الذاكرة، فإن
حكاية الأصمعي مع أبي جعفر المنصور تنقض هذه الظاهرة. أبو سعيد الأصمعي الشاعر
العباسيّ الذي كُنيّ بشيطان الشعر، وراوية العرب، قال عنه الأخفش: ما رأينا
أحدا أعلم بالشعر منه، وقيل في رثائه: ‘’لا دَرَّ دَرُّ نباتِ الأرضِ إذ
فُجِعَت/ بالأصمعيِّ لقد أبقتْ لنا أسفا/ عِشْ ما بدا لك في الدنيا فلست ترى/
في الناس منه ولا في علمه خَلفا’’. كان الخليفة المنصور يحاول حفظ أموال الدولة
التي كانت تُغدق على الشعراء بغير حساب فسنّ قانونا ألا يُجزى إلا الشاعر الذي
يأتي بقصيدة لا قِبل بحفظها. لو أتى بها شاعر أخذ زنةَ ما كُتبت عليه ذهبا.
وكان يحفظ الشعر بمجرد سماعه مرة، ولديه غلام يحفظه من مرتين، وجارية من ثلاث.
فكان يستعيد القصيدة رأسا بعد سماعها من الشاعر، ثم يعيدها الغلامُ وقد سمعها
مرتين، من الشاعر ومن الخليفة، ثم الجارية بعد سماعها ثلاث مرات، بإضافة
استظهار الغلام. حزن الشعراءُ فما كان من الأصمعي، وكان من ندماء الخليفة، إلا
أن تنكّر في زي إعرابي رث الهيئة مشوش الشعر ملثّم ودخل على الخليفة وقرأ
قصيدته: ‘’صَوتُ صفيرِ البُلبُلِ هَيَّجَ قلبي الثَّمِل/الماءُ والزّهرُ معاً
مَعْ زَهرِ لَحْظِ المُوقَلِ/ وأنتَ يا سيِّدَلي وسيِّدي ومَوْلَى لِي/ فَكَمْ
فَكَمْ تَيَمُّني غُزَيِّلٌ عَقَيْقَلي/ قَطَّفتَهُ مِنْ وَجْنَةٍ مِنْ لَثْمِ
وَرْدِ الخَجَلِ/ فقالَ لا لا، لا لا لا فَقَدْ غَدا مُهَرْوِلِ/ والخُوذُ
مالَت طَّرَبَنْ مِنْ فِعْلِ هذا الرَجُلِ/ فَوَلْوَلتْ وَوَلوَلَتْ وَلي وَلي
ياوَيْلَلي/ فَقُلتُ لا تُوَلْوِلي وبَيِّني اللُؤْلُؤَ لي/ قالتْ لَهُ حينَ
كذا انهَضْ وجِدْ بالنُّقَلي/ وَفِتْيَةٍ سَقَوْنَني قَهْوَةً كَالعَسَلَ لِي/
شَمَمْتُها بِأَنَفي أَزْكى مِنَ القَرَنْفُل/ في وَسْطِ بُسْتانٍ حُلي
بالزَّهْرِ والسُرُورُ لي/ والعُودُ دَنْدَنْ دَنَا لي والطَّبْلُ طَبْطَبْ
طَبَ لي/ طَبْ طَبِطَبْ طَبْ طَبِطَبْ طَبْ طَبِطَبْ طَبْطَبَ لي/ والسَّقْفُ
سَق سَقْ سَقَ لي والرَّقْصُ قَدْ طابَ لي/ شَوى شَوى وشاهِشُ على وَرَقْ
سِفَرجَلي/ وغَرَدَ القِمْر يَصيحُ مَلَلٍ في مَلَلِ/ وَلَوْ تَراني راكِباً
على حِمارٍ أهْزَلِ/ يَمْشي على ثلاثَةٍ كَمَشْيَةِ العَرَنجِل/ والناسْ
تَرْجِمْ جَمَلي في السُوقْ بالقُلْقُلَلِ/ والكُلُّ كَعْكَعْ كَعِكَعْ خَلْفي
وَمِنْ حُوَيْلَلي/ لكِنْ مَشَيتُ هارِباً مِن خَشْيَةِ العَقَنْقِلي/ إلى
لِقاءِ مَلِكٍ مُعَظَّمٍ مُبَجَّلٍ/ يَأْمُرُني بِخَلْعَةٍ حَمراءْ كالدَّم
دَمَلي/ أَجُرُّ فيها ماشِياً مُبَغْدِداً للذِّيَلِ/ أنا الأديبُ الألْمَعي
مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوصِلِ/ نَظِمْتُ قِطْعاً زُخْرِفَت يَعْجزُ عَنْها
الأدْمُلِ/ أَقُولُ في مَطْلَعِها صَوْتُ صَفيرِ البُلْبُلِ’’.
أسقط في يد المنصور وأخفق في حفظها فقال هاتِ أوراقك نَزِنُها لك ذهبا، فقال
الأصمعي: لم يكن لدي أوراق فنحتُّها على عمود رخاميّ ورثته عن أبي، يحمله
بالخارج أربعةُ رجال وناقة. وأفرغ خزانة الدولة في جيبه.