 أنا
أنتظر إذن أنا موجود
فاطمة ناعوت - مصر
لا
أحبُّ الانتظار. لكنني أنتظر. أنتَ أيضا تنتظر. كلُّنا ينتظر. الإنسانُ
عموما يحيا حال انتظار دائمة لشيء ما. ماديّ: كتاب، حبيب غائب، خطاب، فلوس،
ابن ضال، أو حتى تنتظر أن ترفع الطعام من على الموقد. أو معنويّ: لقاء،
سفر، ترقية، نجاح، عدالة، ديموقراطية، ميلاد أو حتى موت. حتى من سيزعم أنه
الآن ''في هذه اللحظة بعينها'' لا ينتظر شيئا، هو واهم، لأنه في الواقع
ينتظر أن ينتظر شيئا. يعني ينتظر ''الانتظار''. الموتى وحدهم لا ينتظرون.
أحقا؟ من يدري؟ ربما ينتظرون. حال الانتظار والترقّب تلك، السلبيُّ منه
أو الإيجابيّ، هي دليلُنا على أننا نحيا، وهي ما يمنحنا الشغف بالأشياء. أو
حتى الرهبة منها. والشغف والرهبة والتوجّس والقلق والترقّب كلها مشاعرُ
حتميةٌ وصحيّة لانتظام الحياة وجوديًّا، على مستوى الروح؛ وبيولوجيا على
مستوى الجسد. وبينما يمارسُ البشرُ الحياةَ فيما ينتظرون، نجد أن ثمة بشرًا
آخرين يؤجلون حياتهم انتظارا لهذا الذي سوف يأتي. أو لا يأتي. يرهنون
أعمارهم ولا يفعلون سوى الانتظار، إن كان يُفعل. عبّر عن هؤلاء البشر صمويل
بيكيت في مسرحيته الفاتنة ''في انتظار جودو''، التي صُنِّفت نقديا ضمن مسرح
العبث أو اللامعقول أو Absurd. رجلان لا يجمع بينهما سوى أنهما ينتظران
شخصا اسمه جودو سوف يحل لهما كل أزماتهما. لن نعرف أبدا طبيعة تلك الأزمات،
ولا كيف سيحلها، ولا مدى صلاحيات المدعو جودو الذي ليس إلا شخصية افتراضية
لا تطأ خشبة المسرح أبدا إلا عبر اسمها المكرور على لساني استراجون
وفلاديمير اللذيْن ينتظرانه منذ نصف قرن دون يأس ودون ملل. لا، ثمة ملل
ينتابهما لكنهما يتحايلان عليه بثرثرة مفككة تنحو نحوا سرياليا كوميديا.
وهو أجمل ما يميز أدب بيكيت من حيث تصدّع البنية وعبثية الحوار وانهيار
هيكل الحبكة الدرامية، إذ لا حبكة أصلا ثمة ولا دراما تسير في خط متنامٍ
تصاعديّ شأن المسرح الأرسطيّ، بل ينحو ''الحكي'' نحوا دائريا ''عبثيًّا''
مفرّغا لا يؤدي إلى معنى. واللا معنى هو معنى في ذاته دون ريب. ومن هنا كان
مسمى ''مسرح العبث''. لكن الفكرة من ورائه عميقة على المستوى الفنيّ
والمضمونيّ على السواء. إذ تشير إلى عجز اللغة، كلّ لغة، عن التعبير الكامل
الحقيقي عما يمور داخل النفس البشرية من أفكار ومشاعر. يأتي الرجلان إذًا
كل يوم، منذ خمسين عاما من مطلع الشمس وحتى غروبها، إلى ذات البقعة
الجرداء، إلا من شجرة يفكران كثيرا في شنق نفسيهما عليها ولا ينفذان
قرارهما أبدا. يثرثران بتافه الكلام، وينتظران. يسأل أحدهما الآخر: ماذا
نفعل الآن؟ فيجيب الآخر: ننتظر./ هيا نمضي! / لا نستطيع! / لماذا؟/ لأننا
ننتظر جودو/ آه. / إنه لم يقل إنه سوف يأتي على وجه اليقين./ وإذا لم يأت
اليوم؟ / سوف نحضر إلى هنا في الغد./ ثم بعد غد. عشرات المدلولات
والرموز يمكننا أن نُحِلّها محلّ جودو المنقذ المنتظَر أبدا. حتى وإن خلا
السرد من أي دليل على وجوده اللهم عدا الغلام الذي يأتي ليخبر المنتظريْن
أن جودو قادمٌ غدا. هذا الغد لا يأتي بدوره أبدا. على أن الانتظار تحوّل
إلى هدف وحياة. لا حياة خارجها. (رغم أنهما عاشا نصف قرن دونه!). يختلف
هذا اللون من الانتظار السلبي الذي طرحه بيكيت عن الانتظار الذي طرحه
قسطنطين كفافيس في قصيدة ''في انتظار البرابرة''. ليس وحسب في كون البرابرة
عدوا مخيفا عكس جودو رمز الخلاص. لكن الأهم هو في اختلاف طبيعة الانتظار
ذاته وهو ما يهمنا هنا. انتظار استراجون وفلاديمير سلبيّ، فيما انتظار سكان
المدينة إيجابيّ وإن لم يخل من كوميديا وعبث أيضا. القومُ محتشدون في
الأسواق، ومجلس الشيوخ توقف عن العمل مترقبا، والإمبراطور صحا من نومه
مبكرا على غير عادته وارتدى أجمل ثيابه وازدان القناصل والجند بالصولجانات
وتقلّدوا الجواهر والذهب. لماذا؟ لأن البرابرة قادمون اليوم. الكل خائف
ومرتعب والحكومة تتأهب لهذا العدو الشرس منتويةً أن تسلّم إليه القيادة
كاملةً من دون قيد أو شرط. وفجأة تكتسي الوجوه بالوجوم. لماذا؟ لأن
البرابرة لم يجيئوا كما هددوا. وكأن الشعب التعس ينتظر عدوا ''مجهولا''، كي
ينجو من عدو ''معلوم''. هو النظام. حتى أن السطر الأخير من القصيدة يقول:
''ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كانوا حلاً من الحلول''. ولأننا ننتظر
أحدًا طوال الوقت، نحزن حين لا ينتظرنا أحدٌ. لذلك تقول فيروز: ''قديش كان
في ناس/ ع المفرق تنطر ناس/ وتشتي الدني ويحملوا شمسية / وأنا بأيام الصحو
ما حدا نطرني!'' |