شاعران
في وجه العاصفة
رجاء
النقاش - مصر
كلما قرأت قصيدة لشاعرنا
الكبير أحمد عبد المعطي حجازي وجدتني أتخيل أو أتذكر شخصية المتنبي الذي يعتبره
الكثيرون ــ وأنا منهم ــ أهم وأكبر شاعر بين شعراء العرب القدماء وكان اقتناعي
يزداد مع الأيام بأن حجازي بينه وبين المتنبي صلة روحية وثيقة, وهذه الصلة تتركز
كما أظن في صفة أساسية مشتركة يتمتع بها الشاعران معا هي صفة التحدي ولا اعني
بالتحدي ما قد تشير إليه هذه الكلمة من العناد والمكابرة في وجه الحياة والناس,
وإنما أعني بالتحدي تلك القوة المعنوية الكبيرة التي تجعل الإنسان قادرا علي احتمال
الظروف الصعبة والتجارب العسيرة, وذلك دون الانحناء أو التفريط في الكرامة, وفي
احترام النفس والاعتزاز بها, والشاعران معا لا يملكان من سلاح سوي الموهبة القوية
التي يواجهان بها المتاعب والمصاعب والوقوف منها جميعا موقف التحدي لها والصبر
عليها, فالشاعران ليسا من أصحاب السلطان, وليسا من أهل المال والثراء, ولا
يوجد عندهما سوي الموهبة الشعرية العالية التي تتفجر بالنار والنور.
بدأ المتنبي حياته متهما بأنه قد ادعي انه نبي جديد وليس عند المسلمين من نبي بعد
محمد عليه الصلاة والسلام, وإذا كان المتنبي قد ادعي أنه نبي فهو يستحق ما جري له
من السجن, وقد تاب بعد ذلك وخرج من سجنه, ولولا هذه التوبة لبقي في السجن, بل
ربما يكون قد تم اعدامه بتهمة الكفر والارتداد عن الاسلام, والباحثون المؤرخون لم
يصلوا إلي رأي قاطع في حقيقة التهمة التي تم توجيهها إلي المتنبي, ولكن التهمة
التصقت به فأصبح معروفا باسم المتنبي أي مدعي النبوة, وبالطبع فإن اسمه الأصلي
هو: أبو الطيب أحمد بن الحسين.
قد لا يعرف الكثيرون أن شاعرنا أحمد حجازي قد تعرض لتهمة مشابهة لما تعرض له
المتنبي في بداية حياته, وأعني بذلك تهمة الإساءة إلي المقدسات الدينية, وقد
أدت هذه التهمة إلي مصادرة ديوان حجازي مدينة بلا قلب الذي ظهرت طبعته الأولي
سنة1959 علي أن هذه المصادرة لم تستمر طويلا, فقد تدخل عدد من الادباء لإلغاء
قرار المصادرة, خاصة أن الديوان كان مطبوعا في بيروت وليس في القاهرة, وكان من
بين الذين بذلوا جهدا مؤثرا لإلغاء قرار المصادرة الأديب الكبير الراحل يوسف
السباعي, ومن حقه أن نذكر له هذا الموقف الكريم.
لكن لماذا صودر ديوان حجازي؟
السبب هو اتهام الشاعر الكبير بأن في شعره مساسا بالمقدسات الدينية, فقد جاء في
مقدمة الديوان التي كان من حظي أن أكتبها بيتان لحجازي يوحيان بأنه يتطاول علي بعض
المقدسات, وكنت قد وجدت هذين البيتين في كشكول قديم مخطوط يتضمن بعض القصائد
الأولي للشاعر, فاستشهدت ــ بحسن نية كاملة ــ بهذين البيتين علي ما يتميز به
حجازي منذ بداياته الأولي من نزعة قوية في التمرد والرغبة في التحرر من القيود,
ولكن المتربصين بحركات التجديد في الشعر والفكر اصطادوا البيتين وخرجوا منهما
باتهام للشاعر في عقيدته وبأنه يتطاول علي المقدسات.
هكذا بدأ المتنبي حياته باتهام له في دينه وعقيدته, وتعرض حجازي أيضا في بدايته
لما يشبه هذه التهمة الباطلة, وتفسيري لذلك هو أن الشاعرين معا بدأ حياتهما
بالتحدي للواقع الذي يعيشان فيه ويعانيان منه أشد المعاناة, والتحدي يغري بالتعدي
علي اصحابه بتهمة مفتعلة يمكنها أن توقفهم عند حدهم إن أمكن ذلك لأن الذي يتحدي علي
اساس من الكرامة والرفض للهوان هو صاحب شخصية قوية فيها متانة وصلابة وصبر علي
الشدائد, ومثل هذه الشخصية تخلق اعداءها منذ اول لحظة لظهورها علي مسرح الحياة,
وأقرب تهمة لإلحاق الأذي بالشخصيات القوية وخاصة في مجال الفكر والأدب والفن هي
الطعن في العقيدة الدينية لهذه الشخصيات.
الحمد لله أن المتنبي نجا من عقوبة التهمة التي ألقيت عليه بأنه ادعي النبوة,
ولولا نجاته لأطيح برأسه وخسر الشعر العربي سيدا من سادته وأميرا من اعظم امرائه.
والحمد لله أيضا أن شاعرنا حجازي نجا في بداية حياته من تهمة مشابهة, وإن كانت
اخف بكثير من تهمة المتنبي, والحقيقة أنه لم يصل إلي علمنا مطلقا, ولو عن طريق
الشائعات,أن أحمد حجازي قد ادعي النبوة والعياذ بالله, وكان الاتهام الموجه إلي
شاعرنا المعاصر متوقفا عند حد الشك في بعض الأبيات التي قد تنطوي علي مشاغبات ضد
المقدسات.
علي أن قراءة قصائد حجازي من المحبين له ولاشعاره مثلي كثيرا ما تؤدي إلي استحضار
صورة المتنبي كطيف يرفرف بجناحيه الجبارين في عالم حجازي الشعري, وما نجده من
تشابه هنا هو تشابه في موقف الشاعرين من الحياة, وهو موقف التحدي الشجاع الكريم
في وجه الصعوبات والعقبات والمنغصات.
يقول حجازي في رثائه لأحد أحبائه:
استرح يا طبيبي
إن دائي الإقامة
ودوائي السفر
تلك هي صورة من رؤية حجازي الشعرية وتجربته الروحية, فهو يريد أن يتحرك وأن يتخلص
من أي ركود أو جمود, وأن ينطلق في معارك الحياة بلا قيود, فالإقامة ركود والسفر
حركة وتجدد وحياة.
هذه الرؤية الشعرية الروحية هي نفسها ما نجده عند المتنبي في قصيدته الشهيرة التي
كتبها, وهو مقيم في مصر عندما أصابته الحمي حيث يقول:
يقول لي الطبيب أكلت شيئا
وداؤك في الشراب أو الطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
والجمام هنا هي الاستجمام والراحة والإقامة الطويلة في مكان واحد, والمتنبي يري
أن داءه هو هذه الاقامة الطويلة, وأن شفاءه هو الحركة والسفر والتنقل بين تجارب
الحياة الواسعة, والتجربة التي يعبر عنها الشاعران متشابهة, وكلامي هنا لا
يحتمل أي تحريف له قد يعني أن حجازي نقل تجربته الشعرية من شاعر آخر, فموهبة
حجازي فوق أي اتهام من هذا النوع.
هناك قصيدة أخري لأحمد حجازي هي دفاع عن الكلمة وهي ــ في تقديري ــ صورة عصرية حية
وبديعة مشابهة لتجربة المتنبي في آخر قصيدة له في بلاط سيف الدولة والتشابه في
الموقف والتجرية الروحية يسبق التشابه الفني في القصيدتين, فالشاعران معا يشعران
بالخطر, وبأن هناك محاولة عنيفة للنيل منهما ومما يؤمنان به من عقائد وأفكار,
والشاعران لا يملكان من أسلحة الدفاع سوي موهبتهما وثقتهما بهذه الموهبة, وعلي
هذا الاساس ينبغي ان نفهم ما في القصيدتين من الإحساس بالكرامة وعزة النفس والتحدي
لكل المتربصين, ولذلك فإن الخطأ أن يقال إن في القصيدتين غرورا من الشاعرين غير
جميل, فالمتنبي يقول في قصيدته التي ألقاها وسط اعدائه وحساده والكارهين له:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعي به قدم
ويقول:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ويقول:
أنا الذي نظر الأعمي إلي أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وفي قصيدته الرائعة دفاع عن الكلمة يقول حجازي في بدايتها:
فرسي لا يكبو
وحسامي قاطع
وأنا ألج الحلبة
مختالا, ألج الحلبة, أثني عطفي
أتلاعب بالسيف
لا أرتجف أمام الفرسان
ثم يواصل حجازي عزفه الشعري العسكري البديع:
أنا أصغر فرسان الكلمة
لكني سوف أزاحم من علمني لعب السيف
من علمني تلوين الحرف
.................
لن يأخذني الخوف
فأنا الأصغر, لم أعرف بعد
مصاحبة الأمراء
لم أتعلم خلق الندماء
لم أبع الكلمة بالذهب اللألاء
ما جردت السيف علي اصحابي
فرسان الكلمة
لم أخلع لقب الفارس يوما
فوق أمير أبكم!
وتمتد هذه القصيدة الخطيرة لترسم ميثاقا للشرف بين الشعراء بل بين الناس جميعا حيث
نقرأ:
أنا في صف المخلص من أي ديانة
يتعبد في الجامع أو في الشارع
ونقرأ:
أنا في صف المخلص مهما أخطأ
فالكلمة بحر يركب سبعين مساء
حتي يلد اللؤلؤ
أنا في صف التائب
مهما كان الذنب عظيما
فطريق الكلمة محفوف بالشهوات
والقابض في هذا العصر
علي كلمته
كالممسك بالجمرة
والقصيدة كلها علي هذا المستوي الرفيع من الفن الإنساني العظيم ويمكن العودة إليها
كاملة, بسحرها وفتنتها في ديوان حجازي الأول مدينة بلا قلب.
(نقلاً عن جريدة الأهرام)
|