حين يكون الشعر , والفن
عموماً , استجابة لحاجات خارجية , فإنه يتصف بالزيف , وبالنفاق الفني والأخلاقي ,
تغلب عليه الصنعة والافتعال , ويفتقد الرونق والنداوة وماء الفن .... . صنيع أولئك
الذين يستنفرون أقلامهم وأوراقهم لإنجاز نص يشاركون به في مناسبة من المناسبات
الاجتماعية أو السياسية ..... حتى لا تفوتهم فرصة , ولا يخرجون من المولد بلا حمّص
( كما يقول المثل) ... هذا إذا كان الشاعر موهوباً , أما غير الموهوبين فأكثر من
الهم على القلب , وإن ازداد الشعور بهم أيام المواسم والمراسم ؟!
والشعر , والفن عموماً , ليس رخيصاً إلى الدرجة التي
تجعله في متناول الجميع , إنتاجاً وتذوقاً , يستهلكونه بصورة مجانية دون أن يكونوا
على استعداد لبذل الجهد الثقافي الذي يتطلبه الدخول في عوالم الشعر( والفن ) ....
وإن كنت لا أجرؤ على القول بنخبوية الشعر والفن , مع أنهما نخبويان , لأنهما موجهان
إلى الذين أعدوا إعداداً خاصاً ليحسنوا تلقيهما وتذوقهما .... فإنني أجرؤ على قول
يكاد أن يكون مكافئاً وأزعم بأن الشعر رسالة خاصة إلى نفوس خاصة ( والعبارة مأخوذة
بتصرف من مقدمة ¯ أغاني القبة ¯ لخير الدين الأسدي).
وإذا كنت , في زاويتيْ رؤى السابقتين قد أكدت ضرورة
الضوابط والقواعد والصنعة ... للشعر , إلى جانب الموهبة والطبع والسليقة المواتية ,
فقد ظن بعض الأصدقاء أنني أقدم التقنية على العفوية ... وهذا ما لم أرده وما لا
أومن به , الذي أردته هو القول مع من قال : لا فن دون ضوابط , فضوابط الشعر
وتقنياته الخاصة هي التي تميزه من سواه من الأجناس الأدبية الأخرى , ينطلق منها
ويعود إليها , دون أن يعني ذلك أن الشاعر إنما ينتج نصوصه انصياعاً لتلك الضوابط
والتقنيات المستقرة فحسب , لأنه إن فعل ذلك يبقى في أفق التابع , والتابع من طبيعته
أن يبقى في الخلف , متأخراً عمّن سبقه .... فالشعر ليس ذاكرة تجتر تجارب المتقدمين
وتعيد ترتيبها وتنظيمها فحسب , وإنما هو تأسيس لذاكرة جديدة أيضاً . والشعر ليس
رؤية محكومة بالسائد من القيم , وليس وعياً ( وإرادة واعية ) فقط ..... إنه , إلى
جانب ذلك , وقبل ذلك في كثير من الحالات , رؤيا .. وحلم .. وتوق إلى الانعتاق ..
وطموح .. ولاوعي ( وإن كان لا وعياً واعياً إن صحت العبارة ) ... وحسب شهادة الشاعر
العراقي الصديق ( سامي مهدي ) فإن الشعر وحي وإلهام وجنون من جهة , ووعي وإرادة
وصناعة من جهة ثانية .
والقصيدة الجيدة , كما اللوحة الجيدة ,قادرة على
إخفاء أسرار صنعتها , وتسعى إلى تقديم نفسها بوصفها لوحة فنية وليس بوصفها فضاء
مزجت فيه مواد وألوان بهذه النسبة أو تلك ... فتذوق اللوحة والاستمتاع بها شيء ,
أما تحليلها لمعرفة طبيعة المواد الأولية التي صنعت منها فشيء آخر مختلف تماماً ...
التذوق فن .. ونقد واع .. وإعادة إنتاج .. يستند إلى إحساس مرهف قادر على التقاط
التوهج والإبداع ... أما التحليل فنوع من الطب الشرعي الذي يمارس على الجثث ,
غالباً , لمعرفة أسباب الوفاة وأدوات الجريمة .... تذوق اللوحة , أو القصيدة , يعني
القدرة على العيش , ولو للحظات , حيث أرادت لك تلك اللوحة أو القصيدة أن تعيش , أو
حيث اقترحت عليك أن تعيش , أو حيث فتحت لك كوة من التوهم والخيال الذي قد يصحبك إلى
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؟؟؟!!!
والشاعر حين يبني قصيدته , ويشكلها بالصورة التي
يعرضها بها على الناس , كصاقل الماس , فكما أن الماسة المصقولة على يد صناع ماهر لا
أثر فيها للأدوات التي استخدمت في عملية الصقل لنقلها من الحالة الخام إلى الحالة
التي هي عليها .... أو كالنحات الفنان الذي لا يترك على تمثاله أي أثر من ضربات
الإزميل بعد أن حول هذا التمثال من حجر غشيم إلى شكل أو تكوين يضج بالجمال ونكاد أن
نسمع منه ما أراد له الفنان أن يقول ؟؟!!
الشاعر , والفنان , عندما ينتج القصيدة , أو الأثر
الفني , إنما ينتجه وفق إرادة واعية , أو نتيجة وعي كامل بإرادته وأهدافه ... مع
الحرص على تمويه هذا الوعي ( وهذه الإرادة الواعية ) ليترك للمتلقي فرصة تذوق هذا
الأثر وفق إرادته ومستوى تحصيله وتأهيله ....
وهكذا يتحول الأثر الفني إلى ميدان لصراع الإرادات ,
أو لسجال الإرادات , أو لتكامل الإرادات ......أعني إرادة الفنان أو الشاعر وإرادات
المتلقين .
وإذا استعرت مصطلحي ( القاع والشكل ) من نظرية (
الجشطلت ) في علم النفس أستطيع القول : إن القاع في الشعر , وفي الفنون عموماً , هو
الصنعة والتقنية ... وكما أن الشكل ذا الحضور القوي والطاغي لا يدع فرصة لبروز
القاع , ولا يكون ثمة شيء سوى الشكل والشكل وحده , وأعني بالشكل هنا الفن ( أو
الشعر الصافي .. في حالة الشعر ) , حيث لا يشغلك القاع ولا يلهيك ولا يشوش عليك ولا
يقاسم الشكل الحق في الوجود , مما يوقعك , إن حدث ذلك , كمتلق , في اللبس , والغموض
الناجم عن حضور القاع بصورة تضارع وجود الشكل , ( وثمة تجارب يعرفها المبتدئون في
دراسة علم النفس يكون حضور القاع فيها قوياً مما يجعله يتبادل مع الشكل الأدوار ,
فيتحول القاع إلى شكل والشكل إلى قاع , في عملية خداع بصري مضنية , وهذا أمر مربك
ومرهق ما لم يكن مقصوداً بحد ذاته ) .
ما أردت قوله إلى الآن يتلخص في أن الصنعة موجودة في
كل إنتاج فني , لكنها يجب أن تبقى كقاع لهذا الإنتاج , أي أن تتنحى عن مشاغلة
المتلقي رغم وجودها .... ففي حالة الشعر ينبغي أن يشعر المتلقي أنه في حضرة الشعر
فحسب , لا في حضرة البحر العروضي الفلاني أو التفعيلة الفلانية أو الإيقاع الفلاني
....لأن النص الذي يشغلك بتقنيات الشعر عن الشعر نفسه نص ضعيف , حتى وإن خلا من
الضرورات الشعرية .. إنه تدريب على الشعر , وتمارين في الشعر .... ولكنه ليس شعراً
. إنه تصنيع للشعر وليس الشعر الصافي الذي سكن في إهابٍ فنيٍ جميل ٍ.. دون أن تكون
لدى هذا الإهاب الرغبة في مشاغلة القارئ وصرفه عن روح الشعر. .
وأخيراً أقول : لا شعر دون تقنية .. ولا شكل دون قاع
... ولكن حذار .. فقد تكون ثمة تقنية ولا يكون ثمة شعر ... وقد يكون ثمة قاع ولاشيء
إلا القاع .