محمود
أمين العالم
فاروق شوشة - مصر
عن ستة وثمانين عاما رحل محمود أمين العالم. ليس عن واحد وثمانين أو سبعة وثمانين
كما ذكرت بعض الصحف, ولم يكن قط صاحب أعمال مسرحية كما قيل عنه أيضا. رأيته
وسمعته لأول مرة في منتصف الخمسينيات ـ عندما جاء إلي كليتنا ـ كلية دار العلوم
ومعه الناقد أنور المعدواي للتحكيم في مسابقة للقصة القصيرة بين المبدعين من شباب
الكلية, وهي المسابقة التي فاز فيها الطالب أبوالمعاطي أبوالنجا بالجائزة الأولي
عن قصته البديعة' الآخرون', التي كانت الطاقة الأولي في سجل إنجازه القصصي
والروائي الذي أصبح بفضله في طليعة كتاب القصة الكبار. وقتها, كان محمود أمين
العالم يبشر بالمدرسة الواقعية في الكتابة, ويقدم مفاهيمه النقدية الأولي المعبرة
عن الواقعية الاشتراكية.
ثم رأيته وحاورته بعد ذلك بعام وأنا أعمل مع الصديق مسعود أحمد ـ الطالب بكلية الطب
ـ في إصدار مجلة جامعة القاهرة وكنت رئيسا للجنة الثقافية باتحاد طلبة الجامعة
ومسئولا عن المجلة. ذهبنا أنا ومسعود إلي محمود أمين العالم في دار روز اليوسف
القديمة, وحاورته حول منهجه في النقد الأدبي ورأيه في نقاد الجيل. وأذكر أن
رأيه في رجاء النقاش ـ الذي كان قد بدأ يلفت الانتباه برسائله الأدبية التي تنشرها
مجلة' الأدب' البيروتية كل شهر باعتباره مراسلا لها ـ كان قاسيا بدرجة أزعجت
رجاء حين قال عنه إنه ناقد تحكمه' الذاتية' وإنه في طريقه إلي النضج
والموضوعية. ويبدو أن الاتهام بـ'الذاتية' كان مصير النقاد الذين لايؤمنون
بالفكر الماركسي, ولا بمفاهيم الواقعية الاشتراكية. وخلال الحوار دق التليفون
وكانت المتحدثة الإنسانة العظيمة والإعلامية الرائدة سميرة الكيلاني ـ شريكة حياة
الناقد والمفكر الكبير تشكو إليه من شقاوة ابنتها الوحيدة' شهرت' ـ التي أصبحت
الآن الدكتورة شهرت العالم ـ وكانت وقتها علي ما يبدو في عامها الأول, وكانت
المكالمة فرصة للكشف عن بالغ حنوه وأبوته وحنانه وعن الجانب الإنساني الأصيل فيه.
كانت كتابات محمود أمين العالم تظهره في صورة القادر علي الجدل والإقناع المزود
بالعدة الحقيقية لأي كاتب أو مفكر أو ناقد, من معرفة عميقة شاملة وحس نقدي
جارف, وانضواء تام لقضية الجماهير والطبقات الدنيا من المجتمع. لكن معرفته عن
كثب كانت تكشف فيه عن كائن شديد الرقة والعذوبة والصفاء والحنو, مؤنس للنفس
والعقل, يجيد المجاملة, ويصدر دوما عن لغة عفة شديدة التهذيب مهما كانت حدة ما
يقول وقسوته. كان صاحب رسالة ومهمة وطنية وهم إنساني كبير, وكان مناضلا
بطبيعته, رافضا لكل صور العسف والإذلال والكبت, بالرغم من إبعاده عن الجامعة
بعد حصوله علي الماجستير عن رسالة عنوانها' فلسفة المصادفة', والتهيؤ من بعدها
للعمل في الدكتوراه, ثم معاناته معتقلا سياسيا طيلة عدة سنوات إبان العصر
الناصري, وهجرته إلي فرنسا سنوات طويلة هربا من العسف السياسي في مصر, والغريب
أن هذا كله لم يفقده حماسه لعبدالناصر وإيمانه بزعامته ووطنيته ودفاعه عنه وعن ثورة
يوليو في كل مناسبة. ولقد كان كتابه المشترك مع شريكه الفكري الناقد والمفكر
الدكتور عبدالعظيم أنيس' في الثقافة المصرية' في منتصف الخمسينيات يمثل زلزالا
نقديا عصف بكثير من الموازين النقدية والقيم المتداولة, وتبشيرا بفكر جديد ورؤي
نقدية جديدة.
ومند منتصف الخمسينيات واسماهما معا, عنوان علي مدرسة جديدة دخلت في معارك فكرية
ونقدية مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين, الذي كان يعلق علي كتاباتها
بأنها' يوناني لايقرأ'. كان العالم وأنيس يستخدمان لغة جديدة, لها معجمها
ومصطلحاتها البعيدة كل البعد عن المتداول في ساحة الحياة الثقافية والأدبية. من
هنا كان هجوم أنيس علي نجيب محفوظ باعتباره معبرا عن الطبقة الوسطي البورجوازية
وليس عن طبقة البروليتاريا الكادحة من العمال. وكان كتاب' في أزمة الثقافة
المصرية' لرجاء النقاش بعد كتابهما بعدة سنوات أبلغ رد يتصف بنظرة إنسانية وجودية
شاملة دون وقوع في أسر نظرية معينة, والوقوف عند تطبيقاتها الحرفية. لكن العالم
يعود فيخص نجيب محفوظ بعد ذلك بعقود من الزمان ـ بكتاب بديع عن عبقرية نجيب محفوظ
وعظمته الروائية, ودراسات أخري كاشفة عن رحابة منهجه النقدي ورؤاه المتسعة لما
كان يضيق به في شبابه إبان انغماسه في الإيديولوجية, وعصمته دراسته للمنطق
والفلسفة من الزلل أو الوقوع في التناقض, فظل طيلة سنوات عمره, وفي كل
كتاباته, محافظا علي جوهر المفكر الطليعي فيه, والناقد الموسوعي السباق إلي
المتابعة والاكتشاف قبل أن يلحق به القادمون علي الطريق من بعده بسنوات, يقرأ
مالم يقرأوه بعد, ويعرف مالم يصل إليه علمهم بعد, ويقودهم في حدب وأبوة وحنو
إلي فضاءات أرحب ومدارات أبعد, رائدا من رواد التنوير والفكر الموضوعي الحر.
لا أنسي ليلة كنت فيها همزة الوصل بينه وبين الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل,
وكان كل منهما يتطلع إلي لقاء الآخر ويحمل له محبة وتقديرا كبيرا, وفي بيت'
العالم', استمر اللقاء ساعات طويلة, وكل منهما يسمع الآخر من شعره. ولم أندهش
لسابق معرفتي بالبدايات الأولي للعالم شاعرا طليعيا مجددا ينشر قصائده الجديدة
الروح والنفس واللغة والإيقاع في مجلة' البشير' التي كان يرأس تحريرها بدر
الديب.
وعندما ذكرته بقصيدته' لا ولا''neithernor' هكذا كان اسمها في المجلة العربية
والإنجليزية, دهش وأنا أطلب إليه إلقاء بعض مقاطعها, ومازلت أذكر منها:
وأدركت أني علي قمتي أعاني الحريق ولا أحترق/ فلا أنا جاوزت ذاك المدي/ ولا أنا
شارفت ذاك الآفق/ بروحي لغاي, وفي قمتي, صداي/ وصوت دمي المختنق, وهو شعر
ينبض بروح جديدة متوثبة, سرت في كل كتابات العالم الشعرية والنثرية, وظلت دائما
وراء استبصاره النافذ لكثير من أسرار النصوص الشعرية التي تعامل معها بوعي شامل
وحساسية عالية لأن الشاعرية فيه عصمته من الشكلية والدوران حول النصوص عاجزا عن
اقتحامها واستكناه بنيتها كما يفعل غيره وهم كثيرون. والحديث موصول.
الأهرام
|