شجرة القمر
نازك
الملائكة - العراق
[ قصة أهدتها
الشاعرة إلي ابنتها (ميسون) عندما كانت فى سن الحادية عشرة ]
من ديوان "شجرة القمر"،
1986
على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ
|
وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ
|
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ
|
وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ
|
هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ
|
إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ
|
ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ
|
ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ
|
وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ
|
وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ
|
وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ
|
ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ
|
وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ
|
يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ
|
ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ
|
وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ
|
وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ
|
على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ
|
وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا
|
أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى
|
وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ
|
خفيفَ الخُطَى، عاريَ القدمين، مَشُوقَ الدماءْ
|
وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ
|
وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ
|
وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ
|
وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ
|
وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ
|
ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ
|
وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما
|
على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما
|
... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ
|
وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ
|
وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ، بكأس النعومهْ
|
بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ
|
وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ
|
أذلكَ حُلْمٌ؟ وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ؟
|
وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ
|
وكلّلَهُ بالأغاني، بعيْنيهِ، بالزّنْبقِ
|
وفي القريةِ الجبليّةِ، في حَلَقات السّمَرْ
|
وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: "أين القمر؟!"
|
"وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجن؟"
|
"وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلن؟"
|
ونادت صبايا الجبالِ جميعًا "نُريدُ القَمَرْ!"
|
فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: "نُريدُ القَمَرْ"
|
"مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا"
|
"وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا"
|
"مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ"
|
"وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ"
|
"يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ"
|
"ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ"
|
"ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر؟"
|
"ومَنْ ذا يرقّقُ ألحانن؟ مَن يغذّي السّمَرْ؟"
|
ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ
|
فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ
|
وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ
|
ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ
|
وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ
|
ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: "نُريدُ القَمَرْ"
|
وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ
|
إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ
|
وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ
|
وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ
|
وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ
|
ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ
|
وهزَّ السكونَ وصاحَ: "لماذا سَرَقْت القَمَرْ؟"
|
فجُنّ المَسَاءُ ونادى: "وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ؟"
|
وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ
|
ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: "لن يأخذوك؟"
|
وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ
|
فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ
|
وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ
|
ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ
|
ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ
|
وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ
|
ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ
|
ويهدمُ ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور
|
وأين سيهرُبُ؟ أين يخبّئ هذا الجبينْ؟
|
ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين؟
|
وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ
|
وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ؟
|
ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ
|
تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ
|
وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ
|
ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ، وأينَ المفرْ؟
|
وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ
|
بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ
|
وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ
|
وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ
|
تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ
|
فماذا رأو؟ أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ!
|
فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ
|
وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ
|
جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ
|
وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ
|
ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ
|
وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ
|
وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ؟
|
ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى؟ ثمّ... أينَ القَمَرْ؟
|
وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ
|
عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ؟
|
أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ
|
وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ؟
|
أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ؟
|
وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ؟
|
أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها
|
سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها
|
لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ
|
وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي
|
وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ
|
يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ
|
يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ
|
يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ
|
ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ
|
ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ
|
وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ
|
يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ
|
وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ
|
فماذا رأى؟ يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ!
|
هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ، حيثُ الصباحْ
|
تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ
|
هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ
|
جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ
|
رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ
|
وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ
|
وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ
|
وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ
|
وأثماره؟ أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ
|
لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ
|
وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ
|
فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ
|
فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ؟ أيّ تُرْبهْ
|
سقتْها الجمالَ المفضَّضَ؟ أي ينابيعَ عذْبَهْ؟
|
وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ
|
جميعً؟ فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ
|
ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون
|
حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون
|
وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ
|
وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ
|
وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ
|
وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ
|
يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ
|
وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ
|
وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ
|
يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ
|
[ 1952 ]
|