
إرادة الحياة
أبو القاسم الشابي - تونس
إذا الشـــعبُ
يومًــا أراد الحيــاة |
فــلا بــدّ أن
يســتجيب القــدرْ |
ولا بــــدَّ
لليـــل أن ينجـــلي |
ولا بــــدّ
للقيـــد أن ينكســـرْ |
ومــن لــم
يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة |
تبخَّـــرَ فــي
جوِّهــا واندثــرْ |
فــويل لمــن لــم
تَشُــقهُ الحيـا |
ة مــن صفْعــة
العــدَم المنتصـرْ |
كـــذلك قــالت
لــيَ الكائنــاتُ |
وحـــدثني
روحُهـــا المســـتترْ |
*****
ودمــدمتِ
الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج |
وفــوق الجبــال
وتحـت الشـجرْ: |
إذا مـــا طمحــتُ
إلــى غايــةٍ |
ركــبتُ المُنــى,
ونسِـيت الحـذرْ |
ولــم أتجــنَّب
وعــورَ الشِّـعاب |
ولا كُبَّـــةَ
اللّهَـــب المســـتعرْ |
ومــن لا يحــبُّ
صعـودَ الجبـال |
يعش أبَــدَ
الدهــر بيــن الحــفرْ |
فعجَّــتْ بقلبــي
دمــاءُ الشـباب |
وضجَّــت بصـدري
ريـاحٌ أخَـرْ... |
وأطـرقتُ, أصغـي
لقصـف الرعـودِ |
وعــزفِ
الريــاحِ, ووقـعِ المطـرْ |
*****
وقـالت لـي الأرضُ
- لمـا سـألت: |
أيــا أمُّ هــل
تكــرهين البشــرْ? |
أُبــارك فـي
النـاس أهـلَ الطمـوح |
ومــن يســتلذُّ
ركــوبَ الخــطرْ |
وألْعــنُ مــن لا
يماشــي الزمـانَ |
ويقنـــع
بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ |
هــو الكــونُ
حـيٌّ, يحـبُّ الحيـاة |
ويحــتقر
المَيْــتَ, مهمــا كــبُرْ |
فـلا الأفْـق
يحـضن ميْـتَ الطيـورِ |
ولا النحــلُ
يلثــم ميْــتَ الزهـرْ |
ولــولا أمُومــةُ
قلبِــي الــرّؤوم |
لَمَــا ضمّــتِ
الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ |
فــويلٌ لمــن
لــم تشُــقه الحيـا |
ة, مِــن لعنــة
العــدم المنتصِـرْ! |
*****
وفــي ليلــة مـن
ليـالي الخـريف |
مثقَّلـــةٍ
بالأســـى, والضجـــرْ |
ســكرتُ بهـا مـن
ضيـاء النجـوم |
وغنَّيْــتُ
للحُــزْن حــتى ســكرْ |
سـألتُ الدُّجـى:
هـل تُعيـد الحيـاةُ, |
لمـــا أذبلتــه,
ربيــعَ العمــرْ? |
فلـــم تتكـــلّم
شــفاه الظــلام |
ولــم تــترنَّمْ
عــذارى السَّــحَرْ |
وقــال لــيَ
الغــابُ فــي رقَّـةٍ |
مُحَبَّبَـــةٍ
مثــل خــفْق الوتــرْ: |
يجــئ الشــتاءُ,
شــتاء الضبـاب |
شــتاء الثلــوج,
شــتاء المطــرْ |
فينطفــئُ
السِّـحرُ, سـحرُ الغصـونِ |
وســحرُ
الزهــورِ, وسـحرُ الثمـرْ |
وســحرُ السـماءِ,
الشـجيُّ, الـوديعُ |
وســحرُ المـروجِ,
الشـهيُّ, العطِـرْ |
وتهـــوِي
الغصــونُ, وأوراقُهــا |
وأزهــارُ عهــدٍ
حــبيبٍ نضِــرْ |
وتلهــو بهـا
الـريحُ فـي كـل وادٍ, |
ويدفنُهَــا
الســيلُ, أنَّــى عــبرْ |
ويفنــى الجــميعُ
كحُــلْمٍ بــديعٍ, |
تـــألّق فـــي
مهجــةٍ واندثــرْ |
وتبقــى
البــذورُ, التــي حُـمِّلَتْ |
ذخــيرةَ عُمْــرٍ
جــميلٍ, غَــبَرْ |
وذكــرى فصــولٍ,
ورؤيـا حيـاةٍ, |
وأشــباحَ دنيــا,
تلاشــتْ زُمَـرْ |
معانقــةً - وهـي
تحـت الضبـابِ, |
وتحــت الثلـوجِ,
وتحـت المَـدَرْ - |
لِطَيْــفِ
الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّ |
وقلــبِ الــربيعِ
الشــذيِّ الخـضِرْ |
وحالمـــةً
بأغـــاني الطيـــورِ |
وعِطْــرِ
الزهــورِ, وطَعـمِ الثمـرْ |
*****
ويمشـي الزمـانُ,
فتنمـو صـروفٌ, |
وتــذوِي صــروفٌ,
وتحيـا أُخَـرْ |
وتُصبِـــحُ
أحلامُهـــا يقظَـــةً, |
مُوَشَّـــحةً
بغمـــوضِ السَّــحَرْ |
تُســائل: أيــن
ضبـابُ الصبـاحِ, |
وسِــحْرُ
المسـاء? وضـوء القمـرْ? |
وأســرابُ ذاك
الفَــراشِ الأنيــق? |
ونحــلٌ يغنِّــي,
وغيــمٌ يمــرْ? |
وأيـــن
الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ? |
وأيــن الحيــاةُ
التــي أنتظــرْ? |
ظمِئـتُ إلـى النـور,
فـوق الغصونِ! |
ظمِئـتُ إلـى
الظـلِ تحـت الشـجرْ! |
ظمِئـتُ إلـى
النَّبْـعِ, بيـن المـروجِ, |
يغنِّــي, ويــرقص
فـوقَ الزّهَـرْ! |
ظمِئــتُ إلــى
نَغَمــاتِ الطيـورِ, |
وهَمْسِ
النّســيمِ, ولحــنِ المطــرْ |
ظمِئـتُ إلـى
الكـونِ! أيـن الوجـودُ |
وأنَّـــى أرى
العــالَمَ المنتظــرْ? |
هـو الكـونُ, خـلف
سُـباتِ الجـمودِ |
وفـــي أُفــقِ
اليقظــاتِ الكُــبَرْ |
*****
ومـــا هــو إلا
كخــفقِ الجنــا |
حِ حــتى نمــا
شــوقُها وانتصـرْ |
فصَـــدّعت الأرضَ
مــن فوقهــا |
وأبْصــرتِ
الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ |
وجـــاء
الـــربيعُ, بأنغامِـــه, |
وأحلامِـــه,
وصِبـــاه العطِــرْ |
وقبَّلهـــا
قُبَـــلاً فــي الشــفاهِ |
تعيــدُ الشــبابَ
الــذي قـد غَـبَرْ |
وقــال لهــا: قـد
مُنِحْـتِ الحيـاةَ |
وخُــلِّدْتِ فــي
نســلكِ المُدّخَــرْ |
وبـــاركَكِ
النُّـــورُ, فاســتقبلي |
شــبابَ الحيــاةِ
وخِــصْبَ العُمـرْ |
ومَــن تعبــدُ
النــورَ أحلامُــه, |
يُبَارِكُـــهُ
النّــورُ أنّــى ظهــرْ |
إليــكِ
الفضــاءَ, إليــكِ الضيـاءَ |
إليــك الــثرى,
الحـالمَ, المزدهـرْ! |
إليــكِ الجمــالَ
الــذي لا يَبيــدُ! |
إليــكِ الوجـودَ,
الرحـيبَ, النضِـرْ! |
فميـدي - كمـا
شئتِ - فوق الحقولِ, |
بحــلوِ الثمــارِ
وغــضِّ الزّهَــرْ |
ونــاجي
النســيمَ, ونـاجي الغيـومَ, |
ونــاجي
النجــومَ, ونـاجي القمـرْ |
ونـــاجي
الحيـــاةَ وأشــواقَها, |
وفتنــةَ هــذا
الوجــود الأغــرْ |
*****
وشـفَّ الدجـى عـن
جمـالٍ عميـقٍ, |
يشُــبُّ
الخيــالَ, ويُــذكي الفِكَـرْ |
ومُــدّ عـلى
الكـون سِـحرٌ غـريبٌ |
يُصَرّفــــه
ســـاحرٌ مقتـــدرْ |
وضـاءت شـموعُ
النجـومِ الوِضـاءِ, |
وضــاع
البَخُــورُ, بخـورُ الزّهَـرْ |
ورفــرف روحٌ,
غــريبُ الجمـال |
بأجنحــةٍ مــن
ضيــاء القمــرْ |
ورنَّ نشـــيدُ
الحيـــاةِ المقـــدّ |
سُ فــي هيكـلٍ,
حـالمٍ, قـد سُـحِرْ |
وأعْلِــنَ فــي
الكـون: أنّ الطمـوحَ |
لهيـــبُ
الحيــاةِ, ورُوحُ الظفَــرْ |
إذا طمحـــتْ
للحيـــاةِ النفــوسُ |
فــلا بــدّ أنْ
يســتجيبَ القــدرْ! |
[ 16 سبتمبر / أيلول 1933 ، 26 جمادى الأولى 1352
]
|