
الجنة الضائعة
أبو القاسم الشابي - تونس
كَـــــمْ من
عُهودٍ عذبةٍ في عَدْو |
فِضِّيّـةِ
الأسحار مُذْهَبَةِ الأصائل والبكورْ |
كــــــــانت أرقّ
من الزهور, |
وألــــــذّ من
سحر الصِّبا في بَ |
قضيّتُها ومعي
الحبيبةُ لا رقيب ولا نذيرْ |
إلاّ الطفولة
حولنا تلهو مع الحُبِّ الصغيرْ |
أيـام كانت للحياة
حلاوة الروض المطيرْ |
وطهـارةُ المــوج
الجميــل, وسِ |
ووداعة العصفور,
بين جداول الماء النميرْ |
أيامَ لم نَعرف من
الدُّنيا سوى مَرَحِ السُّرورْ |
وتَتَبُّعِ
النَّحْل الأنيق وقَطْفِ تيجان الزهورْ |
وتسلُّقِ الجبلِ
المكلّل بالصّنَوْبَر والصخورْ |
وبناءِ أكواخِ
الطفولة تحت أعشاش الطيورْ |
مســـــــقوفةً
بالورد, والأعش |
نبني, فتهدمها
الرياحُ, فلا نضجُّ ولا نثورْ |
ونعودُ نضحكُ
للمروج, وللزنابقِ, والغديرْ |
ونخــــاطبُ
الأصداءَ, وهي تَرِفُّ |
ونعيد أغنية
السواقي, وهي تلغو بالخريرْ |
ونَظَــــــــلُّ
نركض خلف أسراب |
ونمــــــرُّ ما
بين المروج الخ |
نشـــــــــدو,
ونرقصُ - كالبلابلِ |
ونظل ننثرُ للفضاء
الرّحْبِ, والنهرِ الكبيرْ |
ما في فؤادَيْنا
من الأحلام, أو حُلْوِ الغرورْ |
ونَشِــــــيدُ في
الأُفق المخضّب |
أزهـــــى من
الشفَقِ الجميل, وروْنق |
وأجلَّ من هذا
الوجودِ, وكلِّ أمجادِ الدهورْ |
أبـدًا,
تُدلِّلُهـا الحياةُ بكلِّ أنواعِ السرورْ
|
وتبــــــثُّ فينا
من مراحِ الكون |
فنســـــــيرُ,
نَنْشُد لهوَنا المبعو |
ونظل نعبث بالجليل
من الوجود, وبالحقيرْ: |
- بالسائل الأعمى
وبالمعتوه, والشيخِ الكبيرْ |
بالقطة البيضاءِ,
بالشاة الوديعة, بالحميرْ |
بالعشب, بالفنن
المنوِّر, بالسنابل, بالسَّفيرْ |
بــــــــالرَّمْلِ, بالصخر المحطَّم, |
واللهْــــــو,
والعبَثُ البريءُ, الحلو |
ونظل نقفز, أو
نُثَرْثِرُ أو نغنِّي, أو ندورْ |
لا نسأم اللهوَ
الجميلَ, وليس يدركنا الفتورْ |
فكأنّنـا نحيا
بأعصابٍ من المَرحِ المُثِيرْ |
وكأننـا نمشـي
بـأقدامٍ مجنَّحـةٍ, تطيرْ |
أيـام كنـا لُبَّ
هذا الكون, والباقي قشورْ |
أيـام تفرشُ
سُبْلنا الدنيا بأوراق الزهورْ |
وتمـرُّ أيـامُ
الحياة بنا, كأسراب الطُّيورْ |
بيضـاء لاعبـةً,
مُغـرِّدةً مجنَّحةً بنورْ |
وتُرَفْرف
الأفراحُ فوق رؤوسنا أنَّى نسيرْ |
*******
آهٍ! توارى
فَجْرِيَ القدُسيُّ في ليل الدهورْ |
وفنَـــــى, كما
يفنَى النشيدُ الح |
أوّاهُ, قد ضاعت
عليَّ سعادةُ القلب الغريرْ |
وأدوسُ أشواك
الحياة بقلبيَ الدّامي الكسيرْ |
وأرى الأباطيل
الكثيرةَ, والمآثم, والشرورْ |
وتصادُمَ الأهواء
بالأهواء في كل الأمورْ |
ومَذَلّةَ الحقِّ
الضعيفِ, وعزّةَ الظلم القديرْ! |
وأرى ابنَ آدَمَ
سائرًا في رحْلَةِ العُمُرِ القصيرْ |
مـــــــــا بينَ
أهوال الوجودِ, وتَح |
متسلِّقًا جَبَلَ
الحياةِ الوعْرَ, كالشَّيْخِ الضّريرْ
|
دامي الأكفِّ,
مُمَزّقَ الأقْدَامِ, مُغْبَرَّ الشعورْ
|
مُترنِّحَ
الخطواتِ ما بين المزالق والصُّخورْ |
هالتْهُ أشْباحُ
الظلامِ, وراعهُ صوتُ القبورْ |
ودويُّ إعْصار
الأسى, والموت, في تلك الوُعورْ |
*******
ماذا جنيتُ من
الحياة ومن تجاريب الدُّهورْ |
غـــــــيرَ
الندامةِ والأسى واليأس |
هـــــذا حَصادي
من حقول العالَم |
هذا حَصادي كلُّه,
في يقظة العَهْدِ الأخيرْ |
*******
قـــــــد كنتُ في
زمن الطفولةِ, و |
أحيا كما تحيا
البلابلُ, والجداولُ, والزُّهورْ |
لا نحفل, الدنيا
تدور بأهلها, أو لا تدورْ |
واليـــــــومَ
أحيا مُرْهَقَ الأعْصا |
مُتأجِّجَ
الإحساسِ, أحفلُ بالعظيم, وبالحقيرْ |
تمشــــــي على
قلبي الحياةُ, ويزح |
هذا مصيري, يا
بني, فما أشقى المصيرْ! |
[ 9 يناير / كانون الثاني 1933 ، 12 رمضان 1351 ]
|