دكان القرائين
الصغيرة
نازك
الملائكة - العراق
من ديوان "يُغير ألوانه
البحر "، 1974
في ضباب الحُلْم طوّفتُ مع السارين في سوق عتيقِ
|
غارق في عطر ماء الورد، وامتدّ طريقي
|
وسّع الحُلْم عيوني، رش سُكْرًا في عروقي
|
ثملت روحي بأشذاء التوابلْ
|
بالآنية الغَرْقى الغلائلْ
|
سرقت روحي المراي، واستداراتْ المكاحلْ
|
كنتُ نَشْوى، في ازرقاق الحُلْم أمشي وأسائلْ
|
أين دكّان القرائين الصغيرهْ
|
أشتري من عنده في الحلم قرآنًا جميلاً لحبيبي
|
من مطار الأمس والذكرى حبيبي
|
يتوارى وجهه خلف التواءات الدروبِ
|
**
سيّدي في أي دكّان ترى ألقى القرائين الصغيرهْ
|
أيّ قرآن، سواءٌ أحواشيه حروف ذهبيّهْ
|
أي قرآن؟..... وفي حلمي يقول العابرُ
|
لحظة يا أختُ، قرآنكِ في آخر هذا المنحنى، في (مندلي)
|
فهو دكان القرائين الصغيرهْ
|
وجهه في الحُلْم لونٌ فاترُ...
|
ثم أمضى في الكرى باحثةً عن (مندلي)
|
حيث أبتاعُ بما أملك قرآنًا وأهديه حبيبي
|
حينما يرحلُ عني في غدٍ وجه حبيبي
|
وتغطيه المسافاتُ وأبعاد الدروبِ
|
حيث أبتاع من الدكان قرآنًا صغيرًا لحبيبي
|
ليخبّي ضوءه في صدره بُرْعَم طيبِ
|
**
سرتُ في حلميَ في السوق قريرهْ
|
أسرتْ روحي السجاجيدُ الوثيرهْ
|
وأواني عطرِ ماء الورد، والكعبةُ صورهْ
|
نعستْ ألوانها في حضن حانوتٍ،
|
في دمي شوقٌ لدكان القرائين الصغيرهْ
|
بقرائينَ كثيراتٍ، وأختارُ أنا منه، وأهدي لحبيبي
|
في صباح الغد قرآنً، ويؤويه حبيبي
|
صدرَهُ تعويذةً تدرأ عنه الليلَ والسَّعْلاة في أسْفَارِهِ
|
تزرع اسم الله في رحلته، تسقيه من أسرارِه
|
**
وعلى لهفة أشواق سؤالي ينحنونْ
|
وسّعوا السوقَ زوايا وحدودا
|
كلهم كانوا يشيرون إلى بعض مكانٍ غامض إذ يعبرونْ
|
دكّة في آخر السوق وتُلْفين القرائين الصغيرهْ
|
أطعموا قلبيَ من نكهة كُتْبٍ عنبريّاتِ كثيرهْ
|
بينها ألقى عصافيري القرائين الصغيرهْ
|
واحدًا يحميه من ليل الدروبِ
|
باقةً من زنبق الله، وسُحْبًا ماطرهْ
|
**
سرتُ طول الليل في حلمي، ولكن أين ألقى (مندلي)؟
|
حيرتي أبصرتها طالعة من قعر آلاف المرايا
|
قذفتني الامتداداتُ ومصتني الحنايا
|
وأنا أشرب كوبًا فارغً، والسوق مُجْهَدْ
|
تحت خطوي، ودمي يلهث شوقًا
|
وأنا أعطش في أرض الرؤى، أذرعها غربًا وشرقًا
|
ضاعَ، لا القرآنُ، لا الأشذاء لي
|
ما الذي بعد عطوري، وقرائيني تَبَقَّى
|
**
مرَّ بي في سوق حلمي ألفُ عابرْ
|
كلهم قالوا: - وراء المنحنى التاسع يحيا (مندلي)
|
(مندلي) يا أنهرا من عَسَلِ
|
يا ندًى منتثرًا فوق بيادرْ
|
يا أزاهيرُ من الياقوت نامت في غدائرْ
|
يا هتافاتِ أذان الفجر من فوق منائر
|
وأنا مأخوذة الأشواق أدعوه ولكن لا أراهْ
|
في انبلاج الغَسَق القاني حبيبي
|
انبثق يا عطش السوق انبثق يا (مندلي)
|
في حقول الحلم من ليلى العصيبِ
|
**
أين مني (مندلي)؟ والبائع المصروع من عطر القرائينْ؟
|
ذاهلاً مستغرقًا في حُلُمِ؟
|
ضائعًا هيمان مأخوذًا بأفق مبهمِ
|
يتشاجى، وجدُهُ سُكْرٌ وتلوينْ
|
صاعدًا من ولهٍ في عالم من عنبر مضطرمِ
|
تائهًا من شوقه عَبْرَ بساتينْ
|
عطشات النخل، والقرآن في تمُّوزها أمطار تشرينْ
|
(مندلي) يا ظمأى يا جرح سكّينْ
|
**
وطريقي نحو دكان القرائين الصغيرهْ
|
ذقتُ أسرارَكَ واستبعدتُ كوبي
|
لم أعد أعرف فجري من غروبي
|
وتشوقت لقرآنٍ، على رفّكَ غافٍ،
|
**
يصفون المخزن المنشود: تسري فيه أصداءْ
|
تصرع السامع صرعًا باختلاجاتِ حنينْ
|
لو تذوقتُ العطورَ السارباتِ
|
حول دكان القرائين الصغيرهْ
|
آه لو أمسكتُ في كفّي قرآنً،
|
واحد من ألف قرآن حواليه ضبابٌ،
|
ليس يقوَى قَطُّ إنسانٌ بأن يصغي إليها
|
يسقط الصاحي صريعً، غير واعٍ، ضائعًا في شاطئيها
|
آه لو أني أطبقتُ عليه شفتَيّا
|
آه لو لامستُ رياهُ بأطراف يديّا
|
هو وِرْدى، وامتلائي، ونضوبي
|
والنشيد المحرق المخبوء في قعر دمي، في مقلتيّا
|
**
وانتهى السوقُ وفي حلمي يَئستُ
|
وعلى دكّة آمالي الطعينات جلستُ
|
لم يَعُدْ في السوق من ركن قصيِّ
|
لم أقلّبْهُ... وتاهتْ (مندلي)...
|
غرقَتْ في عمق بحر من ضبابٍ سندسيِّ
|
واختفت في ظل غابات سكونٍ أبديِّ
|
لم يدع يأسيَ حتى سحبة القوس على الأوتار لي
|
ضاع حتى الظلّ مني، وتبقّتْ لي روًى من طَللِ
|
يا عطور الهَيْل والقرآنِ يا وجه نبيِّ
|
يا شراعًا أبيضًا تحت مساء عنبيِّ
|
**
فرغتْ كفّي من القرآنِ غاضتْ في صَحَارايَ المعاصِر
|
وخوى خدّايَ إلاّ من غلالات شحوبي
|
غضة تلمس خدّيهِ كما يلمس عصفورٌ مُهَاجرْ
|
جبهة الأفق برشّات غناءٍ عسليّهْ
|
خاوى الكف من القرآن، من عطر البيادرْ
|
كظهيرات من الحزن عرايا غيهبيّهْ
|
فوداعًا يا قرائيني، وداعًا (مندلي)
|
[ 8 من جمادى الآخرة عام 1394، 28 يونيو/حزيران 1974 ]
|